عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

حديث أبي رافع: الجار أحق بسقبه
  
              

          6977- (ص) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الشَّرِيدِ قَالَ: جَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِي، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى سَعْدٍ، فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ لِلْمِسْوَرِ: أَلَا تَأْمُرُ هَذَا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنِّي بَيْتِي الَّذِي فِي دَارِي؟ فَقَالَ: لَا أَزِيدُهُ عَلَى أَرْبَعِ مِئَةٍ؛ إمَّا مُقَطَّعَةٍ وإمَّا مُنَجَّمَةٍ، قَالَ: أُعْطِيتُ خَمْسَ مِئَةٍ نَقْدًا، فَمَنَعْتُهُ، وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» مَا بِعْتُكَهُ _أَوْ قَالَ: مَا أَعْطَيْتُكَهُ_ قُلْتُ لِسُفْيَانَ: إِنَّ مَعْمَرًا لَمْ يَقُلْ هَكَذَا، قَالَ: لَكِنَّهُ قَالَ لِي هَكَذَا.
          (ش) مطابقته للجزءِ الثاني مِنَ الترجمة.
          و(عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الله) هو ابن المدينيِّ، و(سُفْيَانُ) هو ابن عُيَيْنة، و(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ) ضدُّ (الميمَنة) الطائفيُّ، و(عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ) بفتح الشين المُعْجَمة وكسر الراء وسكون الياء آخِرَ الحروف وبالدال المُهْمَلة، الثَّقَفيُّ، و(المِسْوَرُ) بكسر الميم وسكون السين المُهْمَلة وبالواو ثُمَّ بالراء (ابْنُ مَخْرَمَة) بفتح الميم وسكون الخاء المُعْجَمة، ابن نوفل القرشيُّ، وُلِدَ بِمَكَّةَ بعد الهجرة بسنتين، وقُدِمَ به المدينةَ في عقِبِ ذي الحجَّة سنة ثمانٍ، وقُبِضَ النَّبِيُّ صلعم وهو ابنُ ثمان سنين، وسمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلعم وحفِظَ عنه، وفي حِصار الحُصَين بن نُمَير مكَّة لقتال ابن الزُّبَير أصابه حجرٌ مِن حَجَر المنجنيق وهو يُصلِّي في الحِجْر فقتله، وذلك في مُستَهلِّ ربيع الأَوَّل، سنة أربع وسِتِّين، وصلَّى عليه ابنُ الزُّبَير بالحَجُون وهو ابنُ اثنتَينِ وستِّين، وأبوه مَخرَمةُ مِن مَسْلَمَة الفتح، وهو أحد المؤلَّفة قلوبُهم، وممَّن حسُنَ إسلامُه منهم، مات بالمدينة سنة أربعٍ وخمسينَ وقد بلغ مئة سنةٍ وخمسَ عشرةَ سنةً، و(سَعْدٌ) هو ابن أبي وَقَّاص، وهو خال المِسوَر المذكور، و(أَبُو رافِعٍ) مولى رسول الله صلعم ، واسمه أسلَم القبطيُّ.
          قوله: (أَلَا تَأْمُرُ هَذَا؟) يعني: سعدَ بن أبي وَقَّاص، والمراد أن يسأله أو يشيرَ عليه، قال الكَرْمانيُّ: وفيه: أنَّ الأمر لا يُشترَط فيه العلوُّ ولا الاستعلاء.
          قوله: (بَيْتِي الَّذِي فِي دَارِي) كذا في رواية الأكثرين بالإفراد، وفي رواية الكُشْميهَنيِّ: <بيتيَّ اللَّذينِ> بالتثنية.
          قوله: (إمَّا مُقَطَّعَةٍ وإمَّا مُنَجَّمَةٍ) ويُروى: <مُقَطَّعَة أَوْ مُنَجَّمَة> بالشكِّ مِنَ الراوي، والمراد أنَّها مؤجَّلة على نقداتٍ مُفرَّقة، و(النَّجم) الوقت المعيَّن المضروب.
          قوله: (أُعْطِيتُ) على صيغة المجهول، والقائلُ هو أبو رافع.
