نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو

          ░4▒ (بابُ: الصَّلاَةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ) أي: إمكان فتحها، وغلبة الظَّنِّ على القدرة عليها، يقال: ناهضته؛ أي: قاومته، وتناهض القوم في الحرب: إذا نهض كلُّ فريقٍ إلى صاحبه.
          والحصون: جمع حِصْن _بكسر الحاء_ وقد فسَّر الجوهريُّ القلعة بالحصن حيث قال: القلعة: الحصن على الجبل، والظَّاهر: أنَّ بينهما الفرق باعتبار العرف، فإنَّ القلعة تكون أكبر من الحصن، وتكون على الجبل والسَّهل، والحصن غالباً يكون على الجبل وألطف من القلعة، وأصل معنى الحصن: المنع سمِّي به؛ لأنَّه يمنع مَن فيه ممَّن يقصده.
          (وَ) الصلاةِ عند (لِقَاءِ الْعَدُوِّ) أي: ملاقاة العدوِّ، وهذا العطف من عطف العام على الخاص (وَقَالَ) / عبد الرحمن (الأَوْزَاعِيُّ) فيما ذكره الوليد بن مسلم في كتاب «السير»: وأشار بهذا إلى مذهب عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعيِّ ☼ أنَّه: (إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ) بمثناة فوقية فهاء مفتوحة فمثناة تحتية مشددة فهمزة؛ أي: اتَّفق وتمكَّن (الْفَتْحُ) أي: فتح الحصن، وفي رواية القابسيِّ: <إن كان بها الفتح> بالباء الموحدة وهاء الضمير، قال الحافظ العسقلانيُّ: وهو تصحيف.
          (وَ) الحال أنهم (لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ) أي: على إتمامها أفعالاً وأركاناً (صَلَّوْا إِيمَاءً) أي: مومئين إيماءً (كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ) أي: كلُّ شخصٍ يصلِّي بالإيماء لأجل نفسه دون غيره بأن لا يكون إماماً لغيره؛ أي: منفرداً بدون الجماعة.
          (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإِيمَاءِ) بسبب اشتغال القلب والجوارح؛ لأنَّ الحربَ إذا بلغ الغاية في الشِّدَّة تعذَّر الإيماء على المقاتل، فإنَّ عند الدَّهشة يُغْلب العقل فلا يعمل عمله.
          وقيل: يحتمل أنَّ الأوزاعيَّ كان يرى استقبال القبلة شرطاً في الإيماء، فيعجز (1) عن الإيماء إلى جهة القبلة.
          (أَخَّرُوا الصَّلاَةَ، حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ أَوْ يَأْمَنُوا) استشكل فيه ابن رُشَيد: بأنَّه جعل الأمن قَسيم الانكشاف، وبه يحصل الأمن فكيف يكون قسيمه؟
          وأجاب عنه الكرمانيُّ: بأنَّه قد ينكشفُ ولا يحصل الأمن لخوف المعاودة، وقد يحصل الأمن لزيادة القوَّة واتصال المدد مثلاً، وإن لم يكن منكشفاً بَعْدُ فيكون الأمن قسيم الانكشاف.
          (فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ) تامَّتين أركاناً وأفعالاً (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا) هذا بيانٌ للصَّلاة بالإيماء، وتفصيلٌ لما أجمله؛ يعني: يصلُّون ركعتين بالإيماء فإن لم يقدروا على ذلك (صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ) بالإيماء أيضاً، فلا يَرِدُ أن يقال: هذا متعقَّبٌ على الأمن والانكشاف فكيف يتصوَّر عدم القدرة؟ ويجوز أن يقال: معناه: فإن لم يقدروا على ذلك؛ لعدم تمام الانكشاف والأمن.
          (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا) أي: على صلاة ركعة وسجدتين بالإيماء أيضاً (لاَ يُجْزِئُهُمُ) أي: لا يكفيهم التَّكبير، وفي رواية: <فإن لم يقدروا سجدتين لا يجزئهم> وفي أخرى: <فلا يجزئهم> (التَّكْبِيرُ وَيُؤَخِّرُوهَا) أي: الصَّلاة، وفي رواية: <يؤخرونها> بدون الواو على الاستئناف (حَتَّى يَأْمَنُوا) أي: حتَّى يحصل لهم الأمن.
          ويجوز أن يكون معناه: حتَّى يحصل لهم الأمن التَّام، وقال الثوريُّ: يجزئهم التكبير، وروى ابن أبي شيبة من طريق عطاء وسعيد بن جُبير وأبي البَختري قالوا: إذا التقى الزَّحفان وحضرت الصَّلاة، فقالوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فتلك صلاتهم بلا إعادة.
          وعن مجاهد والحكم: إذا كان عند الطِّراد والمسايفة يجزئ أن يكون صلاة الرجل تكبيراً، فإن لم يمكن إلَّا تكبيرةً واحدةً أجزأته أيَّ جهةٍ كان وجهه.
