نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام

          1188- 1189- (حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ) بن الحارث النَّمْري (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) أي: ابن الحجَّاج (قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ) هو: <ابن عمير>، كما وقع في رواية منسوباً، وعُمير بضم العين مصغراً، وعبد الملك هو المعروف بالقِبْطيِّ لأنَّه كان له فرسٌ سابقٌ يعرف بالقِبْطيِّ نسب إليه، وكان على قضاء الكوفة بعد الشَّعبي، مات سنة ست وثلاثين ومائة وله من العمر يوم مات مائة سنة وثلاث سنين، وقد مرَّ ذكره في باب «أهل العلم أولى بالإمامة» [خ¦678].
          (عَنْ قَزَعَةَ) بالقاف والزاي والعين المهملة كلها مفتوحة، وقال صاحب «جامع الأصول» أكثر ما سمعتهم يقولون: بسكون الزاي، هو ابن يحيى، وقيل: ابن الأسود، مولى زياد، وسيأتي بعد خمسة / أبواب في هذا الإسناد: «سمعت مولى زياد» [خ¦1197]، وهو هذا وزياد مولاه هو: ابن أبي سفيان الأمير المشهور، ورواية عبد الملك بن عمير عنه من رواية الأقران لأنَّهما من طبقةٍ واحدةٍ.
          (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ) الخدري ☺ (أَرْبَعاً) أي: يذكر أربع كلماتٍ أو المعنى سمعتُه يحدِّث أربعاً، وسيأتي هذه الأربع مفصَّلة بعد خمسة أبواب [خ¦1197] (قَالَ: سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلعم ) قال قزعة (وَكَانَ غَزَا) أي: أبو سعيد ☺ (مَعَ النَّبِيِّ صلعم ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً) هكذا اقتصر المؤلف ☼ على هذا القدر ولم يذكر من المتن شيئاً وذكر بعده حديث أبي هريرة ☺ في شدِّ الرِّحال كما سيأتي [خ¦1189] فظنَّ الدَّاودي الشَّارح أنَّ البخاري ساق الإسناد لهذا المتن، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ حديث أبي سعيدٍ ☺ مشتمل على أربعة أحكام كما سيأتي، وحديث أبي هريرة مقتصرٌ على شدِّ الرِّحال (1) فقط لكن لا يمنع ذلك الجمع بينهما في سياقٍ واحدٍ بناءً على قاعدة البخاريِّ في إجازة اختصار الحديث؛ يعني: أنَّ الحديثين لما كانا مشتركين في شدِّ الرِّحال اقتصر في حديث أبي سعيدٍ ☺ على ما ذكره طلباً للاختصار، وقيل: كأنَّه قصد بذلك الإغماض لينبِّه على فائدة الحفظ (2) على أنَّه ما أخلاه عن الذِّكر فإنَّه ساقه بتمامه بعد خمسة أبواب [خ¦1197].
          (ح) تحويل من إسنادٍ إلى إسنادٍ آخر.
          (وَحَدَّثَنَا) الأولى حذف الواو بعد حاء التحويل، كما في نسخةٍ (عَلِيٌّ) هو: ابن المديني، وقد تكرر ذكره (قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هو: ابن عُيينة (عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ) هو: <ابن المسيب>، كما في نسخة.
          (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: لاَ تُشَدُّ) على صيغة المجهول بلفظ النفي بمعنى النهي؛ أي: لا تشدُّوا، ونكتة العدول عن النَّهي إلى النَّفي إظهار الرَّغبة في وقوعه، أو لحمل السَّامع على التَّرك أبلغ محمل بألطف وجهٍ.
          وقال الطِّيبي: النَّفي أبلغ من صريح النَّهي كأنهَّ قال: لا يستقيم أن يقصدَ بالزِّيارة إلَّا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصَّت به.
          (الرِّحَالُ) بالحاء المهملة، جمع: رحل، وهو للبعير كالسَّرج للفرس، وهو أصغرُ من القتب، وشدُّ الرَّحل كنايةٌ عن السَّفر؛ لأنَّه لازمه، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر، وإلَّا [فلا] فرق بين ركوب الرَّواحل والخيل والبغال والحمير والمشي / في المعنى المذكور.
