الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط

          2711- 2712- 2713- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ) بضم الموحدة، مصغَّرُ: بَكرٍ _بالموحدة_، نسَبَه لجدِّه؛ لشهرتِه به، وإلَّا فأبوه: عبدُ الله المِصريُّ، قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) أي: ابنُ سَعْدٍ (عَنْ عُقَيْلٍ) بضم المهملة؛ أي: ابنِ خالدٍ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أي: محمدِ بن مُسلمٍ الزُّهريِّ، قال: (أَخْبَرَنِي) بالإفراد (عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) أي: ابنُ العوَّامِّ.
          (أَنَّهُ سَمِعَ مَرْوَانَ) أي: ابن الحكَمِ الأمويَّ، واختُلفَ في صُحبتِه، والأصحُّ عدمُها (وَالْمِسْوَرَ) بكسر الميم وسكون السين المهملة (ابْنَ مَخْرَمَةَ) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة (☻) فيه إشارةٌ إلى أنه وأباه صحابيَّان، وهو كذلك (يُخْبِرَانِ) بضم التحتية وسكون الخاء المعجمة؛ أي: يحدِّثانِ مروانُ والمِسوَرُ عُروةَ.
          (عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلعم) قال في ((فتح الباري)): هكذا قالَ عُقَيلٌ عن الزُّهريِّ، واقتصرَ غيرُه على روايةِ الحديثِ عن المِسوَرِ بن مخرَمةَ ومروانَ بن الحَكَم، وقد تبيَّنَ بروايةِ عُقَيلٍ أنه عنهما مُرسَلٌ، وهو كذلك؛ لأنهما لم يحضُرا القصَّةَ، قال: وعلى هذا فهو من مُسندِ من لم يُسَمَّ من الصحابة، فلم يُصِبْ مَن أخرجَه من أصحابِ ((الأطرافِ)) في مُسنَدِ المِسوَرِ أو مروانَ؛ لأنَّ مروانَ لا يصحُّ له سَماعٌ من النبيِّ صلعم، ولا صحبةَ له، وأما المِسوَرُ؛ فصَحَّ سَماعُه منه، لكنه إنَّما قدمَ مع أبيه وهو / صغيرٌ بعد الفتح، وكانتِ القصَّةُ قبل ذلك بسنتَين، انتهى.
          (قَالَ) أي: كلٌّ من أصحاب رسولِ الله، ولا يضُرُّ عدَمُ معرفتِهِم؛ لأنهم كلُّهم عُدولٌ، وقال القسطلانيُّ: <قال كلٌّ منهما>، وفيه أنَّ مروانَ والمِسوَرَ يرويان القِصَّةَ على ما هنا عن أصحاب رسولِ الله صلعم، لا عن رسول الله، فافهم.
          (لَمَّا كَاتَبَ) أي: النبيُّ، ويحتمِلُ أنَّ الفاعلَ سُهيلٌ، وعلى الأول فهو الظاهرُ، فقوله: (سُهَيْلُ) بالسين المهملة مصغَّراً، مفعولُه، ورأيتُه بالوجهَين في بعضِ الأصول (ابنُ عَمرٍو) بفتح العين؛ أي: ابن عبدِ شمسٍ القُرشيُّ، وكان سهيلٌ أحدَ أشرافِ قريشٍ وخطَبَتِهم، أسَرَه النبيُّ صلعم يومَ بدرٍ، فقال عمرُ بنُ الخطَّابِ: يا رسولَ الله؛ انزَعْ ثنيَّتَيه، فلا يقومُ عليك خطيباً فقال رسولُ الله صلعم: ((دَعْه؛ فعَسى أن يقومَ مَقاماً تَحمَدُه)) وقد أسلَمَ يومَ الفتحِ، وكان رقيقَ القَلبِ، ولذا كان كثير البُكاءِ عند قراءةِ القرآن.