          وقال إسحاق بن راهويه: يجزئ عند المسايفة ركعةً واحدةً يومئ بها إيماءً، فإن لم يقدر فسجدة، فإن لم يقدر فتكبيرة. /
          وحجَّة الأوزاعي فيما قاله حديثُ جابر ☺: إن لم يقدر على الإيماء أخَّر الصَّلاة حتَّى يصلِّيها كاملةً، ولا يجزئ عنها تسبيح ولا تهليل؛ لأنَّه صلعم قد أخَّرها يوم الخندق، وهذا استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ آية صلاة الخوف لم تكن نزلت قبل ذلك.
          (وَبِهِ) أي: وبقول الأوزاعيِّ (قَالَ مَكْحُولٌ) أبو عبد الله الدِّمشقي، فقيه أهل الشام التابعي، ولد مكحول بكابل؛ لأنه من سَبْيه، فرفع إلى سعيد بن العاص فوهبه لامرأةٍ من هُذَيل فأعتقته، وقيل: غير ذلك.
          وقال محمَّد بن سعد: مات سنة ست عشرة ومائة، قال العجليُّ: تابعيٌّ ثقة، روى له البخاريُّ في كتاب «الأدب» و«القراءة خلف الإمام»، وروى له مسلم والأربعة.
          قال الكرمانيُّ: قوله: «وبه قال مكحولٌ» يحتمل أن تكون من تتمَّة كلام الأوزاعيِّ، وأن يكون تعليقاً من البخاريِّ.
          وقال العينيُّ: الظَّاهر أنَّه تعليق، وصله عبد بن حُميد في «تفسيره» عنه من غير طريق الأوزاعيِّ بلفظ: إذا لم يقدر القوم على أن يصلُّوا على الأرض صلُّوا على ظهر الدَّواب ركعتين، فإن لم يقدروا فركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا أخَّروا الصَّلاة حتَّى يأمنوا فيصلُّوا بالأرض.
          (وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) ☺، وسقط في رواية لفظ: «ابن مالك» (حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ) وفي رواية: <حضرت مناهضة> (حِصْنِ تُسْتَرَ) بضم المثناة الفوقية الأولى وسكون السين المهملة وفتح المثناة الفوقية الثانية وفي آخره راء، مدينةٌ مشهورة من كور الأهواز بخورستان، وبها قبرُ البراء بن مالك أخي أنس بن مالك ☻ ، وهي بلسان العامَّة شُشْتر _بشينين معجمتين أولاهما مضمومة والثانية ساكنة وبفتح المثناة الفوقية_.
          اعلم أنَّ تُستَر فُتحت مرَّتين: الأولى صلحاً، والثانية عنوة، قال ابن جرير: وكان ذلك في سنة سبع عشرة في قول سيف، وقال غيره: سنة ست عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة.
          وقال الواقديُّ: لمـَّا فرغ أبو موسى الأشعري ☺ من فتح السُّويس سار إلى تُسْتر فنزل عليها وبها يومئذ الهرمزان وفتحت على يديه، وأمسك الهرمزان، وأرسل به إلى عمر بن الخطَّاب ☺.
          (عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ) بالعين المهملة تشبيهاً للقتال بالنَّار، فيكون استعارة بالكناية (فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ) للعجز عن النُّزول أو عن الإيماء، فيوافق السَّابق عن الأوزاعيِّ، وجزم الأَصيلي: بأنَّ سببه أنَّهم لم يجدوا إلى الوضوء سبيلاً من شدَّة القتال.
          (فَلَمْ نُصَلِّ إِلاَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ) وفي رواية عمر بن أبي شيبة: ((حتَّى انتصف النَّهار)) (فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى) الأشعريِّ ☺ (فَفُتِحَ لَنَا) أي: الحصن (وَقَالَ) وفي رواية: <فقال> بالفاء، وفي أخرى: <قال> / (أَنَسٌ) أي: ابن مالك ☺ (وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ) أي: بدل تلك الصَّلاة ومقابلها، فالباء للبدلية كما في قوله:
فليْتَ لِي بِهِم قَوْماً إِذَا رَكِبُوا
          وفي رواية الكُشميهني: <من تلك الصلاة>.
          (الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) فاعل «يسرني»، وقيل: معناه: لو كانت في وقتها كان أحبُّ إليَّ من الدُّنيا وما فيها، وفي رواية: <خليفةَ الدنيا كلها> بدل: وما فيها.
          وهذا التَّعليق وصله ابن سعد وابن أبي شيبة من طريق قتادة عنه، وقال خليفة بن خياط في «تاريخه»:حدَّثنا ابن زُريع عن سعيد عن قتادة عن أنس ☺ قال: لم نصلِّ يومئذٍ الغداة حتَّى انتصف النهار، قال خليفة: وذلك في سنة عشرين.


[1] كذا في العمدة وأما في الفتح وكوثر المعاني فيتصور العجز عن الإيماء إليها حينئذ