إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر

          4981- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) بنُ سعد الإمام قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ) بضم الموحدة (عَنْ أَبِيهِ) كَيسان (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ ) أنَّه (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ) من المعجزاتِ (مَا) موصولة مفعولٌ ثانٍ لـ «أعطيَ»؛ أي: الذي (مِثْلُهُ) مبتدأٌ خبره (آمَنَ) بالمد (عَلَيْهِ) أي: لأجلهِ (البَشَرُ) والجملةُ صلةُ الموصولِ، و«على» بمعنى اللَّام، وعبَّر بها لتضمُّنِها معنى الغلبةِ؛ أي: يؤمنون بذلك مغلوبًا عليهم بحيثُ لا يستطيعون دفعَه عن أنفسهِم.
          وقال الطِّيبي: لفظ «عليه» حالٌ؛ أي: مَغلوبًا عليه في التَّحدي والمباراةِ؛ أي: ليس نبيٌّ إلَّا قد أعطاهُ الله من المعجزاتِ الشَّيء الذي صفتُه أنَّه إذا شُوهد اضطرَّ المشاهد إلى الإيمانِ به، وتحريرُه أنَّ كلَّ نبيٍّ اختصَّ بما يُثبت دعواهُ من خارقِ العاداتِ بحسب زمانهِ، كقلبِ العصا ثعبانًا؛ لأنَّ الغلبةَ في زمن موسى ◙ للسحْرِ، فأتاهم بما يوافقُ السِّحر، فاضطرَّهم إلى الإيمانِ به، وفي زمانِ عيسى ╕ الطِّب، فجاء بما هو أعلى من الطِّب، وهو إحياءُ الموتى، وفي زمانِ نبينا صلعم البلاغة، وكان بها فَخَارهم فيما بينهم، حتى علَّقوا القصائدَ السَّبع بباب الكعبةِ تحدِّيًا لمعارضتها، فجاء بالقرآنِ من جنسِ ما تناهوا فيه بما عجزَ عنه البُلغاء الكاملون في عصره. انتهى.
          ويحتملُ أن يكون المعنى: أنَّ القرآن ليس له مِثْلٌ لا صورةً ولا حقيقةً. قال تعالى: {فَأْتُواْ بِسورة مِّن مِّثْلِهِ}[البقرة:23]، بخلاف معجزاتِ غيره، فإنَّها وإن لم يكن لها مثلٌ حقيقةً، يحتملُ أن يكون لها صورةً. (وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ) من المعجزاتِ، ولأبي ذرٍّ: ”أوتيتُه“(1) (وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ) وهو القرآن، وليست معجزاتُه صلعم مُنحصرةً في القرآن، فالمراد أنَّه أعظمُها وأكثرُها فائدةً، فإنَّه يشتملُ على الدَّعوة والحجَّة، ويُنْتفع به إلى يوم القيامة، ولذا رتَّب عليه قوله: (فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا) أي: أمَّة (يَوْمَ القِيَامَةِ) إذ باستمرار المعجزةِ ودوامها يتجدَّدُ الإيمانُ، ويتظاهرُ البرهانُ، وهذا بخلاف معجزاتِ سائرِ الرُّسل، فإنَّها انقرضتْ بانقراضِهم، وأما معجزةُ‼ القرآن فإنَّها لا تبيدُ ولا تنقطعُ، وآياتُه متجدِّدةٌ لا(2) تضمحِلُّ، وخرقُه للعادةِ في أسلوبهِ، وبلاغتهِ، وإخباره بالمغيَّبات لا تتناهَى، فلا يمرُّ عصرٌ من الأعصارِ إلَّا ويظهرُ فيه شيءٌ ممَّا أخبرَ به ╕ .
          وهذا الحديث أخرجه أيضًا في «الاعتصام» [خ¦7274]، ومسلمٌ في «الإيمان»، والنَّسائيُّ في «التَّفسير» و«فضائل القرآن».


[1] في (م) و(د): «الذي أوتيته».
[2] في (ص): «تجدد ولا»، والمثبت من بقية الأصول.