شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التيمم في الحضر

          ░3▒ بَابُ: التَّيَمُّمِ في الحَضَرِ إِذَا لَمْ يَجِدِ المَاءَ وَخَافَ فَواتَ(1) الصَّلاةِ.
          وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ.
          وَقَالَ الحَسَنُ في المَرِيضِ عِنْدَهُ المَاءُ وَلا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ: يَتَيَمَّمُ.
          وَأَقْبَلَ ابنُ عُمَرَ مِنْ أَرْضِهِ بِالجُرُفِ فَحَضَرَتِ العَصْرُ بِمَرْبَدِ النَّعَمِ فَتَيَمَّمَ(2) ثمَّ دَخَلَ المَدِينَةَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ فَلَمْ يُعِدْ.
          فيهِ: أَبُو جُهَيْمٍ: (أَقْبَلَ النَّبيُّ صلعم مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبيُّ صلعم(3) حتَّى أَقْبَلَ على الجِدَارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثمَّ رَدَّ عَلَيْهِ(4) السَّلَامَ). [خ¦337]
          واختلف العلماء في الحضريِّ يخاف فوات(5) الصَّلاة إن عالج الماء، هل له أن يتيمَّم؟ فقال مالكٌ: يتيمَّم ويُصَلِّي ولا يُعيد، وهو قول الأوزاعيِّ والثَّوْرِيِّ وأبي حنيفةَ ومحمَّدٍ. ورُوِيَ عن مالكٍ: أنَّه يُصَلِّي بالتَّيمُّم ويُعيد الصَّلاة، وهو قول اللَّيْثِ والشَّافعيِّ. و(6) رُوِيَ عن مالكٍ أنَّه يُعالج الماء وإن طلعت الشَّمس، وهو قول أبي يُوسُفَ وزُفَرَ، قالا: لا يُصَلِّي أصلًا ويتعلَّق الفرض بذمَّته إلى أن يقدر على الماء؛ لأنَّه لا يجوز عندهما التَّيمُّم(7) في الحضر، واحتجَّا بأنَّ الله تعالى جعل التَّيمُّم رخصةً للمريض والمسافر، ولم يُبحه إلَّا بشرط(8) المرض والسَّفر، فلا دُخُول للحاضر ولا للصَّحيح في ذلك لخُرُوجهما مِن شرط الله تعالى. واحتجَّ مَن قال: يتيمَّم ويُصَلِّي ويُعيد، قال: لأنَّا(9) قد رأينا مَن يفعل(10) ما أمر به ولا تسقط عنه(11) الإعادة، وهو واقعٌ موقع فسادٍ(12)، مثل مَن أفسد حجَّه و(13) صومه المفترض عليه، فإنَّه مأمورٌ بالمضي فيه فرضٌ عليه، ومع هذا فعليه الإعادة، وأيضًا فإنَّ المسافر والمريض قد أُبيح لهما الفطر في رمضان، ففعلا المأمور به ولم يسقط عنهما القضاء، وكذلك(14) الحاضر إذا تيمَّم وصَلَّى لا يسقط عنه القضاء. واحتجَّ عليه من قال: يتيمَّم ويُصَلِّي ولا يُعيد _وهم أهل المقالة الأولى_ فقالوا: هذا سهوٌ؛ لأنَّ الفطر رخصةٌ لهما ولم يفعلا الصَّوم، والمتيمِّم فعل الواجب وفعل الصَّلاة، فلو رخصَّ له في الخُرُوج من الصَّلاة كما رخصَّ للمسافر في الفطر لوجب عليه القضاء. وأمَّا مِن أفسد حجَّه و(15) صومه فإنما أُمر بالمضي فيه عقوبةً لإفساده له، ثمَّ وجب عليه قضاؤه ليؤدِّي الفرض كما أُمر به. والحاضر إذا تعذَّر عليه الماء وخاف فوت الصَّلاة صار مطيعًا بالتَّيمُّم والصَّلاة ابتداءً، ولم يفسد شيئًا يجب معه عليه(16) القضاء. والحجَّة / لأهل المقالة الأولى في أنَّه لا إعادة عليه ما(17) ذكره البخاريُّ عن ابنِ عُمَرَ أنَّه تيمَّم بمِرْبَدِ النَّعَمِ وهو في طرف المدينة؛ لأنَّه خشي فوت الوقت الفاضل ولم يجد ماءً ثمَّ صلَّى، وهو حُجَّةٌ للحاضر(18) يخاف فوات(19) الوقت كلِّه أنَّه يجوز له التَّيمُّم؛ لأنَّه لما جاز لابنِ عُمَرَ التَّيمُّم والصَّلاة ثمَّ دخل المدينة وقد بقي عليه من الوقت بقيَّةٌ ولم يعد صلاته(20)، كان أحرى أن يجوز(21) التَّيمُّم والصَّلاة للحضريِّ يخاف خُرُوج الوقت كلِّه. قال المُهَلَّبُ: وأمَّا حديث بئر جمل فإنَّ فيه التَّيمُّم في الحضر، إلَّا أنَّه لا دليل فيه أنَّه رفع بذلك التَّيمُّم الحدث رفعًا استباح به الصَّلاة؛ لأنَّه أراد أن يجعله تحيَّةً(22) لردِّ السَّلام، إذ كره أن يذكر الله ╡ على غير طهارةٍ، هكذا رواه حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ في «مصنَّفه» في هذا الحديث. قال المُؤَلِّفُ(23): فذكرت هذا لبعض أهل العلم، فقال(24): وهو وإن كان كما ذكره المُهَلَّبُ فإنَّه يستنبط منه جواز التَّيمُّم في الحضر إذا لم يستطع الوصول إلى الماء وخاف فوات(25) الصَّلاة؛ لأنَّه لمَّا تيمَّم في الحضر لردِّ السَّلام وكان له أنْ يردَّ ◙(26) قبل تيمُّمه، استُدِلَّ منه أنَّه إذا خشي فوات(27) الصَّلاة في الحضر أنَّ له التَّيمُّم، بل ذلك أوكد؛ لأنَّه لا يجوز له الصَّلاة بغير وضوءٍ ولا تيمُّم ويجوز له أن يُسَلِّمَ بغير وضوءٍ ولا(28) تيمُّمٍ(29)، وأيضًا فإنَّ التَّيمُّم إنَّما ورد في المسافرين والمرضى لإدراك وقت الصَّلاة وخوف فوته، فكلُّ مَن لم يجد الماء وخاف فوت الصَّلاة تيمَّم إن كان مسافرًا أو مريضًا بالنَّصِّ، وإن كان حاضرًا صحيحًا بالمعنى، وهذا دليلٌ قاطعٌ. وقد احتَجَّ الطَّحَاوِيُّ بهذا الحديث في جواز التَّيمُّم للجنازة إذا خاف فوت الصَّلاة عليها، وهو قول الكوفيين واللَّيْثِ والأوزاعيِّ.
