شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الاستثناء في الأيمان

          ░9▒ بَابُ الاِسْتِثْنَاءِ فِي اليَمِينِ
          فيهِ أَبُو مُوسَى: (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلعم في رَهْطٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ لِنَسْتَحْمِلَهُ(1)، فَقَالَ: وَاللهِ لا أَحْمِلُكُمْ مَا(2) عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ(3)، ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أُتِيَ(4) بِإِبِلٍ، فَأَمَرَ لَنَا بِثَلاثَ(5) ذَوْدٍ، فَقُلْنَا: لا يُبَارِكُ لَنَا، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلعم فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، بَلِ اللهُ حَمَلَكُمْ وإِنِّي إِنْ شَاءَ اللهُ(6) لا أَحْلِفُ على يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرِهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الذي هُوَ خَيْرٌ، أَوْ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي). [خ¦6718]
          وفيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: (قَالَ سُلَيْمَانُ صلعم: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ(7) امْرَأَةً، كُلُّهُنَّ تَلِدُ غُلامًا يُقَاتِلُ في سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ(8) لَهُ صَاحِبُهُ يَعْنِي الْمَلَكَ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَنَسِيَ(9)، فَلَمْ تَأْتِ امرأة مِنْهُنَّ بولد(10) إِلا وَاحِدَةٌ جاءت بِشِقِّ غُلامٍ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تَرَوْنَهُ(11) لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لَهُ في حَاجَتِهِ). [خ¦6720]
          وَقَالَ مَرَّةً: قَالَ النَّبِيُّ صلعم(12): (لَوِ اسْتَثْنَى).
          اختلف العلماء في الوقت الَّذي إذا استثنى فيه الحالف سقطت عنه الكفَّارة، فقال مالكٌ والكوفيُّون والأوزاعيُّ واللَّيثُ والشَّافعيُّ وجمهور العلماء: الثُّنْيَا لصاحبها في اليمين ما كان من ذلك نسقًا يتبع بعضه بعضًا ولم يقطع كلامه قطعًا يشتغل عن الاستثناء ما لم يقم عن مجلسه(13) فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثُنْيَا له.
          وقال الحَسَنُ البصريُّ(14) وطاوسٌ: للحالف الاستثناء ما لم يقم مِنْ مجلسه، وقال قَتَادَةُ: أو يتكلَّم. وقال أحمدُ: يكون له الاستثناء ما دام في ذلك الأمر، وكذلك قال إِسْحَاقُ إلَّا أن يكون سكوتٌ ثمَّ عودٌ إلى الأمر، وعن عَطَاءٍ روايةٌ أخرى: وهو أنَّ له ذلك قدر حلب النَّاقة الغزيرة، وقال سَعِيْدُ بن جُبَيْرٍ: له ذلك بعد أربعة أشهرٍ، وقال مُجَاهِدٌ: ذلك له بعد سنتين. ورُوِيَ(15) عن ابنِ عبَّاسٍ: أن(16) يصحَّ له الاستثناء ولو بعد حينٍ، فقيل: أراد به سَنَةً، وقال ابنُ القَصَّارِ: وقيل: أراد به أبدًا(17)، وروى وَكِيْعٌ عن الأَعْمَشِ عن مُجَاهِدٍ عن ابنِ عبَّاسٍ قال: يستثني في يمينه متى ما ذكر(18)، واحتجَّ بقوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيْتَ}[الكهف:24]. /
          واحتجَّ مَنْ أجاز الاستثناء بعد السُّكوت بما روى قَيْسٌ عن سِمَاكٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عبَّاسٍ(19) أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((واللهِ لَأَغزُوَنَ قُرِيشًا _ثلاثًا_ ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ)).
          قال ابنُ القَصَّارِ: ولا حجَّة في هذا لأنَّ حديث ابن عبَّاسٍ رواه شريكٌ عن سِمَاكٍ(20) عن عِكْرِمَةَ عن النَّبيِّ صلعم، فالحديث مرسلٌ، ولو صحَّ عن ابن عبَّاسٍ لم يرد به إسقاط الحنث، وإنَّما أراد _والله أعلم_ أنَّ الله تعالى أوجب الاستثناء على كلِّ قائلٍ أنَّه يفعل شيئًا بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ}[الكهف:24]يقول: فإذا نسي: إن شاء الله، فليقله أيُّ وقتٍ ذكر(21) ولو بعد سَنَةٍ، حتَّى يخرج بذلك عن المخالفة، لا أنَّه جوَّز(22) هذا في اليمين، ولو صحَّ الخبر عن النَّبيِّ صلعم احتمل أن يكون ناويًا للاستثناء وسكوته(23) ليتذكَّر شيئًا أراده في اليمين حتَّى إذا تمَّمه استثنى، ويجوز أن يكون لانقطاع نَفَسٍ، أو لشيءٍ شغله عن اتِّصال الاستثناء حتَّى يتمكَّن منه.