          ويدلُّ عليه قوله في بعض طرقه: «إنَّما يُسافَر إلى ثلاثة مساجدٍ» أخرجه مسلم من طريق عمران بن أبي أنس عن سلمان الأغر عن أبي هريرة ☺.
          ووقع في رواية لمسلم: ((تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد))، فذكره من غير حصرٍ، وليس في هذه الرِّواية منع شدِّ الرحل إلى غيرها إلَّا على القول بحجية مفهوم العدد، والجمهور على أنَّه ليس بحجَّةٍ.
          (إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ) الاستثناء مفرغ، والتَّقدير: لا تشدُّ الرِّحال إلى موضع أو مكان لأي أمر كان. ويلزم منه أن لا يجوز السَّفر إلى كلِّ موضع غيرها حتَّى لا يجوز السَّفر لزيارة إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، وذلك لأنَّ المستثنى منه في المفرَّغ لا بدَّ أن يقدر أعم العامِّ.
          لكن يمكن أن يقال: بأنَّ المراد بأعمِّ العامِّ أعم ما يناسب المستثنى نوعاً ووصفاً كما إذا قلت: ما رأيتُ إلا زيداً كان تقديره: ما رأيت رجلاً إلا زيداً، لا ما رأيت شيئاً أو حيواناً، فهاهنا تقديره: لا تشد الرِّحال إلى مسجد للصَّلاة فيه إلَّا إلى هذه الثلاثة.
          (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) بالخفض على البدلية، ويجوز الرفع بتقدير مبتدأ، و«الحرام» بمعنى المحرم.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: هو كقولهم: الكتاب بمعنى المكتوب، وتعقَّبه العينيُّ بأنَّ هذا القياس غير صحيحٍ؛ لأنَّ الكتاب على وزن فِعال بالكسر، والحَرام فَعال بالفتح، فكيف يقاس عليه، وإنَّما الحرام اسمٌ للشَّيء المحرم، والمراد به: جميع الحرم، كما قال تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28].
          وقيل: يختصُّ بالموضع الذي يُصلَّى فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم.
          قال الطَّبري: ويتأيَّد بقوله في الرِّواية الأخرى: «ومسجدي» [خ¦1197] هذا لأنَّ الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة فينبغي أن يكون المستثنى الآخر كذلك.
          وقيل: المراد به: الكعبة، كما قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] حكاه المحبُّ الطَّبري.
          وذكر أنَّه يتأيَّد بما رواه النَّسائي بلفظ: «إلَّا الكعبة»، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الذي عند النَّسائي: ((إلَّا مسجد الكعبة))، حتَّى لو سقطت لفظة: «مسجد»، لكانت مرادةً، ويؤيِّد الأول ما رواه الطَّيالسي من طريق عطاء أنَّه قيل له: هذا الفضل في المسجد وحده، أو في الحرم قال: بل في الحرم؛ لأنَّه كله مسجد.
          (وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلعم ) اللام فيه للعهد عن سيدنا محمد صلعم ، وفي العدول عن مسجدي إشارةٌ إلى التَّعظيم، ويحتمل أن يكون ذلك من تصرُّف الرواة، ويؤيِّد قوله في حديث أبي سعيدٍ الآتي: ((ومسجدي)) [خ¦1864].
          (وَمَسْجِدِ الأَقْصَى) بإضافة الموصوف إلى الصفة، وفيه خلافٌ فجوَّزه الكوفيُّون واستشهدوا له بقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص:44] / والبصريُّون يؤولونه بإضمار المكان؛ أي: بجانب المكان الغربيِّ، ومسجد المكان الأقصى ونحو ذلك.
          وسمِّي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقيل: في الزَّمان وفيه نظرٌ؛ لأنَّه ورد في الحديث أنَّه كان بينهما أربعون سنة.
          واستُشْكل من حيث إنَّ بين آدم وداود ♂ أضعاف ذلك من الزَّمان.
