جنى الجنتين ومجمع البحرين في تجريد متون الصحيحين

حديث: قدمنا الحديبية مع رسول الله وكنا أربع عشرة مائة

          1146- مسلم: عن سلمة بن الأكوع قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلعم وكنا أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها، قال: فقعد رسول الله صلعم على جبا الركية فإما دعا وإما بصق فيها، قال: فجاشت، فسقينا واستقينا، قال: ثم إن رسول الله صلعم دعانا للبيعة في أصل الشجرة، قال: فبايعته في أول الناس، ثم بايع وبايع، حتى إذا كان في وسطٍ من الناس قال: ((بايع يا سلمة)) قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس، قال: ((وأيضًا)) قال: ورآني رسول الله صلعم أعزل(1)؛يعني: ليس معه سلاحٌ، قال: فأعطاني رسول الله صلعم حجفة أو درقة ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال: ((ألا تبايعني يا سلمة؟)) قال: قلت: قد بايعتك / يا رسول الله في أول الناس وفي أوسط الناس. قال: ((وأيضًا)) قال: فبايعته الثالثة، ثم قال لي: ((يا سلمة، أين حجفتك _أو درقتك_ التي أعطيتك؟)) قال: قلت: يا رسول الله، لقيني عمي عامر أعزل(2)فأعطيته إياها، قال: فضحك رسول الله صلعم وقال: ((إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيباً هو أحب إلي من نفسي)) ثم إن المشركين واسونا الصلح، حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا، قال: وكنت تبيعاً لطلحة بن عبيد الله، أسقي فرسه وأحسه، وأخدمه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجراً إلى الله ورسوله صلعم، فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فكسحت شوكها، فاضطجعت في أصلها، فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلعم، فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم، قال: فاخترطت سيفي، ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم، فجعلته ضغثاً في يدي، قال: ثم قلت: والذي كرم وجه محمدٍ صلعم، لا يرفع أحدٌ منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلعم، قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات، يقال له: مكرز، يقوده إلى رسول الله على فرس مجفف في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلعم فقال: ((دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه(3))) فعفا عنهم رسول الله صلعم، وأنزل الله ╡: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}[الفتح:24].
          قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة، ونزلنا منزلاً، بيننا وبين بني لحيان جبلٌ، وهم المشركون، فاستغفر رسول الله صلعم لمن رقى هذا الجبل الليلة كأنه طليعةٌ للنبي وأصحابه، قال سلمة: فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثًا، ثم قدمنا المدينة، فبعث رسول الله صلعم بظهره مع رباحٍ _غلام رسول الله صلعم_ وأنا معه، وخرجت معه بفرس لطلحة أنديه(4)مع الظهر، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلعم فاستاقه أجمع، وقتل راعيه، فقلت: يا رباح، خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله، وأخبر رسول الله صلعم أن المشركين قد أغاروا على سرحه، ثم قمت على أكمة، فاستقبلت المدينة فناديت ثلاثًا: يا صباحاه، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم(5)بالنبل وأرتجز:
أنا ابن الأكوع                     اليوم يوم الرضع
          فألحق رجلاً منهم، فأصك سهماً في رحله حتى خلص نصل السهم إلى كتفه، قال: قلت: خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع، قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم فإذا رجع إلي فارسٌ أتيت شجرة، فجلست في أصلها ثم رميته فعقرته، حتى إذا تضايق الجبل، فدخلوا / في تضايقه، علوت الجبل، فجعلت أرميهم بالحجارة، فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلعم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحاً، يستخفون، ولا يطرحون شيئاً إلا جعلت عليه آراماً من الحجارة يعرفها رسول الله صلعم وأصحابه، حتى أتوا متضايقاً من ثنية، فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري فجلسوا يتضحون _يعني: يتغدون_ وجلست على رأس قرن، قال الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح، والله ما فارقنا منذ غلس يرمينا، حتى انتزع كل شيء في أيدينا، قال: فليقم إليه نفرٌ منكم أربعة، قال: فصعد إلي أربعة منهم في الجبل، فلما أمكنوني من الكلام قلت: هل تعرفوني؟ قالوا: لا، ومن أنت؟ قال: قلت: أنا سلمة بن الأكوع، والذي كرم وجه محمد صلعم لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجلٌ منكم فيدركني، قال أحدهم: أنا أظن: قال: فرجعوا، فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلعم يتخللون الشجر، قال: فإذا أولهم الأخرم الأسدي، على إثره أبو قتادة الأنصاري، وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي، قال: فأخذت بعنان الأخرم، قال: فولوا مدبرين: قلت يا أخرم، احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلعم وأصحابه، قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة، قال: فخليته، والتقى هو وعبد الرحمن، قال: فعقر بعبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه، ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلعم بعبد الرحمن فطعنه فقتله، فوالذي كرم وجه محمد صلعم لتبعتهم أعدو على رجلي حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمدٍ ولا غبارهم شيئاً، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء، يقال له: ذو قردٍ، ليشربوا منه وهم عطاش، قال: فنظروا إلي أعدو وراءهم، فخليتهم عنه _يعني أجليتهم منه_ فما ذاقوا منه قطرة، قال: ويخرجون فيشتدون(6)في ثنية، قال: فأعدو فألحق رجلاً منهم فأصكه بسهم في نغض(7) كتفه، قال: قلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع.