          ولمَّا ماتَ رسولُ الله صلعم ثبَتَ بمكَّةَ على الإسلام، وارتدَّ كثيرٌ من الناس، فقام سُهيلٌ خطيباً، وسكَّنَ الناسَ، ومنعَهم من الاختلافِ، وهذا هو المَقامُ الذي أشارَ إليه رسولُ الله صلعم، مات في طاعون عَمَوَاسَ سنةَ ثماني عشْرةَ.
          وقوله: (يَوْمَئِذٍ) أي: يومَ صُلحِ الحُديبيةِ، متعلِّقٌ بـ((كاتَبَ))، وقولُه: (كَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ...) إلخ، جوابُ ((لمَّا)) (ابنُ عَمرٍو) وكان القياسُ ((اشترطَ)) بالإسنادِ إلى ضَميرِ ((سُهيلُ))، وقوله: (عَلَى النَّبِيِّ صلعم) متعلِّقٌ بـ((اشترط)) (أَنَّهُ) أي: الشأنَ (لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ) أي: من قريشٍ (وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا) وقولُه:
          (وَخَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ) الواو بمعنى: أو، أو تفسيرٌ لـ((ردَدتَه)) (فَكَرِهَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ، وَامْتَعَضُوا مِنْهُ) أي: من هذا الشَّرطِ، و((امتعَضُوا)) بالضاد المعجمة وقبله عين مهملة وقبلها مثناة فوقية؛ أي: وغَضِبوا منه وأَنِفوه.
          وقال ابنُ الأثيرِ كابن القَطَّاعِ: شَقَّ عليهم وعَظُمَ وأنِفُوا منه، وقال الخليلُ: مَعِضَ _بكسر العين المهملة وبالضاد المعجمة_ من الشيءٍ، وامتعَضَ: توجَّعَ منه، وقال ابنُ قُرقولٍ: <امتعَظُوا> كذا للأصيليِّ والهَمْدانيِّ؛ يعني: بظاء مشالة، والجمهورُ على أنه بالضاد والمعجَمة، وللقابسيِّ في المغازي: <امَّعَظوا> بتشديد الميم وبالظاء المشالة، وكذا لعَبدُوسٍ، وللنسَفيِّ: <انغَضُّوا> بنون وغين معجمة وضادٍ غير مشالَةٍ، كما لأبي ذرٍّ هنا.
          وكلُّ هذه الرِّواياتِ _كما قال عياضٌ_ تغيُّراتٌ، حتى وقعَ عند بعضِهم: <انفَضُّوا> بنون ففاء فضاد معجمة مشددة، وعند بعضٍ آخرَ: <وأُغيظُوا> من الغيظِ، فاعرِفْه.
          وإنَّما كَرِهَ الصَّحابةُ ذلك لأنَّهم كانوا مُستظهِرين، واشترط الكفَّارُ عليهم شروطاً فيها بعضُ تحكُّمٍ، وكان أشدُّهم كراهيةً لذلك عمرُ بن الخطَّابِ ☺.
          (وَأَبَى) بالموحدة (سُهَيْلٌ إِلاَّ ذَلِكَ) أي: الشرطَ المذكورَ؛ يعني: لم يُرِدْ شيئاً من الشروطِ إلا شرطَ الردِّ، فالاستثناءُ متَّصلٌ مفرَّغٌ (فَكَاتَبَهُ النَّبِيُّ صلعم عَلَى ذَلِكَ) أي: الشرط.
          (فَرَدَّ) أي: النبيُّ عليه السَّلامُ، وفيه طَيٌّ (يَوْمَئِذٍ) أي: يوم كتابةِ الصُّلحِ (أَبَا جَنْدَلٍ) واسمُه: العاصِي كما مرَّ، حين حضَرَ من مكَّةَ إلى الحُديبيَةِ يرسُفُ في قيودِهِ (إلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو) أي: وفاءً بالشرطِ، ولأنَّه لا يبلُغُ به إلى الهلاك (وَلَمْ يَأْتِهِ) بكسر التاء والهاء؛ أي: النبيُّ عليه السَّلامُ (أَحَدٌ / مِنَ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ) أي: إلى قريشٍ؛ وفاءً بالشَّرطِ.