          وأُجيب بأنَّ الملائكة وضعتهما أولاً، وبينهما في الوضع أربعون سنة وأنَّ داود وسليمان ♂ جددا بنيان المسجد الأقصى كما جدَّد إبراهيم ◙ بناء البيت الحرام.
          وقال الزُّمخشريُّ: سُمِّي الأقصى؛ لأنَّه لم يكن حينئذٍ وراءه مسجد، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبث.
          وقيل: هو أقصى بالنِّسبة إلى مسجد المدينة؛ لأنَّه بعيدٌ من مكَّة وبيت المقدس أبعد منه، وقيل: لأنَّه أقصى موضع من الأرض ارتفاعاً وقرباً إلى السَّماء يقال: قصى المكانُ يقصو قصواً: بَعُدَ.
          ويقال: فلان بالمكان الأقصى والنَّاحية القصوى، وبيت المقْدِس: بسكون القاف وكسر الدال وبفتحهما مع التشديد. والقُدْس: بغير ميم مع ضم القاف وسكون الدال وبضمها، ولبيت المقدس أسماءٌ تقرب من العشرين:
          منها: إيليا، بالمد والقصر وبحذف الياء الأولى.
          ومنها: شلَّم، بالمعجمة وتشديد اللام وبالمهملة، وشلام بالمعجمة. وسَلِم: بفتح المهملة وكسر اللام الخفيفة، وأُوْرِي شَلِم(3) : بضم الهمزة وسكون الواو وبكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة.
          ومن أسمائه: كورة، وبيتُ أَيْل، وصِهْيون، ومَصْروث _آخره مثلثة_، وكورشيلا، وبابوش بموحدتين ومعجمة.
          وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء ╫.
          ولأنَّ المسجد الحرام قبلة النَّاس، وإليه حجهم ومسجد الرَّسول أُسِّس على التَّقوى، وبناه خير البريَّة ╕، ومسجد الأقصى كان قبلة الأمم السَّالفة.
          قال الخطَّابي: والشَّدُّ إلى المسجد الحرام فرض للحجِّ والعمرة، وكانت تشدُّ الرِّحال إلى مسجد رسول الله صلعم في حياته للهجرة، وكانت واجبةً على الكفاية، وأمَّا بيت المقدس فإنَّما هو فضيلةٌ واستحباب.
          واعلم أنَّه اختلف في شدِّ الرِّحال إلى غيرها كالذَّهاب إلى زيارة الصَّالحين أحياءً وأمواتاً، وإلى المواضع الفاضلة لقصد التَّبرك بها والصَّلاة فيها، فقال الشَّيخ أبو محمد الجويني: يحرم شدُّ الرِّحال إلى غيرها عملاً بظاهر الحديث. وأشار / القاضي حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفةٌ: ويدلُّ عليه ما رواه أصحاب «السنن» أنَّه لقي أبو بصرة الغفاري أبا هريرة ☻ ، وهو جاءٍ من الطُّور، فقال: من أين أقبلت. قال: من الطُّور صلَّيت فيه، قال: لو أدركتْك قبل أن ترتحلَ ما ارتحلتَ إنِّي سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((لا تشدُّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد)) الحديث.
          ورجال إسناده ثقاتٌ فدلَّ على أنَّه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبو هريرة ☺، والصَّحيح عند إمام الحرمين، وغيره من الشَّافعية أنَّه لا يحرم ولا يكره. وأجابوا عن الحديث بأجوبةٍ:
          منها: أنَّ المراد أنَّ الفضيلة التَّامة إنَّما هي في شدِّ الرِّحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها، فإنَّه جائزٌ ولا فضيلة فيه.
          وقد وقع في روايةٍ لأحمد سيأتي ذكرها بلفظ: «لا ينبغي للمطيِّ أن تعملَ»، وهو لفظٌ ظاهرٌ في غير التَّحريم.
          ومنها: أنَّ النَّهي مخصوصٌ بمن نذر على نفسه الصَّلاة في مسجدٍ من سائر المساجد غير الثَّلاثة المذكورة، فإنَّه لا يجب الوفاء به، وأمَّا من أراد الصَّلاة في مساجد الصَّالحين والتَّبرك بها متطوعاً بذلك، فمباح بإعمال المطيِّ وغيره، ولا يتوجَّه إليه الذي في هذا الحديث، قاله ابن بطَّال.
