عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}
  
              

          ░40▒ (ص) بِابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}[البقرة:228].
          (ش) أي: هذا بابٌ في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ}... إلى آخره، وسقط لفظ: (باب) لأبي ذرٍّ، وثبت لغيره، والمراد بـ{المطلَّقات} المدخول بهنَّ مِن ذوات الإقراء.
          قوله: ({يَتَرَبَّصْنَ}) أي: ينتظرن، وهذا خبرٌ بمعنى الأمر ({ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}) بعد طلاق زوجها، ثُمَّ تتزوَّج إن شاءت، وقد أخرج الأئِمَّة الأربعة مِن هذا العموم الأَمَة إذا طُلِّقت فَإِنَّهُا تعتدُّ عندهم بقَرأَين؛ لأنَّها على النصف مِنَ الحرَّة، والقَرء لا يتبعَّض، فكملت لها قَرآن، ولما رواه ابن جُرَيْجٍ عن مظاهر بن أسلم المَخْزُومِيِّ المَدَنِيِّ، عن القاسم، عن عائشة: أنَّ رسول الله صلعم قال: «طلاق الأمة تطليقتان وعدَّتها حيضتان» رواه أبو داود والتِّرْمِذيُّ وابن ماجه، قال ابن كثيرٍ: ولكنَّ مُظاهِرَ هذا ضعيفٌ بالكلِّيَّة، وقال الدَّارَقُطْنيُّ وغيره: الصحيح أنَّهُ مِن قول القاسم بن مُحَمَّدٍ نفسه، ورواه ابن ماجه مِن طريق عطيَّة العَوفيِّ عن ابن عمر مرفوعًا، قال الدَّارَقُطْنيُّ: والصحيح ما رواه سالمٌ ونافعٌ عن ابن عمر قولَه، وهكذا روي عن عُمَر بن / الخَطَّاب، قالوا: ولم يُعرَف بين الصحابة خلافٌ، وقال بعض السلف: بل عدَّتها عدَّة الحرَّة؛ لعموم الآية، ولأنَّ هذا أمرٌ جبلِّيٌّ فالحرائر والإماء في ذلك سواءٌ، وحكى هذا القولَ أبو عمر عن ابن سِيرِين وبعض أهل الظاهر، وضعَّفه.
          (ص) وقال إبْرَاهِيمُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ في العِدَّةِ فَحاضَتْ عِنْدَهُ ثَلَاثَ حِيَضٍ: بانَتْ مِنَ الأَوَّل، ولا تَحْتَسِبُ بِهِ لِمَنْ بَعْدَهُ.
          (ش) (إبْرَاهِيمُ) هو النَّخَعِيُّ، وهذه مسألة اجتماع العدَّتين، فنقول أوَّلًا: إنَّ العلماء مُجْمِعون على أنَّ الناكح في العدَّة يُفسَخ نكاحُه ويُفرَّق بينهما، فإذا تزوَّج في العدَّة فحاضت عنده ثلاث حيض؛ بانت مِنَ الأَوَّل؛ لأنَّها عدَّتها منه.
          قوله: (وَلَا تَحْتَسِبُ بِهِ) أي: لا تحتسب هذه المرأة بهذا الحيض (لِمَنْ بَعْدَهُ) أي: بعد الزوج الأَوَّل، بل تعتدُّ عدَّةً أخرى مِنَ الزوج الثاني، هذا قول إبراهيم رواه ابن أبي شَيْبَةَ عن عَبْدة بن أبي سليمان عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عنه، وروى المَدَنِيُّون عن مالكٍ: إن كانت حاضت حيضةً أو حيضتين مِنَ الأَوَّل: أنَّها تتمُّ بقيَّة عدَّتها منه، ثُمَّ تستأنف عدَّةً أخرى مِنَ الآخر، على ما روي عن عُمَر بن الخَطَّاب وعليِّ بن أبي طالبٍ، وهو قول اللَّيث والشَّافِعِيِّ وأحمد وإسحاق، وروى ابن القاسم عن مالكٍ: أنَّ عدَّةً واحدةً تكون لهما جميعًا، وهو قول الأوزاعيِّ والثَّوْريِّ وأبي حنيفة وأصحابه.
          (ص) وَقَالَ الزُّهْريُّ: تَحْتَسِبُ، وَهَذَا أحَبُّ إلى سُفْيانَ؛ يَعْنِي: قَوْلَ الزُّهْريِّ.
          (ش) أي: قال مُحَمَّد بن مسلمٍ (الزُّهْريُّ: تَحْتَسِبُ) هذا الحيض فيكون عدَّةً لهما، كما ذكرنا الآن.
          قوله: (وَهَذَا) أي: قول الزُّهْريِّ (أحَبُّ إلى سُفْيانَ) الثَّوْريِّ، وحجَّة الزُّهْريِّ ومَن تبعه في هذا إجماعهم أنَّ الأَوَّل لا ينكحها في بقيَّة العدَّة مِنَ الثاني، فدلَّ على أنَّها في عدَّةٍ مِنَ الثاني، ولولا ذلك لنكحها في عدَّتها منه، وحجَّة الأوَّلين أنَّهما حقَّان قد وجبا عليها لزوجين كسائر الحقوق لا يدخل أحدهما في صاحبه.