          (فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ) أي: مدَّةِ صُلحِ الحُديبية (وَإِنْ كَانَ) أي: الأحدُ الذي جاءَ (مُسْلِماً) بسكون السين المهملة وكسر اللام، و((إنْ)) بكسر الهمزة، وصليَّةٌ (وَجَاءَ) بغير تاء التأنيث للأكثرِ على أحد الوجهَينِ الجائزَينِ عند ابن مالكٍ، ومن وافقَه في إسنادِ الفعلِ إلى جمع المؤنَّثِ السالم، وفي بعض الأصُول: <وجاءت> (الْمُؤْمِنَاتُ) بإثباتِها، وهو لازمٌ عند ابن هشامٍ والأكثرين، ونسَبَ هذه الرِّوايةَ القسطلانيُّ لأبي ذرٍّ عن الحمَويِّ والمستمليِّ (مُهَاجِرَاتٍ) منصوبٌ على الحال؛ أي: من مكَّةَ إلى دارِ الإسلام.
          وجملة: (وَكَانَتْ...) إلخ، حاليَّةٌ، بتقدير: قد (أُمُّ كُلْثُومٍ) بضم الكاف والمثلثة بينهما لامٌ ساكنة (بِنْتُ عُقْبَةَ) بضم العين المهملة وسكون القاف فموحدة (ابْنِ أَبِي مُعَيْطٍ) بضم الميم وفتح العين المهملة فياء تصغير فطاءٍ كذلك آخرَه، قال الزَّركشيُّ: وهو الفاسقُ المذكورُ في القرآن، أُسرَ يومَ بدرٍ، وضُربَتْ عنقُه صَبْراً، انتهى.
          واعترضَه البرماويُّ فقال: وفيه نظرٌ، فإنَّ المذكورَ في التفاسير في {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات:6] هو الوليدُ بن عُقَبةَ، لا عُقبةُ، انتهى فتدبَّر.
          ((وأمُّ كُلثومٍ)) هي: أم حُميدِ بن عبدِ الرحمن.
          (مِمَّنْ خَرَجَ) أي: مُسلِمةً (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم يَوْمَئِذٍ وَهْيَ عَاتِقٌ) بعين مهملة فألف فمثناة فوقية مكسورة فقاف، وهي الشابَّةُ أول بلوغِها الحلُمَ (فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ) وفي بعض النُّسَخ: <رسولَ الله صلعم> (أَنْ يَرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ) بفتح ياء ((يَرجِعَها)) لأنَّ ماضيه ثلاثيٌّ يتعدَّى إلى واحدٍ، وقد لا يتعدَّى، قال اللهُ تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} [التوبة:83].
          (فَلَمْ يَرْجِعْهَا) أي: رسولُ الله عليه السَّلامُ (إِلَيْهِمْ لِمَا) بكسر اللام وتخفيف الميم، وفي بعض النُّسخ: <لمَّا> بفتح اللام وتشديد الميم، وعلى الرِّوايتَين: فنزولُ الآية متأخِّرٌ عن الصُّلحِ.
          وفي ابن الملقِّن عن الزُّهريِّ قال: نزلتِ الآيةُ على رسولِ الله وهو بأسفلِ الحُدَيبيَةِ، وكان صالحَهم على أنَّ مَنْ أتاه منهم ردَّه إليهم، فلما جاء النِّساءُ نزلتِ الآيةُ.
          ثم قال تَبعاً لابن بطَّالٍ: وقد وُجدَ في هذا الحديثِ ما يدُلُّ على أنَّ الشرطَ إنَّما وقَعَ على أنْ يَرُدَّ الرجالَ خاصَّةً؛ لقولِ سُهيلٍ: ((وعلى أنَّ مَنْ يأتيكَ منَّا رجلٌ إلا ردَدتَه إلينا)) انتهى.
