شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الكفارة قبل الحنث وبعده

          ░10▒ بَابُ الكَفَّارَةِ قَبْلَ الحِنْثِ وَبَعْدَهُ
          فيهِ حديثُ أبي مُوسَى، إلى قوله ◙: (إِنِّي وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لا أَحْلِفُ على يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا). [خ¦6721]
          وفيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا تَسَلِ(1) الإمَارَةَ...) إلى قوله: (وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَائتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ). [خ¦6722]
          اختلف العلماء في جواز الكفَّارة قبل الحنث، فقال رَبِيْعَةُ ومالكٌ والثَّوْرِيُّ واللَّيْثُ(2) والأَوْزَاعِيُّ: تجزئ(3) قبل الحنث، وبه قال أحمدُ وإِسْحَاقُ وأبو ثَوْرٍ، ورُوِيَ مثله عن ابن عبَّاسٍ وعائشةَ وابن عُمَرَ.
          وقال الشَّافعيُّ: يجوز تقديم الرَّقبة والكسوة والإطعام(4) قبل الحنث، ولا يجوز تقديم الصَّوم، وقال أبو حنيفةَ وأصحابه: لا تجزئ الكفَّارة(5) قبل الحنث.
          قال ابن القَصَّارِ(6): ولا سلف لأبي حنيفةَ في ذلك.
          واحتجَّ له الطَّحَاوِيُّ بقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}[المائدة:89]والمراد إذا حلفتم(7) فحنثتم.
          ولم يذكر البخاريُّ في حديث أبي مُوسَى ولا في حديث عبد الرَّحمنِ بنِ(8) سَمُرَةَ في هذا الباب تقديم الكفَّارة قبل الحنث، وقد ذكر ذلك في باب الاستثناء في الأيمان [خ¦6718]، وفي أوَّل كتاب الأيمان(9) [خ¦6621]، وهو قوله ◙: ((إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِيْنِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، أَوْ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِيْنِي)).
          وقال ابن المُنْذِرِ: قد قال بعض أصحابنا: إنَّه ليس في اختلاف ألفاظ هذه الأحاديث إيجابٌ لتقديم أحدهما على الآخر، إنَّما أُمر الحالف بأمرين: أُمر بالحنث والكفَّارة، فإذا أتى بهما جميعًا فقد أطاع وفعل ما أُمر به كقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلّهِ}[البقرة:196]فأيُّهما قدَّم على الآخر فقد أتى بما عليه، كذلك إذا أتى بالَّذي هو خيرٌ، وكفَّر، فقد أتى بما عليه.
          قال ابن القَصَّارِ: وقد رأى جواز تقديم الكفَّارة قبل الحنث أربعة عشر مِنَ الصَّحابة، وهم: ابنُ مَسْعُودٍ وعائشةُ وابنُ عبَّاسٍ وابنُ عُمَرَ وأبو الدَّرْدَاءِ وأبو أَيُّوبَ وأبو مُوسَى وأبو مَسْعُودٍ وحُذَيْفَةُ وسَلْمَانُ(10) ومَسْلَمَةُ بن مَخْلَدٍ(11) وابنُ الزُّبَيْرِ(12) ومَعْقِلٌ، ورجلٌ لم يُذكر، وبعدهم مِنَ التَّابعين: سَعِيْدُ بن المُسَيَّبِ وعَطَاءٌ وطاوسٌ وسَعِيْدُ بن جُبَيْرٍ والحَسَنُ وابنُ سِيرِينَ وعَلْقَمَةُ والنَّخَعِيُّ والحَكَمُ بن عُيَيْنَةَ(13) ومَكْحُولٌ.
          فهؤلاء أعلام أئمَّة الأمصار، ولا نعلم لهم مخالفًا(14) إلَّا أبا حنيفةَ، على أنَّ أبا حنيفةَ يقول ما هو أعظم من تقديم الكفَّارة، وذلك لو أن رجلًا أخرج عنزًا مِنَ الظَّبَاءِ مِنَ الحرم، فولدت له أولادًا ثمَّ ماتت في يده هي وأولادها، أنَّ عليه الجزاء عنها وعن أولادها، وإن كان حين أخرجها أدَّى جزاءها ثمَّ ولدت أولادًا(15) ثمَّ ماتت هي وأولادها لم يكن عليه فيها ولا في أولادها شيءٌ.