          قوله: (بِسَقْبِهِ) ويُروى: <بصَقَبِه> بالصاد، بفتحِ القافِ وسكونِها، وهو القرب، يقال: سَقِبَت داره؛ بالكسر، والمنزِل سَقبٌ، والساقب: القريب، ويقال للبعيد أيضًا، جعلوه مِنَ الأضداد، وقال إبراهيمُ الحربيُّ في كتاب «غريب الحديث»: «الصقب» بالصاد: ما قرُبَ مِنَ الدار، ويجوز أن يقال: «سَقْب» بالسين، واستدلَّ به أصحابنا أنَّ للجار الشفعةَ بعد الخليط في نفسِ المَبيع؛ وهو الشريك، ثُمَّ للخليط في حقِّ المبيع؛ كالشِّرب _بالكسر_ / والطريق، وهو حجَّةٌ على الشافعيِّ حيث لم يُثبِت الشُّفعة للجار.
          قوله: (مَا بِعْتُكَهُ) أي: الشيءَ، وفي رواية المُسْتَمْلِي: <ما بِعْتُ > بحذف المفعول.
          قوله: (أَوْ قَالَ: مَا أَعْطَيْتُكَهُ) شكٌّ مِنَ الراوي، قيل: هو سفيان، ويروى: <ما أعطيتُك> بحذف الضمير.
          قوله: (قُلْتُ لِسُفْيَانَ) القائل هو عليُّ بن عبد الله شيخ البُخَاريِّ.
          قوله: (إِنَّ مَعْمَرًا لَمْ يَقُلْ هَكَذَا) يشيرُ به إلى ما رواه عبد الله بن المبارك عن مَعمَرٍ عن إبراهيم بن مَيْسَرة عن عَمْرو بن الشَّريد عن أبيه بالحديث دون القصَّة، أخرجه النَّسائيُّ وابن ماجه عن حُسَين المعلِّم عن عَمْرو بن الشَّريد عن أبيه: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله؛ أرضي ليس فيها لأحدٍ شِركٌ ولا قسمٌ إلَّا الجوار، فقال: «الجارُ أحقُّ بسَقَبِه ما كان»، وأخرجه الطَّحَاويُّ أيضًا، وهذا صريحٌ بِوجوبِ الشُّفعة لجوارٍ لا شِركةَ فيه انتهى.
          قُلْت: الشَّريد بن سُوَيد الثَّقَفيُّ، عِدادُه في أهل الطائف، له صحبةٌ مِنَ النَّبِيِّ صلعم ، ويقال: إنَّهُ مِن حَضرَمَوت، ويقال: إنَّهُ مِن هَمْدان، حليفٌ لثَقيف، روى عنه عَمْرٌو، والمرادُ على هذا بالمخالفةِ إبدالُ الصحابيِّ بصحابيٍّ آخر، وقال الكَرْمانيُّ: يريد أنَّ مَعمَرًا لم يقل هكذا _أي: «إنَّ الجار أحقُّ»_ بل قال: «الشُّفعة» بزيادة لفظ: «الشفعة» ورُدَّ عليه بأنَّ الذي قاله لا أصلَ له، ولم يُعلَم مستندُه فيه ما هو؟ بل لفظ معمرٍ: «الجارُ أحقُّ بصقبه» كرواية أبي رافع سواء.
          قوله: (قَالَ: لَكِنَّهُ) أي: قال سُفيان: لكنَّ إبراهيم بن مَيسَرة (قالَ لِي هَكَذَا) وحكى التِّرْمِذيُّ عن البُخَاريِّ أنَّ الطريقين صحيحانِ، والله أعلم.
          (ص) وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الشُّفْعَةَ فَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ حَتَّى يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ، فَيَهَبُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الدَّارَ، وَيَحُدُّهَا وَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ، وَيُعَوِّضُهُ الْمُشْتَرِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلَا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ.
          (ش) هذا تشنيعٌ على الحَنَفيَّة بلا وجهٍ على ما نذكره.
          قوله: (أَنْ يَبِيعَ الشُّفْعَةَ) مِنَ البيع، قال الكَرْمانيُّ: لفظ «الشفعة» مِنَ الناسخ، أو المراد لازمُ البيع؛ وهو الإزالة.
          قُلْت: في رواية الأصيليِّ وأبي ذرٍّ عن غير الكُشْميهَنيِّ: <إذا أراد أن يقطع الشفعة> ويُروى: <إذا أراد أن يمنع الشُّفعة>.
          قوله: (وَيَحُدُّهَا) أي: يصفُ حدودها التي تُميِّزُها، وقال الكَرْماني: ويُروى في بعض النُّسَخ: <ونحوها> وهو أظهرُ، وإِنَّما سقطت الشفعة في هذه الصورة لأنَّ الهِبةَ ليست معاوضةً محضةً، فأشبهت الإرث.