          (أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ) أي: في المهاجِراتِ في أواخر سورةِ الممتحِنة ({إِذَا جَاءَكُمُ}) أي: الذين آمَنوا ({الْمُؤْمِنَاتُ}) أي: اللاتي أسلمْنَ من نساءِ الكفَّار، وسمَّاهنَّ مؤمناتٍ؛ لتصديقهنَّ ونُطقِهنَّ بالشهادتَين، ولم يظهَرْ منهنَّ ما يخالفُ ذلك ({مُهَاجِرَاتٍ}) حالٌ من {مُؤْمِنَاتُ}؛ أي: من دار الكفرِ إلى دارِ الإسلام.
          ({فَامْتَحِنُوهُنَّ}) أي: فاختبروهُنَّ بما يغلبُ على ظنِّكم موافقةَ قلوبِهنَّ لألسنتِهنَّ في الإيمان من تحليفِهنَّ والنظر في العلاماتِ الدالَّةِ على صدقِهنَّ، وعن ابن عبَّاس: ((كانتِ المرأةُ إذا أتَتْ رسولَ الله صلعم استحلَفَها بالله ما خرجَتْ من بُغضِ زوجٍ، بالله ما خرجَتْ رغبةً بأرضٍ من أرضٍ، بالله ما خرجَتْ التِماسَ دنيا، بالله ما خرجَتْ إلا حبًّا لله ولرسولِه)) ذكرَه ابن الملقِّن.
          ({اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ}) / أي: لأنه المطَّلِعُ على ما في قلوبِهنَّ وسرائرِهنَّ، يعلَمُ خائنةَ الأعيُنِ وما تُخفي الصدورُ (إِلَى قَوْلِهِ) متعلِّقٌ بمحذوفٍ، نحو: أنزَلَ اللهُ؛ أو: اقرأْ إلى قولِه تعالى: ({وَلاَ هُمْ}) أي: الكُفَّارُ ({يَحِلُّونَ}) بفتح التحتية ({لَهُنَّ}) أي: للمؤمنات، وكرَّرَ هذه مع قولِه قبلَها: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} كما قال البيضاويُّ للمُطابَقةِ والمُبالَغة، أو الأُولى: لحصولِ الفُرقةِ، والثانيةُ: للمنع على الاستئناف، انتهى.
          والذي لم يذكُرْه البخاريُّ من الآيةِ هو قولُه تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} [الممتحنة:10] والمراد بالعِلمِ هنا غَلَبةُ الظنِّ بما مرَّ من تحليفِهنَّ وظهورِ الأماراتِ، وسمَّاه: عِلْماً؛ إيذاناً بأنَّه كالعِلمِ في وجوبِ العمَلِ به.
          والمعنى: فإنْ علِمتُم أيها المؤمنون النِّساءَ اللَّاتي هاجَرْنَ مؤمناتٍ؛ فلا تَرجعُوهنَّ _بفتح الفوقية أوله_؛ أي: المؤمناتِ المهاجراتِ إلى الكُفَّارِ؛ أي: إلى أزواجِهنَّ الكفَّارِ؛ لقولهِ تعالى: {لَا هُنَّ} أي: المؤمناتُ {حِلٌّ} بكسر الحاء المهملة؛ أي: حلالٌ {لهن} أي: لأزواجِهنَّ الكُفَّار.
          تنبيه: قال ابنُ الملقِّن: اختلَفَ العلماءُ في صُلحِ المشركين على أن يرُدَّ إليهم من جاءَ منهم مُسلِماً، فقال قومٌ: لا يجوزُ هذا، بل هو منسوخٌ، لقولِه عليه السَّلامُ: ((أنا بريءٌ من كلِّ مسلمٍ أقامَ مع مُشرِكٍ في دارِ الحربِ لا يتراءى ما رآه)) فهذا ناسخٌ لردِّ المسلمين إلى المشركين.