          وقال الخطَّابي: اللَّفظ لفظ الخبر ومعناه: الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصَّلاة في البقاع التي يتبرَّك بها؛ أي: لا يلزم الوفاء بشيءٍ من ذلك غير هذه المساجد الثَّلاثة.
          ومنها: أنَّ المراد حكم المساجد فقط، وأنَّه لا تشدُّ الرِّحال إلى مسجدٍ من المساجد للصَّلاة فيه غير هذه الثَّلاثة، فأمَّا قصد غير المساجد من الرِّحلة في طلب العلم وفي التِّجارة وفي التَّنزُّه وزيارة الصَّالحين والأقرباء والأصدقاء والمشاهد، فلا يدخل في النَّهي.
          ويؤيِّده ما روى أحمد من طريق شَهْرِ بن حوشبٍ قال: سمعتُ أبا سعيدٍ ☺ وذكرت عنده الصَّلاة في الطُّور، فقال: قال رسول الله صلعم : ((لا ينبغي للمطيِّ أن تشدَّ رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصَّلاة غير المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)) وشهرُ بن حوشب حسنُ الحديث، وإن كان فيه بعض الضَّعف لكنَّه وثقه جماعةٌ من الأئمَّة.
          ومنها: أنَّ المراد قصدها بالاعتكاف فيما حكاه الخطَّابي عن بعض السَّلف أنَّه قال: لا يعتكف / في غير هذه الثَّلاثة.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: ولم أرَ عليه دليلاً، واستدلَّ بهذا الحديث على أنَّ من نذر إتيان غير هذه المساجد الثَّلاثة لصلاةٍ أو غيرها لم يلزمه ذلك؛ لأنَّها لا فضل لبعضها على بعضٍ في كفي صلاته في أيِّ مسجدٍ كان.
          قال مالك ☼ : من نذر صلاةً في مسجدٍ لا يُصلَّى إليه إلَّا براحلةٍ؛ فإنَّه يصلي في بلده إلَّا أن ينذر في مسجد مكة والمدينة أو بيت المقدس، فعليه السَّير إليها.
          وقال النَّووي: لا اختلاف في ذلك إلَّا ما روي عن الليث أنَّه قال: يجب الوفاء به، وعن الحنابلة رواية: يلزمه كفارة يمين، ولا ينعقد نذره.
          وعن المالكية رواية: إن تعلَّقت به عبادة تختصُّ به كرباطٍ لَزِمَ وإلَّا فلا، وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنَّه يلزم في مسجد قباء؛ لأنَّ النَّبي صلعم كان يأتيه كلَّ سبتٍ كما سيأتي [خ¦1193]، واستدلَّ به أيضاً على أنَّ من نذر إتيان أحد هذه المساجد لزمه ذلك، وبه قال مالك وأحمد والشَّافعي في «البويطي»، واختاره أبو إسحاق المروزيُّ.
          وقال أبو حنيفة ☼ : لا يجب مطلقاً، وقال الشَّافعي في «الأم»: يجب في المسجد الحرام لتعلُّق النُّسك به بخلاف المسجدين الآخرين، وهذا هو المنصوص لأصحاب الشَّافعي.
          وقال ابن المنذر: يجب إلى الحرمين وأمَّا الأقصى فلا، واستأنس بحديث جابر ☺: أنَّ رجلاً قال للنَّبي صلعم : إنِّي نذرت إن فتحَ الله عليك مكَّة أن أصلِّي في بيت المقدس قال: ((صلِّ هاهنا)).
          وقال ابن التِّين: الحجَّة على الشَّافعي أنَّ إعمال المطي إلى مسجد المدينة والمسجد الأقصى والصَّلاة فيهما قربةٌ، فوجب أن يلزمَ بالنذر كالمسجد الحرام، انتهى.
