الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز

          ░4▒ (بابٌ إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ) أي: على المشتري (ظَهْرَ الدَّابَّةِ) أي: ركوبَه لها منه أو من غيرهِ، أو تحميلَ شيءٍ عليها (إِلَى مَكَانٍ مُسَمًّى) أي: معيَّنٍ (جَازَ) أي: الشرطُ، ولا يبطُلُ البيعُ به، لكنْ هذا لا يوافقُ مذهبَ الشافعيِّ، فلعلَّ ما في الحديثِ كان خارج العقدِ أو خصوصيَّةً، فتدبَّر.
          وقال في ((فتح الباري)): هكذا جزَمَ المصنِّفُ بهذا الحكمِ لصحَّةِ دليلِه عنده، وهو مما اختُلفَ فيه، وفيما يُشبِهُه؛ كاشتراط سكُنى الدارِ أو خدمةِ العبد، فذهب الجمهورُ إلى بطلانِ البيعِ؛ لأنَّ الشرطَ المذكورَ ينافي مقتضى العقد.
          وقال الأوزاعيُّ وابن شُبرُمةَ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ وطائفةٌ: يصحُّ البيعُ، ويتنزَّلُ الشرطُ منزِلةَ الاستثناءِ؛ لأنَّ المشروطَ إذا كان قَدْرُه معلوماً صار كما لو باعَه بألفٍ إلا خمسينَ درهَماً مثلاً، ووافقهم مالكٌ في الزمن اليسير دونَ الكثير، وقيل: حدُّه عنده ثلاثةُ أيامٍ، وحجَّتُهم حديثُ الباب.
          وقد رجَّحَ البخاريُّ فيه جوازَ الاشتراط، كما سيأتي في كلامه، وأجاب عنه الجمهورُ بأنَّ ألفاظه اختلفَتْ، فمنهم من صرَّحَ فيه بالشَّرط، ومنهم مَنْ ذكَرَ فيه ما يدُلُّ عليه، ومنهم مَنْ ذكَرَ ما يدُلُّ على أنه كان بطريق الهبةِ، فهي واقعةُ عينٍ يطرُقُها الاحتمالُ.
          وقد عارضَه حديثُ عائشةَ في قصة بَريرةَ، ففيه بطلانُ الشَّرط المخالِفِ لمُقتَضى العقد، قال: وصحَّ من حديثِ جابرٍ أيضاً النهيُ عن بيعِ الثُّنْيا، أخرجَه أصحابُ السُّنن الأربعةِ بإسنادٍ صَحيحٍ، وورد النهيُ عن بيعٍ وشرطٍ.
          وأُجيبَ: بأنَّ الذي ينافي مقصودَ البيع ما إذا اشتَرطَ مثلًا في بيع الجاريةِ أن لا يطأَها، وفي الدارِ أن لا يسكُنَها، وفي العبدِ أن لا يستخدِمَه، وفي الدابَّةِ أن لا يركَبَها، أمَّا إذا اشترطَ شيئاً معلوماً لوقتٍ معلومٍ فلا بأسَ به.
          وأمَّا حديثُ النَّهي عن بيعِ الثُّنْيا؛ ففي نفسِ الحديثِ: ((إلا أن يُعلَمَ)) فعُلمَ أنَّ النَّهيَ إنَّما وقع عمَّا كان مجهولاً، وأمَّا حديثُ النهي عن بيعٍ وشَرطٍ؛ ففي إسنادِه مَقالٌ، وهو قابلٌ للتأويلِ، وسيأتي له مزيدُ بسْطٍ آخرَ حديثِ الباب، وتقدَّمَ آخر البابِ قبلَه ما يناسِبُ مجيئَه هنا.