التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب جوار أبي بكر في عهد النبي وعقده

          ░4▒ (بَابُ: جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ _صلعم_ وَعَقْدِهِ) /
          2297- ذكرَ فيه حديثَ عَائِشَةَ: (لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ)، وذكر جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَّةِ... إلى آخره، وقد سلف بعضُه في المساجد [خ¦476].
          وهذا الجوارُ كان معروفًا بين العرب، وكان وجوهُ العرب يجيرون مَنْ لجأ إليهم واستجار بهم، وقد أجار أبو طالبٍ رَسُولَ الله صلعم، ولا يكون الجِوارُ إلَّا مِنَ الظُّلم والعِدا.
          فيه أنَّه إذا خشي المؤمنُ على نفسه مِنْ ظالمٍ أنَّه يُباح له وجائزٌ أن يستجير بمَنْ يمنعه ويحميه مِنَ الظُّلم، وإنْ كان مجيرُه كافرًا إنْ أراد الأخذَ بالرُّخصة، وإنْ أراد الأخذَ بالشِّدَّة على نفسه فله ذلك، كما رد الصِّدِّيق الجوارَ ورضي بجوار الله ورسوله، والصِّدِّيق يومئذٍ كان مِنَ المستضعَفين، فآثر الصَّبرَ على ما يناله مِنَ الأذى محتسِبًا على الله واثقًا به، فوفَّى الله له بما وثِقَ به مِنْه ولم ينله مكروهٌ حَتَّى أُذِن في الهجرة فخرج مع حبيبه، ونجَّاهما الله مِنْ كيد أعدائهما حَتَّى بلَّغَ مرادَه _╡_ مِنْ إظهار النُّبوَّة وإعلاء الدِّين، وكان للصِّدِّيق في ذلك مِنَ الفضل والصِّدق في نصر رسوله وبذْلِه نفسَه ومالَه في ذلك ما لم يخْفَ مكانُه ولا جُهِل موضعُه.
          و(قَطُّ) بالتَّشديد والضمِّ، وهي الأبد الماضي، تقول: ما رأيتُهُ قَطُّ، قال أبو عليٍّ: قَطُّ تُجزَم إذا كانت بمعنى القليل، وتضمُّ وتثقَّل إذا كانت في معنى الزَّمن والحين مِنَ الدَّهر، تقول: لم أر هذا قطُّ، وليس عندي إلَّا هذا فقطْ.
          وقولها: (وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ) أي يُطيعان الله، وذَلِكَ أنَّ مولدَهَا بعد البعث بسنتين، وقيل: بخمسٍ، وقيل: بسبعٍ، ولا وجه له لإجماعهم أنَّها كانت حين هاجَرَ بنتَ ثمانٍ، وأكثرُ ما قيل أنَّ مُقامه بمكَّة بعد البعث ثلاث عشرة، وإنَّما يصحُّ خمسٌ على قول مَنْ يقول: أقام ثلاث عشرة بمكَّة، وسنتين على قول مَنْ يقول: أقام عشرًا بها، وتزوَّجها بنتَ ستٍّ، وقيل: سبعٍ، وبَنى بها بنت تِسعٍ، ومات عنها وهي بنتُ ثماني عشرة، وعاشت بعدَه ثمانيًا وأربعين سنةً.
          وقولها: (فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ) تريد بإذاء المشركين.
          وقولها: (خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا) قال الأزهريُّ: أصلُ المهاجَرة عند العرب خروجُ البدويِّ مِنَ البادية إلى المدن، يقال: هاجر البدويُّ، إذا حضر وأقام كأنَّه ترك الأُولى للثَّانية، و(الْغِمَادِ) بكسر الغين المعجمة في الأصل، وضبْطُه عند ابن فارسٍ بضمِّها، قال: وهي أرضٌ، و(الدَّغِنَةَ) بفتح الدَّال وكسر الغين المعجمة وتخفيف النُّون، قال أبو الحسن: كذا يرويه جميعُ النَّاس، وأهل العربيَّة يضمُّون الدَّال والغين ويشدِّدون النُّون، وعند المَرْوَزيِّ بفتح الغين، قال الأَصيليُّ: كذا قرأه لنا، وقيل: إنَّما كان ذلك لأنَّه كان في لسانه استرخاءٌ لا يملُكه، والصَّواب الأوَّل، ويقال: الدَّثِنَة، والدَّغَنُ الدَّجَنُ، والدَّثِنَةُ المسترخيةُ اللَّحم، والدَّغِنَةُ أُمُّه، وقيل: رَابَّتُهُ، و(الْقَارَةِ) حيٌّ مِنَ العرب، وهم أرمى النَّاس بالنَّبْلِ، ومنه المثل:
قد أَنصفَ القَارَةَ مَنْ راماها
          (أَسِيحَ) أذهب، لا يريد موضعًا بعينه حَتَّى يجد موضعًا فيستقرَّ فيه.
          وقوله: (تَكْسِبُ المَعْدُومَ) إلى آخره سلف في الإيمان [خ¦3].
          وقول ابن الدَّغِنَةِ: (إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ) أي إن رغب فيه، وكذا ينبغي أنَّ كل مَنْ يُنتفع بإقامته لا يُخرج ويُمنع منه إن أراده، حتَّى قال محمَّد بن مَسْلَمَةَ في الفقيه: ليس له أن يغزو لأنَّ مَنْ ثَمَّ ينوبُ عنه فيه، وليس يوجَدُ مَنْ يقوم مَقامَه في التَّعليم، ويُمنع مِن الخروج إن أراده، واحتجَّ بقوله _تعالى_: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}الآية[التوبة:122].
