نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه

          1190- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) أبو محمد التِّنيسي، وقد تكرَّر ذكره (قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) الإمام (عَنْ زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ) بفتح الراء وتخفيف الموحدة وبالحاء المهملة، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، قال الكلاباذي: روى مالك عنه، (وَ) عن (عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ) بفتح الهمزة والغين المعجمة وتشديد الراء، هو: سليمان بن أبي عبد الله شيخ الزُّهري، كان قاصًّا من أهل المدينة، وقد مرَّ في باب «الاستماع إلى الخطبة» [خ¦929].
          (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا) يدلُّ على أنَّ تضعيف الصَّلاة في مسجد المدينة يختصُّ بمسجده صلعم الذي كان في زمانه مسجداً دون ما زيد فيه بعده في زمن الخلفاء الرَّاشدين ومن بعدهم تغليباً لاسم الإشارة.
          وبه صرَّح النَّووي فخصَّ التَّضعيف بذلك بخلاف المسجد الحرام، فإنَّه لا يختصُّ بل يشمل جميع مكة، بل صحَّح النَّووي أنَّه يعم جمع الحرم على ما نقله الحافظ العسقلانيُّ.
          قال العينيُّ: إذا اجتمع الاسم والإشارة هل تُغلَّب الإشارة أو الاسم فيه خلاف، فمال النَّووي إلى تغليب الإشارة، فعلى هذا إذا قال المأموم: نويتُ الاقتداء بزيد هذا، فإذا هو عمرو يصحُّ اقتداؤه تغليباً للإشارة.
          وجزم ابن الرِّفعة بعدم الصحة، وقال: لأنَّ ما لا يجب تعيينه، إذا عيَّنه وأخطأ في التَّعيين أفسد العبادة، وأمَّا مذهبنا في هذا فالذي يظهر لعلها من قولهم أنَّه إذا اقتدى بفلانٍ بعينه ثمَّ ظهر أنَّه غيره لا يجزئه إذ الاسم يغلب الإشارة.
          (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) قال الكرمانيُّ: الاستثناء يحتمل أمور ثلاثة: أن يكون مساوياً لمسجد الرَّسول صلعم وأفضل منه وأدون منه، بأن يراد أنَّ مسجد المدينة ليس خيراً / منه بألف صلاةٍ بل خير منه بتسعمائة مثلاً ونحوه.
          وقال ابن بطَّال: يجوز في هذا الاستثناء أن يكون المراد منه، فإنَّه مساوٍ لمسجد المدينة أو فاضل أو مفضول، والأوَّل أرجح؛ لأنَّه لو كان فاضلاً أو مفضولاً لم يعلم مقدار ذلك إلَّا بدليلٍ بخلاف المساواة، انتهى.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وكأنَّه لم يقف على دليل الثَّاني، وقد أخرجه الإمام أحمد وصحَّحه ابن حبان من طريق عطاء عن عبد الله بن الزُّبير ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((صلاة في مسجدي هذا أفضلُ من ألف صلاةٍ فيما سواه من المساجد إلَّا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا)).
          وفي رواية ابن حبَّان: ((وصلاةٌ في ذلك أفضل من مائة صلاةٍ في مسجد المدينة)).
          قال ابن عبد البرِّ: اختُلِفَ على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت، ومثله لا يقال بالرأي، وعند ابن ماجه من حديث جابر ☺ مرفوعاً: ((صلاةٌ في مسجدِي أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه إلَّا المسجد الحرام، وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاةٍ فيما سواه)).
          وفي بعض النُّسخ: ((من مائة صلاة فيما سواه)) فعلى الأول: معناه فيما سواه إلَّا مسجد المدينة، وعلى الثَّاني: معناه من مائة صلاةٍ في مسجد المدينة.
          ورجال إسناده ثقاتٌ لكنَّه من رواية عطاء عنه، قال ابن عبد البرِّ: وجائزٌ أن يكون عند عطاء عنهما.
          ويؤيِّده أنَّ عطاء إمامٌ واسع الرِّواية معروف بالرِّواية عن جابر وابن الزُّبير ♥ .
          وروى البزَّار والطَّبراني من حديث أبي الدَّرداء ☺ رفعه: ((الصَّلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاةٍ، والصَّلاة في مسجدي بألف صلاةٍ، والصَّلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاةٍ)).
          قال البزَّار: إسناده حسنٌ، فوضح بذلك أنَّ المراد بالاستثناء تفضيل المسجد الحرام، وهو قول عامَّة أهل الفقه والأثر.