          قال: يا ثكلته أمه، أكوعه بكرة؟ قال: قلت: نعم يا عدو نفسه، أكوعك بكرة، قال: وأردوا فرسين على ثنية، فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلعم، ولحقني عامر بسطيحة وفيها مذقة من لبن، وسطيحة فيها ماء، فتوضأت وشربت، ثم أتيت رسول الله صلعم وهو على الماء الذي خليتهم عنه، فإذا رسول الله صلعم قد أخذ تلك الإبل وكل شيء استنقذته من المشركين، وكل رمح وبردة، وإذا بلالٌ نحر ناقة من الإبل التي استنقذت من القوم، وإذا هو يشوي لرسول الله صلعم من / كبدها وسنامها، قال: قلت يا رسول الله، خلني فأنتخب من القوم مائة رجل، فأتبع القوم فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته، قال: فضحك رسول الله صلعم حتى بدت نواجذه في ضوء النار، فقال: ((يا سلمة، أتراك كنت فاعلاً؟)) قلت: نعم، والذي أكرمك، قال: ((إنهم الآن ليفرون في أرض غطفان)) قال: فجاء رجل من غطفان فقال: نحر لهم فلانٌ جزوراً، فلما كشفوا جلدها رأوا غباراً، فقالوا: أتاكم القوم، فخرجوا هاربين، فلما أصبحنا قال رسول الله صلعم: ((كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة)) قال: ثم أعطاني رسول الله صلعم سهمين: سهم الفارس وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعاً، ثم أردفني رسول الله صلعم على العضباء راجعين إلى المدينة، قال: فبينما نحن نسير _قال: وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا_ قال: فجعل يقول: ألا مسابقٌ إلى المدينة، هل من مسابق؟ فجعل يعيد ذلك قال: فلما سمعت كلامه، قلت: أما تكرم كريماً، ولا تهاب شريفاً، إلا أن يكون رسول الله صلعم، قال: قلت: يا رسول الله، بأبي وأمي، ذرني فلأسبق الرجل، قال: ((إن شئت)) قال: قلت: اذهب إليك، قال: وثنيت رجلي، فطفرت فعدوت ،قال: وربطت عليه شرفاً أو شرفين أستبقي نفسي، ثم عدوت في إثره، فربطت عليه شرفاً أو شرفين، ثم إني رفعت حتى ألحقه، قال: فأصكه بين كتفيه، قال: قلت قد سبقت والله _قال: أنا أظن قال: فسبقته إلى المدينة_ قال: فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليالٍ حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلعم، قال فجعل عمي عامرٌ يرتجز بالقوم:
تالله لولا الله ما اهتدينا                     ولا تصدقنا ولا صلينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا                     فثبت الأقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينة علينا
          فقال رسول الله صلعم: ((من هذا؟)) قال: أنا عامر، قال: ((غفر لك ربك)) قال: وما استغفر رسول الله صلعم لإنسان يخصه إلا استشهد، قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له: يا نبي الله، لولا متعتنا بعامر، قال: فلما قدمنا خيبر قال: خرج ملكهم مرحبٌ يخطر بسيفه، يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب                     شاكي السلاح بطلٌ مجرب
إذ الحروب أقبلت تلهب
          قال: وبرز له عمي عامر فقال:
قد علمت خيبر أني عامر                     شاكي السلاح بطلٌ مغامر
          قال: فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحبٍ في ترس عامرٍ، وذهب عامر يسفل له، فرجع سيفه على نفسه، فقطع أكحله وكانت فيها نفسه، قال سلمة: وخرجت فإذا نفرٌ من أصحاب النبي صلعم يقولون: بطل عمل عامر، قتل نفسه قال: فأتيت النبي صلعم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله، بطل عمل عامر، قال رسول الله صلعم: ((من قال ذلك؟)) قال: قلت: ناسٌ من أصحابك، قال: ((كذب من قال ذلك، بل له / أجره مرتين)) ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد، فقال: ((لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)) قال: فأتيت علياً، فجئت به أقوده وهو أرمد، حتى أتيت رسول الله صلعم، فبصق في عينه فبرأ، وخرج مرحب فقال:
قد علمت خيبر أني مرحب                     شاكي السلاح بطلٌ مجرب
إذ الحروب أقبلت تلهب
          فقال علي ☺:
أنا الذي سمتني أمي حيدره                     كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
          قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يده. (8)


[1] في هامش الأصل: ((في كتاب مسلم: عزلا)).
