التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من قال: ليس على المحصر بدل

          ░4▒ بَابُ: مَنْ قال: لَيسَ على المُحْصَرِ بَدَلٌ.
          وَقال رَوحٌ، عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِد، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا البَدَلُ على مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عَدُوٌّ أَو غَيرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلَا يَرْجِعُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ، إنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ، وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ.
          وَقال مَالِكٌ وَغَيرُهُ: يَنْحَرُ هَدْيَهُ، وَيَحْلِقُ فِي أَيِّ مَوضِعٍ كَانَ، وَلَا قَضَاءَ عليه لأنَّ النَّبِيَّ صلعم وَأَصْحَابَهُ بِالحُدَيبِيَة نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الهَدْيُ إِلَى البَيتِ، ثمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضُوا شَيئًا، وَلَا يَعُود، وَالحُدَيبِيَة خَارِجٌ مِنَ الحَرَمِ.
          1813- ثمَّ سَاقَ حديث نَافِعٍ، أنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ (قال حِينَ خَرَجَ إلِى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الفِتْنَةِ...) الحديث، وقد سَلَفَ.
          و(رَوحٌ): هو ابن عبادة، و(شِبْلٍ): هو ابن عبَّادٍ المكِّيُّ الثِّقة.
          وقول مالكٍ إلى آخره، هو في «الموطَّأ»، وظاهر كلام ابن عَبَّاسٍ أنَّ مَنْ أُحصر بمرضٍ أو غيره أن يحلَّ دون البيت، وهو خلاف ما قدَّمناه عَنْهُ أنَّ المحصَر بمرض لا يحلُّه إلَّا البيت، وتفرقته بين أنْ يستطيع وبين ألَّا، خلافُ مَذْهَب مَالِكٍ، وقولُ مالكٍ: ينحر هديه ويحلق رأسه، لا خلاف في جواز التحلُّل في حصر العدوِّ في موضعه.
          قال ابن التِّينِ: والتحلُّل يصحُّ بأحد وجهين:
          أحدهما: أنْ يتيقَّن بقاءه لقوَّته وكثرته، وإنْ كَانَ بينه وبين الحجِّ ما يعلم أنَّه لو زال لأدركه.
          والثَّانِي: أنْ يكون العذر لا يُرجى زواله، ولا يكون محصورًا حتَّى يبقى بينَه وبين الحجِّ مقدار ما يعلم أنَّه إنْ زال العذر لا يدرِك الحجَّ، فيحلُّ حِينَئذٍ عند ابن القَاسِم وعبد الملك، وقال أشهب: لا يحلُّ حتَّى يوم النَّحْرِ، ولا يقطع التَّلبية حتَّى يروح النَّاسُ إلى عَرَفَة.
          وَقوله: (وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الهَدْيُ إِلَى البَيتِ) ظاهرُه مخالفة ابن عَبَّاسٍ في قوله السَّالف فيما إذا استطاع.
          وَقوله: (وَلا قَضَاءَ عليه) أي لأنَّه محصَرٌ متطوِّعٌ، خلافًا لأبي حنيفةَ، فإن كَانَ فرضًا مستقرًّا بقي في ذمَّته أو غير مستقرٍّ اعتُبرت الاستطاعة بعد، وقال مَالِكٌ وأصحابه: لا يجزئه عن حَجَّة الإسلام، وخالف عبد الملك وأبو مصعبٍ فيه.
          وَقوله: (وَالحُدَيبِيَة خَارِجٌ مِنَ الحَرَمِ) هو مِنْ قول البُخَارِيِّ، وصَلَهُ بقول مالكٍ وليس مِنْ قوله.
          وَقوله: (إِنَّهَا دَاخِلَ الحَرَمِ) وقال الشَّافعيُّ: إنَّها خارج الحرم، وجمع ابن بَطَّالٍ بينهما فقال: كِلا القولين له وجهٌ، وذلك أنَّ الحُدَيبِيَة في أوَّل الحرم وهو موضع بروك ناقته صلعم لأنها إِنَّمَا بركت في أوَّل الحرم، وقال صلعم: ((حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ)) وصاحب الفيل لم يدخل الحرم.
          فمَنْ قال: إنَّ الحُدَيبِيَة خارجه، فيمكن أنْ يريد البئرَ وموضعَ نزولِ رسول الله صلعم، ومَنْ قال: إنَّها في الحرم، يريد موضع حِلاقِهم ونحرهم.
          ووجهُ إيراد حديث ابن عُمَرَ في الباب وليس في لفظه ما يدلُّ على التَّرجمة لأنَّ البُخَارِيَّ استغنى بشهرة قصة صدِّه ◙ بالحُدَيبِيَة، وأنَّهم لم يؤمَروا بالقضاء في ذَلِكَ لأنَّها لم تكن حَجَّة الفريضة، وَإِنَّمَا كَانُوا محرمين بِعُمْرَةٍ، وعقَّب البُخَارِيُّ كلامَ مالكٍ بحديثِ ابن عُمَرَ للتَّنبيه على أنَّه أخذه مِنْهُ.
          إذا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فقد اختلف السَّلف في هذا الباب، فَذَهَبَ ابن عَبَّاسٍ إلى أنَّ المحرِم لا بَدَلَ عليه ولا شيء، ذكره عَنْهُ عبد الرَّزَّاق، وقال: لا حصر إلَّا مَنْ حَبَسه عدوٌّ، فيَحلُّ بِعُمْرَةٍ وليس عليه حجُّ قابل ولا عُمرة، فإن حُبِسَ وكَانَ معه هديٌ بعث به ولم يحلَّ حتَّى ينحرَ الهدي، وإنْ لم يكن معه هديٌ حلَّ مكَانَه، وهذا خلاف ما رواه عن النَّبيِّ صلعم: ((أنَّه أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُبَدِّلُوا الْهَدْيَ الَّذِي نَحَرُوا عَامَ الحُدَيبِيَة فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ))، وفي لفظٍ قال لأبي حاضرٍ حِينَ سأله عن قضاء عمرته: ((أَبْدِلِ الْهَدْيَ)) رواه الحاكم في «مستدرَكه» وقال: صحيح الإسناد.