          وقال الغزاليُّ عند ذكر إتيان المساجد: فلو قال: آتي مسجد الخيف فهو كمسجد الحرام؛ لأنَّه من الحرم، وكذلك أجزاء سائر الحرم قال: ولو قال: آتي مكة لم يلزمه شيءٌ إلَّا إذا قصد الحج.
          وقال الشَّيخ زين الدين: لا وجه لتفرقته بين مكَّة وسائر أجزاء الحرم، فإنَّها من أجزاء الحرم.
          قال الرَّافعي: لو قال: أمشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام أو إلى مكَّة، أو ذكر بقعةً أخرى من بقاع الحرم، كالصفا والمروة ومسجد الخيف ومنى ومزدلفة، ومقام إبراهيم ◙ وقبة زمزم وغيرها، فهو كما لو قال إلى بيت الله الحرام، حتَّى لو قال: آتي دار أبي جهلٍ، أو دار الخيزران كان الحكم كذلك لشمول حرمة الحرم له بتنفير الصَّيد وغيره.
          وعن أبي حنيفة ☼ أنَّه لا يلزمه المشي إلَّا أن يقول: إلى بيت الله الحرام، أو قال مكَّة، أو إلى الكعبة، أو إلى مقام إبراهيم ◙. /
          وحكى الرَّافعي عن القاضي ابن كج أنَّه قال: إذا نذر أن يزورَ قبر النَّبي صلعم ، فعندي أنَّه يلزمه الوفاء به وجهاً واحداً قال: ولو نذرَ أن يزور قبر غيره ففيه وجهان عندي.
          وقال الكرمانيُّ: وقع في هذه المسألة في عصرنا في البلاد الشَّامية مناظرات كثيرة، وصنف فيها رسائل من الطَّرفين، انتهى.
          يريد به ما ردَّ به الشَّيخ تقي الدِّين السبكي وغيره على الشَّيخ تقي الدين ابن تيميَّة، وما انتصر به الحافظ شمس الدِّين بن عبد الهادي وغيره لابن تيمية، وهي مشهورةٌ، وحاصلها: أنَّهم ألزموا ابن تيميَّة بتحريم شدِّ الرَّحل إلى زيارة قبر النَّبي صلعم ، وأنكر ناصروه ذلك.
          وفي شرح ذلك من الطَّرفين طول، وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيميَّة، ومن جملة ما استدلَّ به على رفع ما ادَّعاه غيره من الإجماع على مشروعيَّة زيارة قبر النَّبي صلعم ما نقل عن مالك أنَّه كره أن يقول: زرتُ قبر النَّبي صلعم .
          وقد أجاب عنه المحقِّقون من أصحابه بأنَّه كره اللفظ أدباً لا أصل الزِّيارة، فإنَّها من أفضل الأعمال، وأجل القرب الموصلة إلى ذي الجلال، وأنَّ مشروعيتها محلُّ إجماعٍ بلا نزاع، والله الهادي إلى الصَّواب.
          وقال السُّبكي الكبير: ليس في الأرض بقعةٌ لها فضلٌ لذاتها حتَّى تشدَّ الرِّحال إليها لذلك الفضل غير البلاد الثَّلاثة، ومرادي بالفضل: ما شهد الشَّرع باعتباره، ورتَّب عليه حكماً شرعيًّا، وأمَّا غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها بل لزيارة أو جهاد أو علمٍ ونحو ذلك من المندوبات أو المباحات.
          قال: وقد التبس ذلك على بعضهم، فزعم أنَّ شدَّ الرِّحال إلى الزِّيارة لمن في غير الثَّلاثة داخل في المنع، وهو خطأ؛ لأنَّ الاستثناء إنَّما يكون من جنس المستثنى منه، فمعنى الحديث: لا تشدُّ الرِّحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكانٍ من الأمكنة لأجل ذلك المكان إلَّا إلى الثَّلاثة المذكورة، وشدُّ الرَّحل إلى زيارةٍ أو طلب علمٍ ليس إلى المكان بل إلى من في ذلك المكان، والله أعلم.