[2] في هامش الأصل: ((في كتاب مسلم: عزلا)).
[3] في هامش الأصل: ((الركية: البئر وجباها التراب [الذي] أخرج منها وجعل حولها .
واسونا: من المواساة والموافقة .
التبيع: الخادم؛ لأنه الذي يحدثه .
كسحت البيت: كنسته ونحيت ما في أرضه مما يؤذي ساكنه .
الضعث: الحزمة المجتمعة من قضبان أو حشيش ونحوه مما يجمع في اليد .
العبلات: أمية الصغرى من قريش والنسب إليهم عَبَليٌّ .
فرس مجفف عليه مجافيف [وهي كل] ما يستره في الحرب خوفاً عليه مما يؤذيه من سلاح وغيره فهو من الخيل كالمدجج من الرجال وهو المنغمس في الدرع والسلاح .
بدء الفجور: ابتداؤه وأوله .
وثناه: ثانيه وقد يمد)).
[4] في الأصل: ((أنديه)) ((أبديه))، وجعل فوقها (معاً).
[5] في هامش الأصل: في نسخة: ((لمسلم: أرديهم)).
[6] في هامش الأصل: ((في كتاب مسلم: فيستدون)).
[7] في هامش الأصل: ((الصك: الضرب باليد وأراد أنه رماه بسهم .
ورحل الناقة هو: كورها فأضافه إليه لأنه راكب عليه .
عقرت به: قتلت مركوبه وجعلته راجلاً .
الطليعة: الحاشية .
الظهر: ما يستعد من الإبل للركوب [والحمل] .
قال الأصمعي: التندية بالنون أن تورد الإبل أو الخيل حتى تشرب قليلاً ثم [ترعى] ساعة ثم يردها إلى الماء من يومها [أو] من الغد والإبل تندوا من [الحمض] إلى الخلَّة فينتقل من جنس من [المرعى] إلى جنس آخر، وقال القتبي: الصواب لأبديه بالباء المعجمة بواحدة [أي] لأخرجه إلى البدو قال ولا تكن التندية إلا للإبل خاصة قال [الأزهري] الصواب ما قاله الأصمعي وللتندية معنى آخر وهو تضمير الفرس [وإجراؤه] حتى يسيل عرقه ويقال لذلك [العرق] إذا سال الندى وهذا أشهرها بمعنى الحديث .
الأكمة: الرابية ونحوها وجمعها أكم وأكام وآكام .
كان إذا دهمهم أمر صاحوا يا صباحاه يعلمون قومهم بما دهمهم ونالهم ليبادروا إليه .
يوم الرضع يوم الهلاك اللئام والرضع جمع راضع وأراد بهم الذين يرضعون الإبل ولا يحلبونها خوفاً من أن يسمع حلبها من يستميحهم ويسألهم لبناً وقد يكون كناية عن الشدة .
الأرام: جمع أرم وهو العلم من الحجارة .
القرن: جبل صغير منفرد .
البرح: الشدة، يقال: لقيت منه برحاً بارحاً أي: شدة شديدة .
نغض الكتف هو الغضروف العريض الذي على أعلاه)).
[8] في هامش الأصل: ((الشد: العدو .
ربطت أي: تأخرت كأنه ربط نفسه أي: شدها .
الشرف: الشوط والقدر المعلوم من المسافة .
لولا هاهنا: بمعنى هلا ومتعتنا بمعنى جعلتنا نستنفع به .
خطر بسيفه: إذا هزه معجباً بنفسه متعرضاً للمبارزة ويجوز أنه أراد به أنه كان يخفر في مشيته أي يتمايل ويمشي مشية العجب بنفسه وسيفه في يده فكان خطر وسيفه معه .
شاكي السلاح أي: ذو شدة وشوكة وحدة في سلاحه .
رجل مغامر إذا كان يقتحم المهالك .
سفلت له أنقل في الضراب عمدت أن تضرب أسافله من وسطه إلى أقدامه .
حيدرة: اسم الأسد .
السندرة: مكيال ضخم .
قوله: أكوعه بكرة؛ يعني الأكوع الذي كان قد تبعنا من بكرة مائة كان أول ما لحقهم قال أنا ابن الأكوع قال لرأيت الذي كنت معنا بكرة قال له في الجواب نعم أكوعك بكرة .
أرديته: رميته وتركته والمراد أنهم من خوفهم تركوا من خيلهم فرسين ولم يقفوا عليها هرباً وخوفاً أن يلحقهم .
لبن ممذوق مخلوط بماء وقوله مذقه أي: شربة قليلة من لبن ممذوق .
قال الحميدي: في هذا الحديث من ذكر الإغارة على السرح وقصة عامر وارتجازه وقوله صلعم: ((لأعطين الراية)) ما قد اتفق البخاري معه على معناه ولكن فيه من الزيادة والشرح ما يوجب كونه من أفراد مسلم فأفردناه)).