التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم}

          ░2▒ (بَابُ قَوْلِ اللهِ _تعالى_: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33]).
          2292- ذَكر فيه عَنِ ابن عبَّاسٍ: ({وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء:33] قَالَ: وَرَثَةً، {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ، يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ، لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ _صلعم_ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء:33] نَسَخَتْ، ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} إِلَّا النَّصْرَ وَالرِّفَادَةَ وَالنَّصِيحَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ المِيرَاثُ وَيُوصِي لَهُ).
          2293- وعن أنسٍ قال: (قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى رَسُولُ اللهِ _صلعم_ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ).
          2294- وعن عَاصمٍ: (قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَبَلَغَكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ قَالَ: لاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ، فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ _صلعم_ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِي دَارِي).
          الشَّرح: هذا الحديث يأتي في الاعتصام أيضًا [خ¦7340]، وأخرجه مسلمٌ في الفضائل، وأبو داود في الفرائض.
          وأمَّا الموالي في الآية فالأشبهُ الوارث، وقيل: العاصب، والآية الأولى (عَاقَدَتْ) مُفاعَلةٌ مِنْ عقد الحلف، وقرئ: {عَقَدَتْ}، هو حلفُ الجاهلية توارثوا به نُسِخَ بآية الأرحام، أو الأُخُوَّةُ الَّتِي آخاها الشَّارع بين المهاجرين والأنصار توارثوا بها ثُمَّ نُسخت بقوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء:33]، أو نزلت في أهل العقد بالحلف يرثون نصيبَهم مِنَ النَّصر والنَّصيحة دون الإرث، ومنه حديث: ((لا حلفَ في الإسلام، وما كان مِنْ حلف الجاهلية فلم يزده الإسلام إلَّا شِدَّةً))، أو نزلت في ابنِ التَّبنِّي أُمروا أن يوصوا لهم عند الموت، أو فيمن أَوصى بشيءٍ ثم هلكوا فأُمروا أن يدفعوا نصيبهم إلى ورثتهم؛ أقوال.
          وقد قال البخاريُّ في التَّفسير [خ¦65-6603]: (عَاقَدَتْ) هو مولى اليمين وهو الحليف، وذكره ابنُ أبي حاتمٍ عن جماعةٍ عِدَّتُهم ثلاثة عشر نفسًا منهم مجاهدٌ، / وأسندَه عبدُ الرَّزَّاقِ عنه، وفي «تفسير عبد بن حميد» مِنْ حديث موسى بن عبيدة عن عبد الله بن عُبيدة: العقدُ خمسةٌ: النِّكاح، والشَّريكُ لا يخونه ولا يظلمه، والبيع، والعهد، قال _تعالى_ {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] والحِلف، وذكر الآية.
          وقال مقاتلٌ في «تفسيره»: كان الرَّجل يرغب في الرَّجل فيحالفُه ويعاقده على أن يكونَ معه وله مِنْ ميراثه كبعضِ ولده، فلمَّا نزلت آيةُ الميراث جاء رجلٌ إلى رَسُول الله _صلعم_ فذكر له ذلك فنزلت: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] يقول: أعطوهم الَّذي سمَّيتُم لهم مِنَ الميراث.
          ولمَّا ذكرَ البخاريُّ في التَّفسير [خ¦4580] حديثَ ابن عبَّاسٍ قال: سمع أبو أسامة إدريسَ، وإدريسُ طلحةَ، يعني ابن مُصرِّفٍ الرَّاوي عن سعيد بن جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ، وكذا صرَّح به غير واحدٍ منهم الحاكمُ في «مستدركه»، وقال: صحيحٌ على شرطهما، وذكر أبو داود في «ناسخه ومنسوخه» عن عكرمة نَسْخَ الحلف بذوي الأرحام، وعن الضَّحَّاك نحوه.
          وقال النَّحاس: الَّذي يجب أن يُحمل عليه الحديث _يعني حديث ابن عبَّاسٍ_ أن يكون {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء:33] ناسخًا لِمَا كانوا يفعلونه، وإن كان {الَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} غيرَ ناسخٍ ولا منسوخٍ. وقال الحسن وقتادة: إنَّها منسوخة، وممَّن قال إنَّها محكمةٌ مجاهدٌ وابنُ جُبَيْرٍ، وبه قال أبو حَنِيفةَ، وجَعَلَ أُولي الأرحام أَولَى مِنْ أولياء المعاقدة، فإذا فُقِدَ ذوو الأرحام ورِثَ المعاقَدون وكانوا أحقَّ به من بيت المال، وهو أَولى ما قيل في الآية كما قال النَّحاس، وقد بسطتُ هذا الموضع في شرحي لفرائض «الوسيط» وكتب الفروع.