          (ص) وَقَالَ مَعْمَرٌ: يُقَالُ: أَقْرَأَتِ الْمَرْأَةُ؛ إِذَا دَنَا حَيْضُهَا، وَأَقْرَأَتْ؛ إِذَا دَنَا طُهْرُهَا، وَيُقَالُ: مَا قَرَأَتْ بِسَلًى قَطُّ؛ إِذَا لَمْ تَجْمَعْ وَلَدًا فِي بَطْنِهَا.
          (ش) (مَعْمَرٌ) بفتح الميمين وسكون العين، هو أبو عُبَيدة بن المُثَنَّى، مات سنة عشرٍ ومئتين.
          قوله: (يُقَالُ: أَقْرَأَتِ الْمَرْأَةُ) غرضه أنَّ (القرء) يُستَعمل بمعنى الحيض والطهر؛ يعني: هو مِنَ الأضداد، واختلف العلماء في الأقراء التي تجب على المرأة إذا طُلِّقت، فقال الضَّحَّاك والأوزاعيُّ والثَّوْريُّ والنخعيُّ وسعيد بن المُسَيَِّبِ وعلقمة والأسود ومجاهدٌ وعطاءٌ [وطاووس وسعيد بن جُبَيرٍ وعِكرمة ومُحَمَّد بن سِيرِين والحسن وقتادة والشعبيُّ والربيع ومقاتل بن حَيَّان والسُّدِّيُّ ومكحولٌ وعطاءٌ] الخراسانيُّ: الأقراء: الحيض، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في أصحِّ الروايتين وإسحاق، وهكذا رُوِيَ عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق وعمر وعثمان وعليٍّ وأبي الدَّرْدَاء وعبادة بن الصامت وأنس بن مالكٍ وابن مسعودٍ وابن عَبَّاسٍ ومعاذٍ وأُبَيِّ بْنِ كعبٍ وأبي موسى الأشعريِّ ♥ .
          وقال سالمٌ والقاسم وعروة وسليمان بن يسارٍ وأبو بَكْر بن عبد الرَّحْمَن وأبان بن عثمان والزُّهْريُّ وبقيَّة الفقهاء السبعة ومالكٌ والشَّافِعِيًّ وأبو ثورٍ وداود وأحمد في رواية: الأقراء هي الأطهار، ورُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ وزيد بن ثابتٍ، وقال أبو عمر: وهو قول عائشة وزيد بن ثابتٍ وعبد الله بن عُمَر، فالمطلَّقة عندهم تحلُّ للأزواج بدخولها في الدم مِنَ الحيضة الثالثة، وسواءٌ بقيَ مِنَ الطهر الذي طُلِّقت فيه المرأة يومٌ واحدٌ أو أكثر أو ساعةٌ واحدةٌ فَإِنَّهُا تحتسب به المرأة قرءًا، وقالت الطائفة الأولى: المطلَّقة لا تحلُّ للأزواج حَتَّى تغتسل مِنَ الحيضة الثالثة، وطائفةٌ أخرى توقَّفوا في الأقراء؛ هل هي حيضٌ أم أطهارٌ؟ وهم سليمان بن يَسارٍ وفَضالة بن عُبَيدٍ وأحمد في روايةٍ.
          قوله: (وَيُقَالُ: مَا قَرَأَتْ بِسَلًى) بكسر السين المُهْمَلة وبالقصر، وهو الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد مِنَ المواشي؛ معناه: لم تضمَّ رحمها على ولدٍ، وأشار / بهذا إلى أنَّ (القُرء) جاء بمعنى الجمع والضمِّ أيضًا، وقال الأصمعيُّ: «القُرء» بِضَمِّ القاف، وقال أبو زيدٍ: بفتح القاف، وأقرأت المرأة: إذا استقرَّ الماء في رحمها، وقعدت المرأة أيَّام أقرائها؛ أي: أيَّام حيضِها، وقال أبو عمر: أصل «القرء» في اللغة: الوقت والطهر والحمل والجمع، وقال ثعلب: القروء: الأوقات، والواحد: قُرءٌ، وهو الوقت، وقد يكون حيضًا ويكون طهرًا، وقال قُطربٌ: تقول العرب: ما أقرأتِ الناقةُ سلًى قطُّ؛ أي: لم ترمِ به، وأقرأت الناقة قرءًا، وذلك معاودة الفحل إيَّاها أوانَ كلِّ ضِرابٍ، وقالوا أيضًا: قرأت المرأة قرءًا؛ إذا حاضت [وطهرت، وقرأت أيضًا؛ إذا حملت، وقيل: هو مِنَ الأسماء المشتركة، وقيل: حقيقةٌ في الحيض، مجازٌ] في الطُّهر.