          وقال الشافعيُّ: هذا الحُكمُ في الرِّجالِ غيرُ منسوخٍ، وليس لأحدٍ هذا العقدُ إلا للخَليفةِ أو لمَنْ يأمُرُه بعَقدِه، وأما النِّساءُ؛ فهو منسوخٌ في حقِّهنَّ، انتهى ملخَّصاً.
           (قَالَ عُرْوَةُ) أي: ابنُ الزُّبيرِ، وهذا موصولٌ بالإسنادِ قبلَه (فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ) أي: الصدِّيقةُ، خالةُ عُروةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ) أي: المهاجِراتِ (بِهَذِهِ الْآيَةِ) ثم أبدَلَ من قولِه: ((بهذه الآية)) أو بيَّنَها بقوله:
          ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}) سقطَ لفظُ: <{فَامْتَحِنُوهُنَّ}> لأبي ذرٍّ ((إِلَى {غَفُورٌ رَحِيمٌ})) الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بنحو: مُنتَهياً.
          وتقدَّمَ الكلامُ على الآية قريباً إلى قولِه: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ونتكلَّمُ على بقيَّتِها، فنقول:
          قوله: {وَآَتُوهُمْ} أي: أعطوا الأزواجَ الكفَّارَ {مَا أَنْفَقُوا} أي: مثلَ ما دفعوا إليهِنَّ من المُهور؛ لأنَّ صُلحَ الحُدَيبيةِ وقعَ على أنَّ مَنْ جاء من المشرِكينَ مُسلِماً ردَّه النبيُّ إليهم، فلمَّا تعذَّرَ ردُّ النِّساء؛ لورود النَّهي عنه، لزِمَ ردُّ مهورِهنَّ؛ إذ وردَ أنَّ النبيَّ عليه السَّلامُ كان بالحُدَيبيَةِ إذ جاءَتْه سُبَيعةُ بنتُ الحارثِ الأسلميَّةُ مسلمةً، فتبِعَها زوجُها مُسافِرٌ المخزوميُّ طالباً لها، فنزلَتِ الآيةُ، فاستحلَفَها رسولُ الله صلعم، فحلفَتْ، فأعطى زوجَها ما أنفقَه من المهرِ، وتزوَّجَها عمرُ بنُ الخطَّابِ، ذكره البَيضاويُّ، لكن اعترَضَه الخفَاجيُّ بأنَّ التي نزلَتْ فيها الآيةُ كما في كتبِ السِّيرِ والحديثِ أمُّ كلثومٍ بنتُ عُقْبةَ بن أبي مُعَيطٍ، انتهى.
          وأقول: ما ذكره البَيضاويُّ أحدُ أقوالٍ ذُكرَتْ في شروحِ البخاريِّ في غير هذا الموضِعِ، فلا يرِدُ اعتِراضُ الخَفَاجيِّ عليه، وقال العَينيُّ في تفسير الممتحِنةِ: المشهورُ منها أنَّها أمُّ كُلثومٍ بنتُ عُقبةَ بن أبي مُعَيطٍ، وهي امرأةُ عبدِ الرَّحمنِ بن عوفٍ، أمُّ ولدِه إبراهيمَ.
          وقال مقاتلٌ: هي سُبَيعةُ _بالتصغير_، وقيل: سعيدةُ بنت الحارثِ، كانت تحت صَيفيِّ بن الراهبِ، وقال ابنُ عساكِرَ: كانت أمُّ كلثومٍ تحت عمرِو بن العاص، وقيل: نزلَتِ الآيةُ في أُمَيمةَ بنت بِشْرٍ، كانت تحتَ حسَّانَ بن الدَّحداحيَّة، ففرَّتْ منه مُسلِمةً، فتزوَّجَها سهلُ بن حُنيفٍ، وهي أمُّ ولدِهِ عبدِ الله، انتهى ملخَّصاً، فاعرِفه.
