نجاح القاري لصحيح البخاري

باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً

          ░5▒ (بابُ صَلاَةِ الطَّالِبِ وَ) صلاة (الْمَطْلُوبِ) حال كونه (رَاكِباً وَإِيمَاءً) أي: وحال كونه مومئاً، وفي بعض النسخ: <أو قائماً> من القيام، وبكلمة ((أو)) وفي بعضها: <وقائماً> بكلمة الواو، وقد اتَّفقوا على صلاة المطلوب راكباً، واختلفوا في الطَّالب، فمنعه أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
          وقال مالك: يصلِّي راكباً حيث توجَّه إذا خاف فوت العدو إن نزل، وقال الأوزاعيُّ والشافعيُّ في أحد قوليه كأبي حنيفة، وهو قول عطاء والحسن والثوري وأحمد وأبي ثور، وعن الشافعيِّ: إن خاف الطالب فوت المطلوب أومأ وإلَّا فلا.
          (وَقَالَ الْوَلِيدُ) بفتح الواو، هو ابن مسلمٍ القرشيُّ الأمويُّ الدِّمشقي يكنى أبا العبَّاس، وقال كاتب الواقدي: حج سنة أربع وستين ومائة، ثمَّ انصرف فمات في الطَّريق قبل أن يصل إلى دمشق (ذَكَرْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ) هو عبد الرحمن بن عمرو (صَلاَةَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمِط) بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الحاء المهملة وكسر الموحدة بعدها مثناة تحتية وفي آخره لام في الاسم الأول وبفتح السين المهملة وكسر الميم على وزن الكتف في الاسم الثاني، قاله الغسَّانيُّ.
          وقال ابن الأثير: بكسر السين المهملة وسكون الميم، ابن الأسود الكندي أبو زيد، ويقال أبو السَّمِط الشَّامي مختلف في صحبته، ذكره في «الكامل» من التَّابعين وقال: ويقال: له صحبة، ويقال: لا صحبة له.
          وذكره محمَّد بن سعد في الطبقة الرابعة، وقال: جاهليٌّ إسلامي، وفد إلى النبيِّ صلعم وقد شهد القادسيَّة وولي حمص، وهو الذي افتتحها وقسمها منازل.
          وقال النسائيُّ: ثقة، وقال أحمد بن محمد بن عيسى البغدادي صاحب «تاريخ الحمصيين»: توفي بسلميَّة سنة ست وثلاثين، ويقال: سنة أربعين، ويقال: مات بصفين، وليس له في البخاريِّ غير هذا الموضع. /
          (وَ) صلاة (أَصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَقَالَ) أي: الأوزاعي، وفي رواية: <قال> (كَذَلِكَ الأَمْرُ) أي: أداء الصَّلاة على ظهر الدابة بالإيماء، وهو الشَّأن والحكم (عِنْدَنَا إِذَا تُخُوِّفَ) الرَّجل (الْفَوْتُ) أي: عند خوف فوات الوقت أو فوات العدو أو فوات النفس، ويجوز في الفعل البناء للمفعول، ورفع «الفوتُ» نائباً عن الفاعل، وزاد المستملي كما ذكره الحافظ العسقلانيُّ: <في الوقت>.
          (وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ) أي: الوليد المذكور لمذهب الأوزاعي في مسألة الطالب (بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم ) الآتي [خ¦946] (لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) ووجه الاستدلال به بطريق الأولويَّة؛ لأنَّ الذين أخَّروا الصَّلاة حتَّى وصلوا إلى بني قُريظة لم يعنِّفهم النبيُّ صلعم مع كونهم فوَّتوا الوقت، فصلاة من لا يفوِّت الوقت بالإيماء، أو كيف ما يمكن أولى من تأخير الصَّلاة حتَّى يخرج وقتها، كذا ذكره العينيُّ وتبعه القسطلانيَّ.