          ومِنْ حجَّة أهل المقالة الأولى أيضًا قوله ◙: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِيْنٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنِهِ)) ولو أمكنه أن يخرج مِنْ هذه اليمين بقوله: إن شاء الله، لما أوجب(24) كفَّارةً على حانثٍ(25) أبدًا، ولقال له(26) ◙: إذا حلفت على يمينٍ فرأيت غيرها خيرًا منها فاستثن وائت الَّذي هو خيرٌ ولم(27) يذكر كفَّارةً، ولبطل معنى قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}[التحريم:2]وكذلك معنى حديث سُلَيْمَانَ ◙ أن كان حلف بالله ليطوفنَّ على نسائه، فإنَّ الاستثناء بعد يمينه متى أرادها كانت تخرجه مِنَ الحنث، لو كان كما زعم مَنْ خالف أئمَّة الفتوى.
          وقد قيل: إن قوله: (لَأَطُوْفَنَّ) لم يكن يمينًا(28) على ما يأتي بيانه في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
          قال المُهَلَّبُ: وإنَّما جعل الله الاستثناء في اليمين رفقًا منه بعباده في أموالهم، ليوفِّر بذلك الكفَّارة عليهم إذا(29) ردُّوا المشيئة إليه تعالى.
          واختلفوا في الاستثناء في الطَّلاق والعتق، فقال مالكٌ وابنُ أبي ليلى واللَّيْثُ والأوزاعيُّ: لا يجوز فيه الاستثناء ورُوِيَ مثله عن ابن عبَّاسٍ وابن المُسَيَّبِ والشَّعْبِيِّ والحَسَنَ وعَطَاءٍ ومَكْحُولٍ وقَتَادَةَ والزُّهْرِيِّ.
          وأجاز الاستثناء فيهما طاوسٌ والنَّخَعِيُّ والحَكَمُ(30) وروايةٌ عن عَطَاءٍ، وبه قال أبو حنيفةَ وأصحابه والشَّافعيُّ وإِسْحَاقُ، واحتُجَّ لهم بعموم قوله(31) ◙ في حديث سُلَيْمَانَ: ((لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ)) وأنَّ قول الحالف: إن شاء الله، عاملٌ في جميع الأيمان، لأنَّه لم يخصَّ بعض الأيمان مِنْ بعضٍ(32)، فوجب أن يرفع الاستثناء الحنث في الطَّلاق والعتق وجميع الأيمان.
          وحجَّة مَنْ أوجب الطَّلاق والعتق ومنع(33) دخول الاستثناء فيهما، أنَّ الاستثناء لا يكون إلَّا في اليمين بالله وحده، وبذلك ورد الأثر عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((مَنْ حَلَفَ باللهِ ثُمَّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ)) أسنده أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ(34) وكثيرُ بن فَرْقَدٍ وأَيُّوبَ بن مُوسَى عن نَافِعٍ عن ابن عُمَرَ(35) عن النَّبيِّ صلعم، وذكر(36) مالكٌ في «الموطَّأ» عن نَافِعٍ عن ابن عُمَرَ من قوله.
          قال الأَبْهَرِيُّ: فكان ذكره(37) الاستثناء إنَّما هو(38) في اليمين بالله دون غيرها من الأيمان، ولم يجز تعدِّي ذلك إلى غيرها بغير دليلٍ، وأمَّا من جهة القياس، فلمَّا كان الطَّلاق والعتق(39) لا تحلُّه الكفَّارة الَّتي هي العتق والإطعام والكسوة، وهي أقوى فعلًا وأغلظ على النُّفوس مِنَ الاستثناء الَّذي هو القول(40) لم يحلَّه القول، لأنَّ ما لا يحلُّه الأوكد لم(41) يحلَّه الأضعف، ولا تعلُّق لهم بحديث سُلَيْمَانُ، لأنَّ ظاهر قوله: (لَأَطُوْفَنَّ) لم يكن معه يمينٌ، وإنَّما كان قولًا جعل فيه المشيئة لنفسه حين لم يقل: إن شاء الله، فعاقبه الله بالحرمان، كما قال تعالى لمُحَمَّدٍ نَبِيِّه(42): {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ}[الكهف:23-24]وأدَّب عباده بذلك ليتبرَّؤوا إليه تعالى من الحول والقوَّة، ولم يكن قول سُلَيْمَانَ ◙ يمينًا بالله يوجب عليه الكفَّارة فتسقط عنه بالاستثناء(43).
          فإن قيل: قوله ◙: (لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ) يدلُّ أنَّه كان يمينًا. قيل: معنى قوله: (لَمْ يَحْنَثْ) لم يأثم / على تركه استثناء مشيئة الله تعالى، فلمَّا أعطى لنفسه الحول عاقبه الله بالحرمان وخيَّبه(44)، فكأنَّه تحنيثٌ لقوله، والحنث في لسان العرب: الإثم.