          ولا شكَّ أنَّ الجزاء الَّذي أخرجه عنها وعن أولادها كان قبل أن تموت هي وأولادها، ومن قال هذا لم ينبغِ له أن يُنكر تقديم الكفَّارة قبل الحنث.
          وأمَّا قوله: تقدير الآية: ذلك كفَّارة أيمانكم إذا حلفتهم فحنثتم، فتقدير الآية عندنا: ذلك كفَّارة أيمانكم إذا حلفتم(16) فأردتم أن تحنثوا.
          وأمَّا قول الشَّافعيِّ: لا يجوز تقديم الصِّيام على الحنث، فيرد عليه قوله ◙: ((فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنِهِ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ)) ولم يخصَّ شيئًا مِنْ جنس الكفَّارة / في جواز التَّقديم، فإن قال: إنَّ الصِّيام مِنْ حقوق الأبدان، ولا يجوز تقديمها قبل وقتها(17) كالصَّلاة، والعتق والكسوة والإطعام مِنْ حقوق الأموال فهي كالزَّكاة يجوز تقديمها.
          قيل له(18): ليس كلُّ حقٍّ يتعلَّق بالمال يجوز تقديمه قبل وقته، ألا ترى أنَّ كفَّارة القتل وجزاء الصَّيد لا يجوز تقديمه قبل وجوبه، وقد جاز تقديم العتق والإطعام والكسوة في كفَّارة اليمين قبل وجوبه، فكذلك يجوز تقديم صيامها.
          وقال الأَبْهَرِيُّ: وأمَّا جواز تقديم(19) ذلك مِنْ طريق النَّظر فلأنَّ عقد اليمين لمَّا كان يحلُّه الاستثناء إذا اتَّصل باليمين وإنَّما(20) هو قول كانت الكفَّارة بأن تحلَّ عقد اليمين أولى، لأنَّها أقوى، لأنَّها ترفع حكم الحنث حتَّى كأنَّه لم يكن، فكذلك ترفع حكم العقد حتَّى كأنَّه لم يكن(21)، وتشبيهه الإطعام والكسوة والعتق بالزَّكاة يجوز تقديمها فغير صحيحٍ، لأنَّ الزَّكاة لمَّا كان وجوبها معلَّقًا بوقت لم يجز تقديمها، كما لا يجوز في الصَّلاة والصِّيام، ووقت الكفَّارة غير معلَّقٍ(22) بوقتٍ، وإنَّما(23) هو على حسب ما يريده المكفِّر من الحنث، فكان فعلها جائزًا قبل الحنث وبعده.


[1] في المطبوع: ((لا تسأل)).
[2] في (ز): ((واللَّيث والثَّوريُّ)).
[3] في (ز) صورتها: ((يريد)).
[4] في (ص): ((والطَّعام)).
[5] في (ز): ((لا تجوز في الكفَّارة)).
[6] قوله: ((قال ابن القصَّار)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((والمراد إذا حلفتم)) ليس في (ز).
[8] قوله: ((عبد الرَّحمن بن)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((وقد ذكر ذلك في كتاب الإيمان)).
[10] في (ص): ((وسليمان)).
[11] في المطبوع: ((مخالد)).
[12] قوله: ((وابن الزُّبير)) ليس في (ص).
[13] في المطبوع: ((عتيبة)).
[14] في (ز): ((مخالفًا)).
[15] في (ز): ((أولادًا)).
[16] قوله: ((فحنثتم فتقدير، الآية عندنا: ذلك كفَّارة أيمانكم إذا حلفتم)) ليس في (ص).
[17] في (ص): ((من حقوق وبدن، هو من كان وقتها)).
[18] قوله: ((له)) ليس في (ز).
[19] قوله: ((تقديم)) ليس في (ز).
[20] في (ز): ((فإنَّما)).
[21] قوله: ((فكذلك ترفع حكم العقد حتَّى كأنَّه لم يكن)) ليس في (ص).
[22] في (ز): ((معلوم)).
[23] في (ص): ((فإنَّما)).