          وقوله: / {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} أي: المهاجِراتِ المتزوِّجات؛ لأنَّ الإسلامَ حالَ بينهنَّ وبين أزواجِهنَّ الكفَّار {إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: بشَرطِ إعطائهِم مهورَهنَّ، فإنَّ ما أعطاهنَّ الأزواجُ سابقاً لا يَكفِي عن المهرِ ثانياً، ويُشترَطُ أيضاً انقِضاءُ العِدَّةِ إن كانَتْ مدخُولاً بها.
          وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} أي: بما يُعصَمُ به النِّساءُ الكافراتُ من عَقدٍ ونسَبٍ، فـ{عِصَمِ} جمعُ: عِصْمةٍ، و{الْكَوَافِرِ} جمعُ: كافرةٍ، والمرادُ من الآيةِ _كما قال البيضاويُّ_ نهيُ المؤمنينَ عن المقامِ على نكاحِ المشرِكاتِ، انتهى.
          فإذا لم تسلَمِ المرأةُ المشرِكةُ، فليس للمُسلمِ المُقامِ على نكاحِها؛ لأنه ينفسِخُ العقدُ إذا لم تُسلِمْ في العِدَّة، وهذا في المدخُولِ بها، أمَّا غيرُها؛ فينفسخُ النِّكاحُ بمجرَّدِ الإسلام، ويجري مثلُ ذلك فيما إذا أسلمَتِ الزَّوجةُ دون الزوجِ.
          قال الزُّهريُّ: لمَّا نزلَتْ هذه الآيةُ طلَّقَ عمرُ بن الخطَّاب امرأتَين كانتا بمكَّةَ مشركتَين؛ قَريبةَ بنت أبي أميَّةَ بن المُغيرةِ، فتزوَّجَها بعده معاويةُ بنُ أبي سفيانَ وهما على شركِهما بمكَّةَ، والأخرى أمُّ كلثومٍ بنتُ عمرٍو الخُزاعيَّةُ، أمُّ عبدِ الله بن عمرَ، فتزوَّجَها أبو جَهمِ بنُ حُذافةَ، رجلٌ من قومِها وهما على شِركِهما.
          وقوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} أي: يا أيها المؤمنون من مهورِ نسائكمُ اللَّاحقاتِ بالكفَّارِ {وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} أي: الكفَّارُ من مهور أزواجِهنَّ المهاجرات.
          وقوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} يعني: جميعَ ما ذَكرَ في الآيةِ، وجملةُ: {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} استئنافيَّةٌ، أو حاليَّةٌ من الحُكمِ على حذفِ الضَّمير، أو جَعلَ الحُكمَ حاكِماً على المبالَغة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: فيشرِّعُ ما تقتضيهِ حِكمتُه لُطفاً بعباده.
          (قَالَ عُرْوَةُ) أي: ابن الزُّبير، ولعلَّه أيضاً موصُولٌ بالإسنادِ قبلَه (قَالَتْ عَائِشَةُ) أي: الصدِّيقةُ ♦ (فَمَنْ أَقَرَّ) أي: من المؤمناتِ المهاجرات (بِهَذَا الشَّرْطِ) لعلَّه المذكورُ في قولهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ...} [الممتحنة:12] الآيةَ، لكن ذاك كانَ يوم فتحِ مكَّةَ، فتدبَّر.
          (مِنْهُنَّ) أي: من النِّساء، متعلِّقٌ بـ((أقرَّ)) ومرجعُه لـ((مَن)) باعتبارِ معناها، وقوله: (قَالَ) جوابُ ((مَن)) الشرطية (لَهَا) أي: المهاجرةِ (رَسُولُ اللَّهِ صلعم) وجملةُ: (قَدْ بَايَعْتُكِ) مقولُ القولِ.