          ثمَّ إنَّ رجال الإسناد الأول ما بين مصريٍّ وواسطيٍّ وكوفيٍّ، وفيه رواية الأقران؛ لأنَّ عبد الملك وقزعة من طبقةٍ واحدةٍ.
          وفيه رواية التَّابعي عن التَّابعي عن الصَّحابي، وقد أخرج متنه المؤلف في «الصَّلاة ببيت المقدس» [خ¦1197]، وفي «الحج» [خ¦1864] وفي «الصوم» أيضاً [خ¦1995]. / وأخرجه مسلم في «المناسك»، والتِّرمذي في «الصَّلاة»، والنسائي في «الصوم»، وابن ماجه فيه وفي «الصَّلاة».
          ورجال الإسناد الثَّاني ما بين مكيٍّ ومدنيٍّ، وفيه رواية التَّابعي عن التَّابعي عن الصَّحابي، وقد أخرج متنه مسلم في «الحجِّ»، وكذا أبو داود فيه، والنسائي في «الصَّلاة».
          تتمة: وفي هذا الباب عن بصرة بن أبي بصرة رواه ابن حبَّان عنه سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((لا يُعمل المطي إلَّا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس)) شكَّ أيُّهما قال.
          وعن أبي بصرة أيضاً رواه أحمدُ والبزَّار في «مسنديهما» والطَّبراني في «الكبير» و«الأوسط» من رواية عمر بن عبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام أنَّه قال: لقيَ أبو بصرة الغفاري أبا هريرة ☻ وهو جاءٍ من الطُّور، فقال: من أين أقبلت؟ قال: من الطُّور صلَّيت فيه، قال: لو أدركتك قبل أن ترتحلَ ما ارتحلت إنِّي سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((لا تشدُّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد)) الحديث، ورجال إسناده ثقاتٌ.
          قال الذَّهبي: بصرة بن أبي بصرة الغفاري هو وأبوه صحابيان ☻ نزلا مصر، واسم أبي بصرة: حُمَيل، وقيل: حَميل بن بصرة.
          وحُمَيل: بضم الحاء المهملة، وقيل: بفتحها، والأول: هو الأصح.
          وعن عبد الله بن عمرو ☻ مثله رواه ابن ماجه، وعن أبي هريرة ☺ أيضاً رواه الطَّبراني في «الأوسط» عنه يرفعه: ((لا تشدُّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الخيف، والمسجد الحرام، ومسجدي هذا)) وقال: لم يذكر الخيف في شدِّ الرِّحال إلَّا في هذا الحديث.
          قال صاحب «التلويح»: وهو لعمري سندٌ جيد لولا قول البخاريُّ لا يتابع خيثم في ذكر مسجد الخيف، ولا يعرف له سماع من أبي هريرة ☺.
          وقال العينيُّ: خيثم هو: ابن مروان، ذكره ابن حبَّان في «الثقات» وهو الذي روى هذا الحديث عن أبي هريرة ☺.
          وعن جابرٍ ☺ رواه أحمد عنه عن رسول الله صلعم أنَّه قال: ((خيرُ ما ركبت إليه الرَّواحل مسجدي هذا، والبيت العتيق)).
          وعن عمر بن الخطَّاب ☺ أخرج حديثه البزَّار من رواية أبي العالية / عن ابن عمر عن عمر ☻ : أنَّ النَّبي صلعم قال: ((لا تشدُّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد)) الحديث.
          وفي كتاب «العلم» المشهور لأبي الخطَّاب رُوِيَ حديثٌ موضوع رواه محمَّد بن خالد الجَنَدي عن المثنى بن الصَّباح مجهولٌ عن متروك عن عَمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه يرفعه: ((لا تعمل الرِّحال إلَّا إلى أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى، وإلى مسجد الجَنَد)).


[1] من قوله: ((كما سيأتي... إلى قوله: شد الرحال)): ليست في (خ).
[2] من قوله: ((☺... إلى قوله: فائدة الحفظ)): ليست في (خ).
[3] في هامش الأصل: قال الأعشى:
~وقد طفت للمال آفاقه                     دمشق فحِمْص فأُوْرِى شلِم. منه.