          وفيه: أنَّ في قصَّة بني قريظة عدم التَّعنيف على من تركه أوَّل الوقت وأخَّر الصَّلاة، وعلى من فهم أنَّه كناية عن السُّرعة فقال: بل نصلِّي، كما سيأتي، فافهم.
          وقال الداوديُّ: احتجاج الوليد بحديث بني قريظة ليس بذلك؛ لأنَّه قبل نزول صلاة الخوف، قال: وقيل إنَّما صلى شُرحبيل على ظهر الدابَّة؛ لأنَّه طمع في فتح الحصن فصلَّى إيماء ثمَّ فتحه.
          وقال ابن بطَّال: وأمَّا استدلال الوليد بقصَّة بني قريظة على صلاة الطالب راكباً، فلو وُجِد في بعض طرق الحديث أنَّ الذين صلوا في الطَّريق صلُّوا ركباناً؛ لكان بيِّناً، ولمـَّا لم يوجد ذلك احتُمل أن يُقال: إنَّه يستدلُّ بأنه كما ساغ للذين صلُّوا في بني قريظة مع ترك الوقت وهو فرض، كذلك ساغ للطَّالب أن يُصلِّي في الوقت راكباً بالإيماء، ويكون تركه للرُّكوع والسجود كترك الوقت.
          ويقال: لا حجَّة في حديث بني قريظة؛ لأنَّ النبيَّ صلعم إنَّما أراد سرعة سيرهم، ولم يجعل لهم بني قريظة موضعاً للصَّلاة، وقال الحافظ العسقلانيُّ: معناه: أنَّ الوليد قوَّى مذهب الأوزاعي في مسألة الطالب بهذه القصَّة.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه لا يفهم من احتجاج الوليد بالحديث تقوية ما ذهب إليه الأوزاعيُّ صريحاً.
          ثمَّ هذا التَّعليق رواه الطبريُّ وابن عبد البرِّ من وجه آخر عن الأوزاعي قال: قال شُرحبيل بن السَّمِط لأصحابه: لا تصلُّوا الصُّبح إلَّا على ظهرٍ، فنزل الأشتر _يعني: النخعيَّ_ فصلَّى بالأرض، فقال شرحبيل: مخالف خالف الله به.
          وروى ابن أبي شيبة عن وكيع: حدثنا ابن عون عن رجاء بن حَيْوة الكندي، قال: كان ثابت بن السَّمِط أو السَّمِط بن ثابت في مسيرٍ في خوف فحضرت الصَّلاة، فصلوا ركباناً، فنزل / الأشتر، فقال: ما له؟ فقالوا: نزل يصلِّي، قال: ما له خالَف؟ خولف به. انتهى.
          وذكر ابن حبَّان: أنَّ ابن ثابت بن السَّمِط أخو شرحبيل بن السَّمط، فيشبه أن يكونا في ذلك الجيش، فنسب إلى كلٍّ منهما.
          وقد ذكر جماعة شرحبيل في الصَّحابة، وثابتاً في التَّابعين، وقال ابن بطَّال: طلبت قصَّة شرحبيل بن السَّمِط بتمامها لأتبين هل كانوا طالبين أو لا؟
          فذكر الفزاريُّ في «السنن»: عن ابن عون عن رجاء عن ثابت بن السَّمِط أو السَّمِط قال: كانوا في السفر في خوفٍ فصلُّوا ركباناً، فالتفت فرأى الأشتر قد نزل للصَّلاة، فقال: خالف خُولِفَ به، فخرج الأشترُ في الفتنة. قال: فبان بهذا الخبر أنَّهم كانوا حين صلُّوا ركباناً طالبين؛ لأنَّ الإجماع حاصل على أنَّ المطلوب لا يصلِّي إلَّا راكباً، وإنَّما اختلفوا في الطَّالب.
          وقال ابن التِّين: صلاة ابن السَّمِط ظاهرها أنَّها كانت في الوقت، وهو من قوله تعالى: {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:239].