عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا
  
              

          ░11▒ (ص) بابٌ: إِذَا قَالُوا: صَبَأْنَا، وَلَمْ يُحْسِنُوا: أَسْلَمْنَا.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ قول المشركين حين يقاتلون إذا قالوا: صَبَأْنَا، وأرادوا به الإخبار بأنَّهم أسلموا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، وجواب (إذا) محذوفٌ، تقديره وهو: هل يكون ذلك كافيًا في رفع القتال عنهم أم لا؟ قيل: إنَّ المقصود مِنَ الترجمة أنَّ المقاصد تعتبر بأدلَّتها كيف ما كانت الأدلَّة، لفظيَّة أو غير لفظيَّة، تأتي بأيِّ لغة كانت.
          و(صَبَأْنَا) مِن صبأ فلان؛ إذا خرج مِن دينه إلى دين غيره، مِن قولهم: صبأ نابُ البعير إذا طلع، وصبأت النجوم إذا خرجت مِن مطالعها، وكانت العرب تسمِّي النَّبِيَّ صلعم الصابئ؛ لأنَّه خرج مِن دين قريش إلى دين الإسلام.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ ☻: فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : «أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ».
          (ش) أي: قال عبد الله (ابْنُ عُمَرَ) بن الخَطَّاب، وهذا طرفٌ مِن حديثٍ طويل أخرجه البُخَاريُّ في (كتاب المغازي) في غزوة الفتح، وأصل القصَّة: أنَّ خالد بن الوليد بعثه النَّبِيُّ صلعم إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صَبَأْنَا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم بناء على ظاهر اللفظ، فبلغ النَّبِيُّ صلعم ذلك فأنكره، فدلَّ على أنَّهُ يكتفي مِن كلِّ قومٍ بما يُعرَف مِن لغتهم، وقد عذر النَّبِيُّ صلعم خالدًا في اجتهاده، ولذلك لم يُقَدْ منه، وقال ابن بَطَّالٍ: لا خلاف أنَّ القاضي إذا قضى بجور أو بخلاف قول أهل العلم فهو مردودٌ، فإن كان على وجه الاجتهاد والتأويل كما صنع خالد ☺ فإنَّ الإثمَ ساقط والضمان لازم عند عامَّة أهل العلم، إلَّا أنَّهم اختلفوا في ضمان ذلك، فإن كان في قتلٍ أو جراحٍ ففي بيت المال، وهذا قول الثَّوْريِّ وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وقالت طائفة: على عاقلة الإمام أو الحاكم، وهذا قول الأوزاعيِّ وأبي يوسف ومُحَمَّدٍ والشَّافِعِيِّ، وقال ابن الماجشون: ليس على الحاكم شيءٌ مِنَ الدية في ماله ولا على عاقلته ولا في بيت المال.
          فَإِنْ قُلْتَ: ليس فيه ولا في الحديث الذي يأتي لفظ (صبأنا) فأين المطابقة؟
          قُلْت: جرت عادته أنَّهُ يترجم ببعض ما ورد في الحديث الذي يذكره فيه.
          (ص) وَقَالَ عُمَرُ: إِذَا قَالَ مَتَرْس؛ فَقَدْ آمَنَهُ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ الأَلْسِنَةَ كُلَّهَا، وَقَالَ: تَكَلَّمْ لَا بَأْسَ.
          (ش) أي: قال (عُمَرُ) ابن الخَطَّاب ☺ ، وهذا التعليق وصله عبد الرَّزَّاق مِن طريق أبي وائل قال: جاءنا كتاب عمر ونحن نحاصر قصر فارس، فقال: إذا حاصرتم قصرًا فلا تقولوا: انزل على حكم الله، فَإِنَّكم لا تدرون ما حكم الله، ولكن أنزلوهم على حكمكم ثُمَّ اقضوا فيهم، وإذا لقيَ الرجلُ الرجلَ فقال: لا تخف قد آمنه، وإذا قال: مَتَرْس، فقد آمنه، إنَّ الله يعلم الألسنة كلَّها، ولفظة (مَتَرْس) كلمة فارسيَّة ومعناها: لا تخف؛ لأنَّ لفظة (مَ) كلمة النفيِّ عندهم، ولفظ (تَرْس) بمعنى الخوف عندهم، فإذا أرادوا أن يقولوا لواحد: لا تخف، يقولون بلسانهم: مَتَرْس، واختلفوا في ضبطها، فضبطه الأصيليُّ: بفتح الميم والتاء وسكون الراء، وضبطه أبو ذرٍّ: بكسر الميم وسكون التاء، وضبطه بعضهم: بإسكان التاء وفتح الراء، وأهل خراسان كانوا يقولون ليحيى بن يحيى في «الموطَّأ»: مَطَرْس.
          قُلْت: الأصحُّ ضبط الأصيليِّ لا غير.
          قوله: (وَقَالَ تَكَلَّمْ لَا بَأْسَ) أي: قال عُمَر بن الخَطَّاب للهُرْمُزَان حين أتوا به إليه، وقد تَقَدَّمَ في (الجزية والموادعة) وأخرجه ابن أبي شَيْبَةَ عَن مروان بن معاوية عَن حُمَيد عن أنسٍ قال: حاصرنا تُسْتَر فنزل الهرمزان على حكمِ عُمَر بن الخَطَّاب ☺ فلمَّا قَدِم عليه استعجم، فقال له عمر: تَكلَّم لا بأس عليك، فكان ذلك عهدًا وتأمينًا مِن عمر ☺ .