شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب صاع المدينة ومد النبي

          ░5▒ بَابُ صَاعِ المَدِينَةِ وَمُدِّ النَّبِيِّ صلعم وَبَرَكَتِهِ وَمَا تَوَارَثَ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ.
          فيهِ السَّائِبُ: قَالَ: كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلعم مُدًّا وَثُلُثًا(1) بِمُدِّكُمُ اليَوْمَ، فَزِيدَ فِيهِ في زَمَنِ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ. [خ¦6712]
          وفيهِ ابنُ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي زَكَاةَ رَمَضَانَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلعم المُدِّ الأوَّلِ، وفي كَفَّارَةِ اليَمِينِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلعم. [خ¦6713]
          وَقَالَ مَالِكٌ: لَوْ جَاءَكُمْ أَمِيرٌ فَضَرَبَ(2) مُدًّا أَصْغَرَ مِنْ مُدِّ النَّبِيِّ صلعم بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُعْطُونَ؟ قُلْنَا: كُنَّا نُعْطِي بِمُدِّ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: أَفَلا تَرَى أَنَّ الأمْرَ إِنَّمَا يَعُودُ إلى مُدِّ النَّبِيِّ صلعم.
          وفيهِ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم(3): (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ في مِكْيَالِهِمْ وَمُدِّهِمْ(4) وَصَاعِهِمْ). [خ¦6714]
          قولُه(5): (كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلعم مُدًّا وَثُلُثًا(6)) يدلُّ أنَّ مُدَّهُم كانَ(7) ذلكَ الوقتِ حينَ حَدَّثَ بِه السَّائِبُ وزنُه أربعةَ أرطالٍ، فإذا(8) زيدَ عليه ثُلُثُه، وذلكَ رطلٌ وثلثٌ قامَ منهُ خمسةُ أرطالٍ وثُلُثٍ، وهوَ الصَّاعُ بدليلِ أنَّ مدَّ النَّبيِّ صلعم فيه رطلٌ وثُلُثٌ، وصاعُه أربعةُ أمدادٍ بمدِّه ◙، وأمَّا مقدارُ ما زيدَ فيهِ في زمنِ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ فلا يُعْلَمُ ذلكَ إلَّا بخبرٍ.
          وقولُه: (إنَّ ابنَ عُمَرَ كانَ يُعطِي زكاةَ رمضانَ وفي كفَّارةِ اليمينِ بمُدِّ النَّبيِّ صلعم الأوَّلِ)، فإنَّما وصفَ مُدَّ النَّبيِّ صلعم بالأوَّلِ(9) ليُفَرِّقَ بينَه وبينَ مُدِّ هِشَامٍ الحادثِ الَّذي أحدثَه أهلُ المدينةِ في كفَّارةِ الظِّهَارِ لتغليظِها(10) على المتظاهرِين الَّذين شهدَ اللهُ عليهمِ(11) أنَّهم يقولُونَ منكرًا مِنَ القولِ وزورًا، فجعلُوها بمُدِّ هِشَامٍ، وهوَ أكبرُ مِنْ مُدِّ النَّبيِّ صلعم بثُلُثَي مُدٍّ، ولمْ يكنْ للنَّبيِّ صلعم إلَّا مُدٌّ واحدٌ، وهوَ الَّذي نقلَه أهلُ المدينةِ وعَمِلَ بِه النَّاسُ إلى اليومِ.
          والفقهاءُ على قولَين في كفَّارةِ الأَيمانِ، فطائفةٌ تقولُ: إنَّ الكفَّاراتِ كلَّها بمُدِّ النبَّيِّ صلعم مُدٌّ مُدٌّ لكلِّ مسكينٍ، وكذلكَ الإطعامُ على مَنْ(12) فَرَّطَ في صيامِ(13) رمضانَ حتَّى يأتي رمضانُ آخرُ، وهوَ قولُ مالكٍ والشَّافعيِّ على ما ثبتَ في هذه الأحاديثِ وحديثِ الواقعِ على أهلِه في رمضانَ.
          وقالَ أهلُ العراقِ: الكفَّاراتُ كلُّها مُدَّانِ مُدَّانِ لكلِّ مسكينٍ، قياسًا على ما أجمعُوا عليهِ مِنْ فديةِ الأَذَى في حديثِ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ أنَّ النَّبيَّ صلعم أمرَه أنْ يُطعِمَ كلَّ مسكينٍ نصفَ صاعٍ.
          قالَ المُهَلَّبُ: وإنَّما دَعَا(14) النَّبيُّ صلعم لهم بالبركةِ في مكيالِهم ومدِّهم وصاعِهم(15) فإنَّه خَصَّهم مِنْ بركةِ دعوتِه بما اضطرَّ أهلُ الأرضِ كلَّها إلى أنْ يشخصُوا إلى المدينةِ ليأخذُوا هذا المعيارَ المدعو لَه بالبركةِ، وينقلُوه إلى بلدانِهم، ويكونُ ذلكَ سُنَّةً في معايشِهم وما افترضَه(16) اللهُ عليهم لعيالِهم، وقدْ تَقَدَّمَ في كتابِ الوضوءِ والغسلِ [خ¦201] الحُجَّةُ لمقدارِ مدِّه وصاعِه ◙ بما فيهِ مقنعٌ.


[1] في (ص): ((وثلث)).
[2] زاد في (ص): ((لكم)).
[3] في (ص): ((قال ◙)).
[4] في (ز): ((ومدِّ)).
[5] في (ص): ((وقوله)).
[6] في (ص): ((مدٌّ وثلث)).
[7] قوله: ((كان)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((وإذا)).
[9] في (ص): ((الأوَّل)).
[10] في (ص): ((ليغلظها)).
[11] في (ص): ((شهد عليهم)).
[12] في (ص): ((الإطعام عمَّن)).
[13] قوله: ((صيام)) ليس في (ص).
[14] في (ز): ((وأمَّا دعاء)).
[15] في (ص): ((وصاعهم ومدِّهم)).
[16] في المطبوع: ((ما افترض)).