          وهو يردُّ على تأويل عبد الله بن نافع وغيره فيما رواه ابن عبد البرِّ من طريق يحيى بن يحيى الليثيِّ أنَّه سأل عبد الله بن نافع صاحب مالك عن تأويل هذا الحديث، فقال: معناه أنَّ الصَّلاة في مسجد رسول الله صلعم أفضل من الصَّلاة في الكعبة بدون ألف صلاة، وأفضل من الصَّلاة في سائر المساجد بألف صلاة، وقال بذلك جماعةٌ من المالكيين ورواه بعضهم عن مالك.
          قال ابن عبد البرِّ: لفظ «دون» يشمل الواحد، فيلزم أن يكون الصَّلاة في مسجد المدينة أفضل من الصَّلاة في مسجد مكة بتسعمائة وتسع وتسعين صلاة، وإذا كان كذلك لم يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلَّا بالجزء اللَّطيف، وفيه نظرٌ.
          قال: وزعم بعض / أصحابنا أنَّ الصَّلاة في مسجد المدينة أفضل من الصَّلاة في مسجد مكة بمائة صلاة.
          واحتجَّ برواية سليمان بن عتيق عن ابن الزُّبير عن عمر ☺ قال: ((صلاةٌ في المسجد الحرام خيرٌ من مائة صلاةٍ فيما سواه)).
          وتعقِّب بأنَّ المحفوظ بهذا الإسناد بلفظ: ((صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه إلَّا مسجد الرَّسول، فإنَّما فضله عليه بمائة صلاةٍ)).
          ورواه عبد الرَّزاق عن ابن جريج قال: أخبرني سليمان بن عتيق وعطاء عن ابن الزُّبير أنَّهما سمعاه يقول: ((صلاة في المسجد الحرام خيرٌ من مائة صلاةٍ فيه)) يشير إلى مسجد المدينة.
          وللنَّسائي من رواية موسى الجهنيِّ عن نافع عن ابن عمر ☻ ما يؤيِّد هذا، ولفظه كلفظ أبي هريرة ☺، وفي آخره: ((إلَّا المسجد الحرام فإنَّه أفضل منه بمائة صلاة)).
          ثمَّ إنَّ هذا الخلاف في أنَّ الصَّلاة في أيَّ المسجدين أفضل مبني على الخلاف في أيِّ البلدين أفضل، فذهب عمر وبعض الصَّحابة ♥ وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة، واستدلُّوا بقوله صلعم : ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)) مع قوله صلعم : ((موضع سوطٍ في الجنةَّ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها)).
          لكن قال ابنُ عبد البر: هذا استدلالٌ بالخبر في غير ما ورد فيه، ولا يقاوم النَّص الوارد في فضل مكة.
          ثمَّ إنَّهم حملوا الاستثناء في قوله: ((إلا المسجد الحرام)) على معنى: فبأقل من الألف، وذهب الكوفيُّون والمكِّيون وابن وهب وابن حَبيب، وحكي عن مالك أيضاً إلى تفضيل مكَّة، واحتجُّوا بحديث أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء قال: رأيتُ رسول الله صلعم واقفاً على راحلتهِ بمكة، وهو يقول: ((والله إنَّكِ لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أنِّي أُخرجتُ منك ما خرجتُ)) وهو حديثٌ صحيحٌ أخرجه أصحاب السُّنن وصحَّحه التِّرمذي وابن خزيمة وابن حبَّان وغيرهم.
          وعند أحمد عن أبي هريرة ☺ بسندٍ جيدٍ قال: وقف رسول الله صلعم بالحَزْورة فقال: ((علمت أنَّكِ خير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله ╡)). وعن ابن عبَّاس ☻ قال رسول الله صلعم لمكَّة: ((ما أطيبك من بلدٍ وأحبَّك إليَّ)) الحديث، قال التِّرمذي: حديث صحيحٌ غريبٌ.
          وعند أبي داود عن عائشة ♦: أنَّ النَّبي صلعم / قال بالمدينة ورفع يديه حتَّى يرى بياض إبطيه: ((اللهم أنت بيني وبين فلان وفلان لرجال سماهم، فإنَّهم أخرجوني من مكَّة، وهي أحبُّ أرض الله إليَّ)).
          وقال ابن عبد البرِّ: هذا نصٌّ في محلِّ الخلاف، فلا ينبغِي العدول عنه، والله أعلم.
