عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب في الهبة والشفعة
  
              

          ░14▒ (ص) بابٌ فِي الْهِبَةِ وَالشُّفْعَةِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ فيما يكره مِنَ الاحتيال في الرجوع عن الهبة والاحتيال في إسقاط الشُّفْعَة.
          (ص) وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ وَهَبَ هِبَةً أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى مَكَثَ عِنْدَهُ سِنِينَ، وَاحْتَالَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِيهَا، فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَخَالَفَ الرَّسُولَ فِي الْهِبَةِ وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ.
          (ش) أراد به التَّشنيع أيضًا على أبي حنيفة مِن غير وجهٍ؛ لأنَّ أبا حنيفة [في أيِّ موضعٍ قال هذه المسألة على هذه الصورة؟! بل الذي قاله أبو حنيفة] أنَّ الواهبَ له أن يرجعَ في هِبتِه، ولكنْ لصحَّة الرجوع قيودٌ؛ الأَوَّل: أن يكون أجنبيًّا, والثاني: أن يكون قد سلَّمها إليه؛ لأنَّه قبل التسليم يجوز مطلقًا, والثالث: ألَّا يقترن بشيءٍ مِن الموانع، وهي مذكورة في موضعها، واستدلَّ في جواز الرجوع بقوله صلعم : «الواهبُ أحقُّ بهبته ما لم يُثَب منها» أي: ما لم يُعوَّض، رواه أبو هُرَيْرَة وابن عَبَّاس وابن عمر ♥ .
          أَمَّا حديث أبي هُرَيْرَة فأخرجه ابن ماجه في «الأحكام» مِن حديث عَمْرو بن دينار عن أبي / هُرَيْرَة, وأَمَّا حديث ابن عَبَّاس, فأخرجه الطَّبرانيُّ مِن حديث عطاء عنه قال: قال رسول الله صلعم : «مَن وَهَبَ هبةً فهو أحقُّ بهبته ما لم يُثَب منها», وأَمَّا حديث ابن عمر فأخرجه الحاكم مِن حديث سالم بن عبد الله يُحدِّث عن ابن عمر: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: «من وهب هبة فهو أحقُّ بها ما لم يثب منها», وقال: حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه، فكيف يحلُّ أن يقال في حقِّ هذا الإمام الذي عِلْمُه وزُهدُه لا يحيط بهما الواصفون أنَّهُ خالف الرسول؟ وكيف خالفه وقد احتجَّ فيما قاله بأحاديث هؤلاء الثلاثة مِن الصحابة الكبار؟ وأَمَّا الحديث الذي احتجَّ به مخالفوه وهو ما رواه البُخَاريُّ الذي يأتي الآن، ورواه أيضًا الجماعة غير التِّرْمِذيِّ: عن قتادة عن سعيد بن المسيِّب عن ابن عَبَّاس عن النَّبِيِّ صلعم قال: «العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه»، فلم يُنكره أبو حنيفة, بل عَمِلَ بالحديثين معًا , فعمل بالحديث الأَوَّل في جواز الرجوع, وبالثاني في كراهة الرجوع واستقباحه، لا في حرمة الرجوع كما زعموا، وقد شبَّه النَّبِيُّ صلعم رجوعَه بِعَود الكلب في قيئه، وفِعْلُ الكلب يوصف بالقُبْح, لا بالحرمة وهو يقول به؛ لأنَّه مستقبَحٌ، ولقائل أن يقول: للقائل الذي قال: إنَّ أبا حنيفة خالف الرسول: أنت أيضًا خالفْتَ الرسولَ في الحديث الذي يحتجُّ به على عدم الرجوع؛ لأنَّ هذا الحديث يعمُّ مَنْعَ الرجوع مطلقًا سواء كان الذي يرجع منه أجنبيًّا أو والدًا له.
          فَإِنْ قُلْتَ: روى أصحاب السُّنن الأربعة عن حسين المعلِّم, عن عَمْرو بن شُعَيْب, عن طاوُوس, عن ابن عُمَر وبن عَبَّاس ♥ ، عن النَّبِيِّ صلعم قال: «لا يحلُّ لرجلٍ أن يُعطي عطيَّةً أو يَهَب هِبةً فيرجع فيها إلَّا الوالد فيما يُعطي وَلَدَه».
          قُلْت: هذا بناء على أصلهم أنَّ للأب حقُّ التملُّك في مال الابن؛ لأنَّه جزؤُه، فالتمليك منه كالتمليك مِن نفسه مِن وجه.
          قوله: (وَاحْتَالَ فِي ذَلِكَ) فسَّره بعضهم بقوله: بأَنْ تواطأ مع الموهوب له على ذلك.
          قُلْت: لم يقل أحدٌ مِن أصحاب أبي حنيفة: إنَّ أبا حنيفة أو أحدًا مِن أصحابه قال ذلك، وإِنَّما هذا اختلاقٌ لتمشية التشنيع عليهم.