نجاح القاري لصحيح البخاري

باب السلم إلى أجل معلوم

          ░7▒ (بابُ) حكم (السَّلَمِ) الواقع (إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) أي إلى مدَّةٍ معينةٍ، وفيه ردٌّ على من أجاز السَّلَمَ الحالَّ وهو قول الشَّافعية ومن تبعهم، وذهب الأكثر إلى المنع وحمل من أجاز الأمر في قوله: إلى أجلٍ معلومٍ بالأجل فقط، فالتَّقدير عندهم مَنْ أَسْلَمَ إلى أجلٍ فَلْيُسْلِمْ إلى أجلٍ معلومٍ لا مجهول، وأمَّا السَّلَمُ لا إلى أجل فجوازه بطريق الأَولى؛ لأنَّه إذا جاز مع الأجل وفيه الغرر، فمع الحال أَولى لكونه أبعد من الغرر، وتُعُقِّبَ بالكتابة وأُجِيْبَ بالفرق؛ لأنَّ الأجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد غالباً.
          (وَبِهِ) أي: باختصاص السَّلَمِ بالأجل (قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ وقد وصله الشَّافِعِيُّ عن سُفيان عن قَتَادَةَ عن أبي حَسَّانَ بنِ مُسلم الأَعْرَجِ عن ابن عَبَّاس ☻ قال: أشْهَدُ أنَّ السَّلف المضمون إلى أجلٍ مسمَّى قد أحلَّه الله في كتابه وأذن فيه، ثمَّ قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282].
          وأخرجه الحَاكِمُ من هذا الوجه وصحَّحه، وروى ابنُ أبي شَيْبَةَ من وجهٍ آخر عن عِكْرِمةً عن ابن عَبَّاس ☻ قال: لا تُسْلِفْ إلى العطاء ولا إلى الحصاد واضرب أجلاً، ومن طريق سَالِمِ بن أبي الجَعْدِ بلفظٍ آخر سيأتي إن شاء الله تعالى.
          (وَأَبُو سَعِيدٍ) هو: الخُدْرِيُّ ☺، وقد وصله عبد الرَّزاق من طريق نُبَيْحٍ _بنون وموحدة ومهملة مصغراً_ العَنَزِيِّ _بفتح العين المهملة والنون وبالزاي_ الكُوْفِيِّ عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ ☺ قال: السَّلَمُ بما يقوم به السعر ربا، ولكن أَسْلِفْ في كيلٍ معلومٍ إلى أجل معلومٍ.
          (وَالأَسْوَدُ) هو: ابن يَزِيْدَ النَّخَعِيُّ. وقد وصله ابن أبي شَيْبَةَ من طريق الثَّوْرِيِّ عن أبي إِسْحَاقَ عنه قال: سألته عن السَّلَمِ في الطَّعام قال: لا بأس / به في كيلٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلوم.
          ومِنْ طريق سَالِمِ بن أبي الجَعْدِ عن ابن عبَّاس ☻ قال: إذا سمَّيت في السَّلَمِ قفيزاً وأجلاً لا بأس، وعن شَرِيْكٍ عن أبي إِسْحَاقَ عن الأَسْوَدِ مثله.
          (وَالْحَسَنُ) قال العَيْنِيُّ: لم أقف على تعليق الحَسَن أقول: لم يقف لعدم تتبُّعه فقد وصله سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ من طريق يونس بن عُبَيْدٍ عنه أنَّه كان لا يرى بأساً في السَّلف بالحيوان إذا كان شيئاً معلوماً إلى أجلٍ معلومٍ. واستدلَّ بقول ابن عَبَّاس ☻ الماضي: لا تسلف إلى العطاء لاشتراط تعيين وقت الأجل بشيءٍ لا يختلف فإنَّ زمن الحصاد يختلف ولو بيوم، وكذلك خروج العطاء ومثله قدوم الحاج.
          وأجاز ذلك مَالِكٌ ووافقه أبو ثَوْرٍ، واختار ابنُ خُزَيْمَةَ من الشَّافعية تأقيته إلى المَيْسَرَةِ، واحتجَّ بحديث عائشة ♦: أنَّ النَّبي صلعم بعث إلى يهوديٍّ ابعث إلي ثوبين إلى المسيرة. وأخرجه النَّسَائِيُّ، وطعن ابنُ المُنْذِرِ في صحَّته.
          وعلى تقدير تسليم صحَّته فالحقُّ أنَّه لا دَلالة فيه على المطلوب؛ لأنَّه ليس في الحديث إلَّا مجرد الاستدعاء فلا يمتنع أنَّه إذا وقع العقد قيِّد بشروطه، ولذلك لم يصف الثَّوبين.
          (وَقال ابْنُ عُمَرَ ☻ : لاَ بَأْسَ فِي الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ، بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، مَا لَمْ يَكُ ذَلِكَ) أصله ما لم يكن، حذفت النون منه تخفيفاً، ويقال: حملاً على التَّنوين، ويُرْوَى على الأصل (فِي زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ) وهذا التَّعليق وصله مَالِكٌ في «الموطأ» عن نَافِعٍ عنه قال: لا بأس بأن يسلف الرَّجل في الطَّعام الموصوف، فذكر مثله وزاد: أو ثمرة لم يبد صلاحها.
          وأخرجه ابنُ أبي شَيْبَةَ من طريق عُبَيْدِ الله بن عُمَرَ عن نَافِعٍ نحوه، وهذا كما رأيت أساطين الصَّحابة عبدُ الله بن عَبَّاس وأبو سعيد الخُدْرِيُّ، وعبدُ الله بنُ عُمَرَ بن الخَطَّابِ ♥ شرطوا الأجل في السَّلَمِ، وكذا من أساطين التَّابعين الأَسْوَدُ والنَّخَعِيُّ والحَسَنُ البَصْرِيُّ.
          وهذا كلُّه حجَّة على مَنْ يرى جواز السَّلَمِ الحالِّ من الشَّافعية وغيرهم، وقد تقدَّم البحث في ذلك آنفاً.