          وقد رجعَ عن تفضيل المدينة كثيرٌ من المنصفين من المالكيَّة، وقال القاضي عياض: أجمعوا على أنَّ موضعَ قبره صلعم أفضلُ بقاع الأرض.
          وتعقِّب بأنَّ هذا لا يتعلَّق بالبحث المذكور؛ لأنَّ محله ما يترتَّب عليه الفضلُ للعابد، وتكون العبادة فيه أفضلُ وأكثر ثواباً، ولا يُعدُّ في هذا: الموضعُ الشَّريف.
          وأجاب القرافيُّ بأنَّ سبب التَّفضيل لا ينحصر في كثرة الثَّواب على العمل بل قد يكون لغيرها كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود بل يلزم أن لا يكون المصحف نفسه أفضل من غيره لتعذُّر العمل به، وهو خلاف المعلوم من الدِّين بالضَّرورة، كذا قال الكرمانيُّ.
          وقال النَّووي في «شرح المهذب»: لم أر لأصحابنا نقلاً في ذلك، وقال ابن عبد البرِّ: إنَّما يحتجُّ بقبر رسول الله صلعم على من أنكر فضلها أمَّا من أقرَّ به، وإنَّه ليس أفضل بعد مكَّة منها، فقد أنزلها منزلتها.
          وقال غيره: سبب تفضيل البقعة التي ضمَّت أعضاءه الشَّريفة أنَّه روي: أنّ المرء يدفن في البقعة التي أخذ منها ترابه عندما يخلق، رواه ابن عبد البرِّ في أواخر كتابه «التمهيد» من طريق عطاء الخراسانيِّ موقوفاً.
          وعلى هذا فقد روى الزُّبير بن بكَّار: أنَّ جبريل ◙ أخذ التُّراب الذي خُلِق منه النَّبي صلعم من تراب الكعبة، فعلى هذا فتلك البقعة التي ضمَّت أعضاءه صلعم من تراب الكعبة، فرجع الفضل المذكور إلى مكَّة إن صحَّ ذلك، والله أعلم.
          واختلفوا هل يراد بالصَّلاة المضاعف ثوابها في المسجدين الفريضة، أو العام منها ومن النفل، وإلى الأول ذهب الطَّحاوي لقوله صلعم : ((أفضلُ صلاة المرءِ في بيته إلَّا المكتوبة)).
          ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه، فتكون صلاة النَّافلة في بيت بالمدينة أو مكة يضاعف على صلاتها في بيت بغيرهما، وكذا في المسجدين وإن كانت في البيوت أفضل مطلقاً.
          وقال النَّووي: مذهبنا أنَّه يعمُّ الفرض والنَّفل جميعاً، ثمَّ إنَّ التَّضعيف المذكور يرجع إلى الثَّواب، ولا يتعدَّى إلى الإجزاء باتِّفاق العلماء كما نقله النَّووي وغيره، فلو كان عليه صلاتان فصلَّى في أحد المسجدين صلاةً لم يَجْزِهِ إلا عن واحدةٍ.
          وقد أوهم كلام المقرئ أبو بكر النَّقاش في «تفسيره» خلاف / ذلك فإنَّه قال فيه: حسبت الصَّلاة بالمسجد الحرام، فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة، انتهى.
          وهذا مع قطع النَّظر عن التَّضعيف بالجماعة، وقد روى ابن ماجه من رواية رزيق الألهاني عن أنس ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((صلاة الرَّجل في بيته بصلاةٍ، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمعُ فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمس آلاف صلاةٍ، وصلاته في مسجدِي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاةٍ)) وفي سنده أبو الخطَّاب الدِّمشقي يحتاج إلى الكشف (1)، والله أعلم.
          ورجال إسناد حديث الباب ما بين دمشقيٍّ ومدنيٍّ، وفيه أنَّ شيخه من إفراده، وفيه رواية مالكٍ عن شيخين وهما: زيد وعبيد الله.
          وفيه: رواية الابن عن الأب، وقد أخرج متنه مسلم في «المناسك»، والتِّرمذي في «الصَّلاة»، والنسائي في «الحج»، وابن ماجهْ في «الصَّلاة».


[1] قال البُوصيري في «مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه»: أبو الخطاب الدمشقي لا يوف حاله.
قال الذهبي في «الميزان» (4/520): ليس بالمشهور ثم ساق حديثاً يذكر فيه أن الصلاة في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، ثم قال منكر جداً.