          وقوله: (وَأَنَا لَكَ جَارٌ) أي مجيرٌ كقوله _تعالى_: {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال:48]، والجار يكون المُجير والمستجير، أي أنا مؤَمِّنُك ممَّن أخافك منهم، والأَشْرَافُ جمع شريفٍ.
          وقوله: (فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ) هو بكسر الفاء، تقول: طفِقَ يفعل كذا مثل ظلَّ مثله، قال صاحب «الأفعال»: طفق بالشَّيء طُفوقًا، إذا أدام فعلَه ليلًا ونهارًا، ومنه قوله _تعالى_: {فَطَفِقَ مَسْحًا}الآية[ص:33].
          وقوله: (ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ) أي ظهر له غيرُ ما كان يفعله، (فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ) وهو أوَّل مسجدٍ بني في الإسلام، قاله أبو الحسن، قال الدَّاوُدِيُّ: بهذا يقول مالكٌ وفريقٌ مِنَ العلماء أنَّ لِمَنْ كانت لداره طريقٌ متَّسِعٌ له أن يرتفق منها بما لا يضرُّ بالطَّريق.
          ومعنى (يَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ): يزدحمون حَتَّى يسقُط بعضُهم على بعضٍ، وأصله التَّكسُّرُ، ومنه ريحٌ قاصفةٌ: شديدةٌ تُكسِّر الشَّجر.
          وقوله: (أَنْ نُخْفِرَكَ) هو بضمِّ النُّون رباعيٌّ مِنْ أخفرَ إذا عاهد ثم غدر، وخفرتُه منعتُه وحَمَيتُه، وأخفرتُه نقضتُ عهدَه، وأخفرتُه أيضًا جعلتُ منه خَفيرًا، وأخفرتُ القومَ أيضًا إذا وصلوا إلى عدوِّهم، وهي في خفارتك.
          وقول الصِّدِّيق: (أَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ) أي حِماه. وفيه جِوار المشرك للمسلم والرُّجوعُ إلى ما هو أفضلُ كما سلف، والسَّبَخَة بفتح الباء وَصَفَها بالنَّخل والسَّبخَة، وكان قبلَ ذلك رآها بصفةٍ تَجمع الحبشة والمدينةَ، فظُنَّت الحبشةُ فهاجر بعضُهم إليها، ثم أُرِيَ تمامَ الصِّفَة فانصرفوا إلى المدينة، و(رِسْلِكَ) بكسر الرَّاء هيئتِك كما أنت وهو السَّير الرَّفيق، أمَّا الرَّسْلُ _بفتح الرَّاء_ فهو السَّير السَّهل، وضبطَه في الأصل بكسر الرَّاء، وفي بعض الرِّوايات بفتحِها.
          وقول البخاريِّ: (وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ...) إلى آخره، رواه الإسماعيليُّ في «صحيحه» مِنْ حديث أبي الطَّاهر أحمد بن عمرو بن السَّرح، أخبرنا عبد الله بن وَهْبٍ، أخبرنا يونسُ عن الزُّهريِّ، ومِنْ حديث يونس، أخبرنا ابن وَهْبٍ به، ثم قال: ذكر أبو عبد الله _يعني البخاريَّ_ مِنْ هذا الحديث: (لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ) فقط مِنْ حديث اللَّيث عن عقيلٍ عن الزُّهريِّ، واقتصَّ باقيَه مِنْ غير ذكر خبرٍ عن عبد الله بن صالحٍ، أخبرنا عبد الله عن يونس به، وهو غير ابن وهْبٍ، وقد ذكرتُه بإسناده عن أبي الطَّاهر ويونس عن ابن وَهْبٍ، وجوَّدَه مَعمَرٌ، ولَمَّا ذكره أبو نُعيمٍ مِنْ حديث ابن السَّرح عن ابن وَهْبٍ قال: روى _يعني: البخاريُّ_ حديثَ يونس عن أبي صالحٍ المَرْوَزيِّ عن عبد الله بن المبارك عن يونس.
          وقال الجَيَّانيُّ: في رواية ابن السَّكَن: <قَالَ أَبُو صَالِحٍ سَلْمَوَيْهِ: حَدَّثَنا عَبدُ اللهِ بْنُ المُبَاركِ>، قال: وأبو صالحٍ هذا اسمُه سليمان بن صالحٍ، مَروزيٌّ، روى البخاريُّ عن ابن أبي رِزْمَة عنه، وحكى أيضًا عن الأَصيليِّ، وتبعه المِزِّيُّ.
          وأمَّا الدِّمْياطِيُّ فقال في «حاشية الصَّحيح» عند أبي صالحٍ: محبوب بن موسى الأنطاكيُّ الفرَّاء، عنه أبو داود والنَّسائيُّ عن رجلٍ عنه، قال أحمد بن عبد الله: ثقةٌ صاحبُ سُنَّةٍ، / مات سنة ثلاثين أو إحدى وثلاثين ومئتين.
          خاتمةٌ: إن قلتَ: ما وجه إدخال هذا الحديث في الكفالة؟ أجاب ابنُ المُنَيِّرِ بأن قال: أدخله في الكفالة وينبغي أن يناسب كفالة الأداء كما ناسب {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:33] كفالةَ الأموال. ووجهه: أنَّ مُجير الصِّدِّيق كأنَّه تكفَّلَ للمُجارِ ألَّا يُضام مِنْ جهةِ مَنْ أجاره مِنْهم، وضمن لِمَنْ أجاره عمَّن أجاره مِنْه لا يؤذيه فتكون العُهدة عليه.