          وقوله: (كَلاَماً يُكَلِّمُهَا بِهِ...) إلخ، من كلامِ عائشةَ، وقَعَ حالاً من مَقولِ ((قال)) أو مفعولاً مُطلَقاً ليكلِّمُها مقدَّراً قبلَه، أو لـ((يكلِّمُها)) المذكورِ، أو لـ((قال لها))، فافهم.
          وقال الكُفَيريُّ نقلاً عن ((الكاشِفِ)): ((كلاماً)) حالٌ من فاعلِ ((قال)) ويجوزُ أن يكونَ منصوباً على التَّمييز من ((بايعتُكَ)) والعاملِ قال: وأن يكونَ مفعولاً مطلَقاً، و((يكلِّمُها)) إما مستأنَفةٌ أو صفةٌ مؤكَّدةٌ لدفعِ توهُّمِ التجوُّزِ، انتهى، فتأمَّله.
          قوله: حالاً من فاعل ((قال)) فإنَّه لا يصِحُّ إلا بتقديرِ: ذا كلامٍ أو نحوه.
          (وَاللَّهِ) قسَمٌ (مَا مَسَّتْ يَدُهُ) أي: يدُ النبيِّ صلعم (يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ) الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بـ((مسَّتْ))، و((المُبايَعة)) بضم الميم فموحدة فألف فتحتية مفتوحة، اسمُ مفعولٍ لا اسمُ فاعلٍ كما قد يُتوهَّمُ، وإن صحَّ المعنى.
          وجملةُ: (وَمَا بَايَعَهُنَّ إِلاَّ بِقَوْلِهِ) مؤكِّدةٌ لما قبلَها، وفي ((العَيني)) كانت عائشةُ تقول: ((كان رسولُ الله صلعم يُبايعُ النِّساءَ بالكلامِ بهذه الآية، وما مسَّتْ يدُ رسولِ الله صلعم يدَ امرأةٍ قطُّ، إلَّا يدَ امرأةٍ يملِكُها)) قال: وعن الشُّعبيِّ: ((كان رسولُ الله صلعم يبايعُ النِّساءَ وعلى يدِه ثَوبٌ قِطْريٌّ)).
          وعن عَمرِو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه: ((أنَّ النبيَّ صلعم / كان إذا بايَعَ النِّساءَ دعا بقَدَحٍ من ماءٍ، وغمَسَ يدَه فيه، ثم غمسْنَ أيديَهنَّ فيه)) انتهى.
          تنبيه: المهاجراتُ اللَّاتي جِئنَ مسلِماتٍ كثيراتٌ، وأمَّا اللواتي ارتدَدْن ولَحِقْنَ بمكَّةَ فستُّ نسوةٍ كما قاله ابن عبَّاسٍ ☻؛ أمُّ الحكَمِ بنت أبي سُفيانَ، كانت تحتَ عِياضِ بن شدَّادٍ الفِهْريِّ، وفاطمةُ بنت أبي أميَّةَ بن المغيرةِ، أخت أمِّ سلَمةَ، كانت تحت عمرَ بن الخطَّاب، فلمَّا أراد عمرُ أن يُهاجِرَ أبَتْ وارتدَّتْ، وبَرْوَعُ بنت عُقبةَ، كانت تحتَ شمَّاسِ بن عثمانَ، وعَبْدةُ بنت عبد العُزَّى، كان زوجُها عمرَو بن وُدٍّ، وهندُ بنت أبي جهلٍ، كانت تحتَ هشامِ بن العاصي، وكُلثومُ بنت جَرْوَلٍ، كانت تحتَ عمرَ بن الخطَّاب، فأعطاهم رسولُ الله صلعم مهورَ نسائهم من الغَنيمة.
          ومطابقةُ الحديث للتَّرجمةِ في قولِه: ((في المبايعة)) أو في قوله: ((بهذا الشرط)).
          وأخرجه المصنِّفُ أيضاً في الطلاق.