          قال الطَّحَاوِيُّ: فتيمَّم ◙ لردِّ السَّلام في المصر وهو فرضٌ لخوف الفوت؛ لأنَّه لو فعل بعد التَّراخي لم يكن جوابًا. فإن قيل: ليست الطَّهارة شرطًا في صحَّة ردِّ السَّلام، قيل: قد ثبت لهذه الطَّهارة حكمٌ لولاه لم يفعلها النَّبيُّ صلعم ولو لم يكن ثبت حكم(30) التَّيمُّم في هذه الحالة لما فعله النَّبيُّ صلعم، ومنع مالكٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ بنُ حَنْبَلٍ الصَّلاة على الجنائز(31) بالتَّيمُّم(32). قال ابنُ القَصَّارِ: وفي تيمُّم النَّبيِّ صلعم بالجدار ردٌّ على أبي يُوسُفَ والشَّافعيِّ(33) في قولهما: إنَّ التُّراب شرطٌ في صحَّة التَّيمُّم؛ لأنَّه صلعم تيمَّم بالجدار، ومعلومٌ أنَّه لم يعلق بيده منه ترابٌ إذ(34) لا تراب على الجدار، وقد تقدَّم في بابِ ما يقولُ عندَ الخلاءِ زيادةٌ في معنى تركه ◙ لردِّ السَّلام حتَّى(35) تيمَّم(36) بالجدار، كرهنا تكراره(37) فتأمَّله هناك إن شاء الله تعالى(38) [خ¦142].
          والمِرْبَدُ والجَرِيْنُ والبَيْدَرُ(39): الأَنْدَرُ.


[1] في (م): ((فوت)).
[2] زاد في (م): ((ثمَّ صلَّى)).
[3] في (ص): ((فلم يرد النبي ◙)).
[4] قوله ((عليه)) ليس في (م).
[5] في (م): ((فوت)).
[6] زاد في (م): ((قد)).
[7] في (م): ((لا يجوز عندهم التَّيمُّم))، وفي المطبوع و(ص): ((لا يجوز التَّيمُّم عندهما)).
[8] في (ص): ((بشرطه)).
[9] في (م): ((إنَّا)).
[10] في (م): ((فعل)).
[11] في (م): ((ولم تسقط معه)).
[12] في (م): ((الفساد)).
[13] في المطبوع: ((أو)).
[14] في (ص): ((كذلك)).
[15] في المطبوع: ((أو)).
[16] قوله ((عليه)) ليس في (م).
[17] زاد في (م): ((في أنَّه لا يجب إعادة ما)).
[18] في (م): ((للحضر)).
[19] في (ص): ((فوت)).
[20] في المطبوع و(ص): ((الصَّلاة)).
[21] في (م): ((يحرز)).
[22] في (م): ((تحلة)).
[23] قوله ((قال المؤلِّف)) ليس في (م).
[24] زاد في المطبوع و(م) و(ص): ((لي)).
[25] في (م): ((فوت)).
[26] قوله ((السَّلام)) ليس في (م).
[27] في (ص): ((فوت)).
[28] قوله ((لا)) ليس في (م).
[29] قوله: ((ويجوز له أن يُسَلِّمَ بغير وضوءٍ ولا تيمُّم)) ليس في المطبوع.
[30] في (ص): ((فعل)).
[31] في (ص): ((الجنازة)).
[32] قوله ((وقد احتَجَّ الطَّحَاوِي بهذا الحديث في جواز التَّيمُّم للجنازة... إلى قوله... ومنع مالكٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ بن حنبلٍ الصَّلاة على الجنائز بالتَّيمُّم)) ليس في (م).
[33] في (م): ((على الشَّافعيِّ وأبي يوسف)).
[34] في (م): ((يتعلَّق بيديه منه شيءٌ إذا)).
[35] في المطبوع: ((حين)).
[36] في (م): ((يتيمَّم)).
[37] قوله ((كرهنا تكراره)) ليس في (م).
[38] قوله ((إن شاء الله تعالى)) ليس في (م).
[39] في (م): ((والمربد والبيدر والجرن)).