          قال الطَّبريُّ: حديثُ ((لا حلف في الإسلام)) يعارضه حديثُ أنسٍ السَّالفُ، وكان هذا في أوَّل الإسلام، كان آخى بين المهاجرين والأنصار فكانوا يتوارثون بذلك العقد، وعاقد أبو بكرٍ مولًى له فورثه، وكانت الجاهليَّة تفعل ذلك، ثم نُسخ بذوي الأرحام، وردَّ المواريث إلى القرابات بالأرحام والحُرمةِ بآية الوصيَّة، وأمَّا قوله: ((ما كان مِنْ حلف الجاهليَّة فلن يزيدَه الإسلام إلَّا شدَّةً)) فهو ما لم ينسخه الإسلام ولم يبطله حكم القرآن، وهو التَّعاونُ على الحقِّ والنُّصرةُ على الأخذ على يد الظَّالم الباغي، وهو معنى قول ابن عبَّاسٍ: (إِلَّا النُّصْرَةَ وَالرِّفَادَةَ) أنَّها مستثناةٌ ممَّا ذُكر نسخُه مِنْ مواريث المعاقدين، وزعم الدَّاوُدِيُّ أنَّهم في الجاهليَّة إذا تعاقدوا فإنْ كان له ورثةٌ سِواه كان له السُّدس وإلَّا وَرِثَهُ، وهذا مِنْ قول ابن عبَّاسٍ السَّالف.
          وقول البخاريِّ في التَّفسير: {مَوَالِيَ} أولياء، وفي بعض النُّسخ: وقال مَعمَرٌ: أولياء موالي وَرَثَة. وروى ابن أبي حاتمٍ، عن ابن عبَّاسٍ قال: الموالي العَصَبة، يعني الورثة، وروى عن مجاهدٍ وجماعاتٍ نحوه. وقوله أيضًا: والمولى أيضًا ابنُ العمِّ، والمولى المُنعِم، والمولى المُعتِق والمليك، ومولى في الدِّين. قلتُ: هو لفظٌ مشترَكٌ يُطلق على أكثر مِنْ ذلك، قال الزَّجَّاج: المولى كلُّ مَنْ يليك، وكل مَنْ واتاك في محبَّةٍ فهو مولى آل، وذكر أبو موسى المَدينيُّ مِنْ ذلك المعتِقَ والمحبَّ، والجار، والنَّاصر، والمأوى، والصِّهر، زاد ابنُ الأثير: الرَّبَّ والتَّابع، زاد ابنُ الباقِلَّانيِّ في «مناقب الأئمَّة»: المكان، والقرار. وأمَّا بمعنى المولى فكثيرٌ، ولا يُعرف في اللُّغة بمعنى الإمام.
          فإن قلتَ: فما وجه دخول حديث ابن عبَّاسٍ ونحوه في الكفالات؟ قلتُ: أجاب عنه ابن المُنَيِّرِ بأنَّالكفيل والغريم الَّذي وقعت الحوالة عليه فينتقل الحقُّ عليه، كما ينتقل هنا حقُّ الوارث عنه إلى الحليف، فشبَّهَ انتقالَ الحقِّ عن المكلَّف بانتقاله عنه وله.
          وفيه: القياس على أصلٍ قد نُسِخ، وهي قاعدةُ اختلافٍ.
          فائدةٌ: الحِلْفُ بكسر الحاء وإسكان اللَّام كما ضبطه ابنُ التِّيْنِ العهدُ، لأنَّه لا يُعقد إلَّا بحِلْفٍ، قاله ابن سِيدَهْ، فمعنى (لاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ) أي لا تُعاهدوني على فعل شيءٍ كما كانوا في الجاهليَّة يتعاهدون: أَرِثْني وأَرِثُك. والمحالفة في حديث أنسٍ هو الإخاءُ كما نقله ابنُ التِّيْنِ عن تفسير العلماء، قال: وذَلِكَ أنَّ الحلفَ في الجاهليَّة هو بمعنى النُّصرةِ في الإسلام.