          ومَنْ لم يردَّ المشيئة(45) إلى الله تعالى في جميع أموره(46) فقد أثم وحرج، والحنث أيضًا أن لا يبرَّ ولا يصدق(47).
          ووقع في رواية أبي زَيْدٍ: ((48) بِشَائِلٍ) مكان قوله: (بِإِبِلٍ) وأظنُّه ((بِشَوَائِلَ)) إن صحَّت الرِّواية، وقال(49) أبو عُبِيْدٍ عن الأَصْمَعِيِّ: إذا أتى على النَّاقة من يوم حملها سبعة أشهرٍ جفَّ(50) لبنها، فهي حينئذٍ(51) شَائِلٌ، وجمعها: شوائلُ. وفي كتاب «العين»: ناقةٌ(52) شائلةٌ، ونوقٌ شُوَّلٌ للَّتي خفَّت ألبانها(53). وشوِّلت(54) الإبل: لزقت بطونها بظهورها.


[1] في (ص): ((أستحمله)).
[2] في (ص): ((وما)).
[3] قوله: ((ما عندي ما أحملكم)) ليس في (ز).
[4] في (ص): ((ما شاء الله فأتي)).
[5] في (ص): ((بثلاثة)).
[6] في المطبوع: ((بَلِ اللهُ حَمَلَكُمْ إِنِّي وَاللهِ، إِنْ شَاءَ اللهُ))، في (ص): ((وإنِّي والله إن شاء لله)).
[7] في (ص) تحتمل: ((سبعين)).
[8] في (ص): ((قال)).
[9] زاد في المطبوع: ((فطاف بهنَّ)).
[10] في (ز): ((فلم تأت منهنَّ)).
[11] في (ز) صورتها: ((يرويه)).
[12] في (ص): ((قال ◙)).
[13] قوله: ((ما لم يقم عن مجلسه)) ليس في (ز).
[14] قوله: ((البصريُّ)) ليس في (ز).
[15] زاد في (ص): ((ذلك)).
[16] في (ص): ((أنَّه قال)).
[17] في (ز): ((وقيل: أنَّه أراد أبدًا)).
[18] في (ص): ((متى ذكر)).
[19] في (ص): ((واحتجَّ من أجاز الاستثناء بعد السَّبب أنَّ ذلك سبب الحال إلى عكرمة عن ابن عبَّاسٍ)).
[20] قوله: ((عن سماكٍ)) ليس في (ص).
[21] في (ص): ((ذكره)).
[22] في المطبوع: ((يجوز)).
[23] في (ص): ((يكون تأويلًا لئلَّا ينسى وسكوته)).
[24] في (ز): ((لما أوجب الله)).
[25] في (ز): ((حالف)).
[26] قوله: ((له)) ليس في (ز).
[27] في (ص): ((منها استثني ولم)).
[28] في (ص): ((يمين)).
[29] في (ص): ((إذ)).
[30] في (ص): ((والحسن)).
[31] في (ص): ((واحتجَّ لهم بقوله)).
[32] في (ز): ((بعضها)).
[33] زاد في (ز): ((من)).
[34] في (ص): ((السِّجستانيُّ)).
[35] زاد في المطبوع: ((في اليمين)).
[36] في المطبوع: ((وذكره))، في (ص): ((ذكره)).
[37] زاد في (ص): ((في)).
[38] في (ز): ((هي)).
[39] في (ز): ((العتق والطَّلاق)).
[40] في (ص) صورتها: ((العدل)).
[41] في (ز): ((لا)).
[42] في (ز): ((كما قال الله تعالى لمُحَمَّدٍ صلعم)).
[43] في (ز): ((فتسقط عنه الاستثناء)).
[44] في (ص): ((لم يحنث لم يأثم على... وقوله صلعم لأغزونَّ قريشًا قريبًا... منه بالحرمان وخيَّبه)).
[45] في (ص): ((فكأنَّه تحنث بذلك في نفسه وإن كان إلى من يشاء الله...)).
[46] في (ز): ((الأمور)).
[47] في (ص): ((فقد أثم وحرج، وهو في المسجد الحرام...)).
[48] زاد في (ز): ((ثمَّ أتى)).
[49] في (ز): ((قال)).
[50] في (ز): ((خفَّ)).
[51] في (ز): ((يومئذٍ)).
[52] قوله: ((شائل، وجمعها: شوائل، وفي كتاب «العين»: ناقة)) ليس في (ز).
[53] في المطبوع: ((للَّتي جفَّ لبنها))، وفي (ص): ((الَّتي جفَّ لبنها)).
[54] في (ز): ((قال وشوَّلت)).