          وذكر عطاءٌ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ في الَّذِي يفوته الحجُّ قال: يحلُّ بِعُمْرَةٍ، وليس عليه حجُّ قابلٍ، وعن طاوسٍ مثله.
          وروى ابن أبي شَيبَةَ عن عَلِيِّ بن هاشم عَنِ ابنِ أبي ليلى عن عطاءٍ: أنَّه ◙ قال: ((مَنْ لَمْ يُدْرِك الحَجَّ فَعليه الهَدْي وَحَجُّ قَابِل وَليَجْعَلْهَا عُمْرَةً)).
          وعَنْ مَالِكٍ في المحصَر بعدوٍّ يحلُ بسُنَّةِ الإحصار، ويجزئه مِنْ حَجَّة الإسلام، وهو قول أبي مُصعبٍ، وأفتى به لمحمَّد بن سُحْنُون.
          وقال ابنُ شعبانَ: يجزئه مِنْ حَجَّة الإسلام، وإنْ صُدَّ قبل أنْ يحرِم، وقال ابنُ الماجِشُونِ: إِنَّمَا استَحبَّ له مالكٌ القضاء، وفيها قولٌ آخر رُوِيَ عن عمرَ وزيد بن ثابتٍ: أنَّه يحلَّ بِعُمْرَةٍ، وعليه حجُّ قابِلٍ والهدي، وهو قول عُرْوَة، وقال عَلْقَمَة والنَّخَعِيُّ: عليه حَجَّةٌ وعمرةٌ، وهو قول الكُوفِيِّينَ، وقال مُجَاهِدٌ والشَّعْبِيُّ: عليه حجُّ قابلٍ، وقال مَالِكٌ في «المدوَّنة»: لا قضاء على المحصَر بعدوٍّ في حجِّ التَّطوُّع ولا هدي عليه لأنَّه ◙ لم يأمر أصحاب الحُدَيبِيَة بقضاءٍ ولا هديٍ إلَّا أنْ تكون حجَّة الإسلام فعليه حجُّ قابلٍ والهدي، وبه قال الشَّافعيُّ وأبو ثورٍ، واحتجَّ الكُوفِيُّونَ: بأنَّه ◙ لما صُدَّ في الحُدَيبِيَة قضاها في العام القابل فسُمِّيت عمرة القضاء.
          واحتجَّ أصحاب مالكٍ فقالوا: هذه التَّسمية ليستْ مِنَ الشَّارع ولا مِنْ أصحابه، وَإِنَّمَا هي مِنْ أهل / السِّيَر فَلَيسَ فيها حُجَّةٌ، ولم تُسمَّ عمرة القضاء مِنْ أجل ما ذكروه، وَإِنَّمَا سُمِّيت مِنْ أجل أنَّه ◙ قاضى عام الحُدَيبِيَة قريشًا كما أسلفناه، ولو وجب القضاء لبيَّنَهُ، وحُجَّة مالكٍ الهدي مِنْ أجل أنَّ إحرامَه حيل بينَه وبين إتمامِه بالوصول إلى البيت، وجعل أبو حنيفةَ العُمرة عِوَضًا مِنْ ذلِكَ.
          قال الطَّحَاوِيُّ: ذهب قومٌ إلى أنَّ الهدي إذا صُدَّ عن الحرم نُحِر في غير الحرم، واحتجُّوا بهذا الحديث وقالوا: لمَّا نَحَر ◙ هديَه بالحُدَيبِيَة إذْ صُدَّ، دلَّ على أنَّ لِمَنْ مُنع مِنْ إدخال هديه الحرم أنْ يذبحه في غير الحرم، وهذا قول مالكٍ، وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجوز نحر الهدي إلَّا في الحرم، واحتجُّوا بِقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ} [المائدة:95]، فكَانَ الهدي ما جعله الله تعالى ما بلغ الكعبة كالصَّوم المتتابع في الظِّهار وكفَّارةِ القتل لا تجوز غير متتابعٍ، وإنْ كَانَ الَّذِي وجب عليه غيرَ المطيق للإتيان به متتابعًا فلا تُبِيحُهُ الضَّرُورَة أنْ يصومَه متفرِّقًا، فكذلك الهدي الموصوفُ ببلوغ الكعبة لا يجزئ إلَّا كذلك، وإنْ صُدَّ عن بلوغ الكعبة، واحتجُّوا بأنَّ ذَبْح النَّبيِّ صلعم لهديِه حِينَ صُدَّ كَانَ في الحرم، ثمَّ ذَكَرَ حديثَ ناجِيَة السَّالفَ.
          وقال آخرون: كَانَ بالحُدَيبِيَة، وهو يقدر على دخول الحرم، ولم يكن صُدَّ عن الحرم، وَإِنَّمَا صُدَّ عن البيت، واحتجُّوا بحديث ابن إسحاق، عن الزُّهْرِيِّ، عن المِسْوَر: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ بِالحُدَيبِيَة، خِبَاؤُهُ فِي الْحِلِّ، وَمُصَلَّاهُ فِي الْحَرَمِ)) ولا يجوز في قول أحدٍ مِنَ العلماء لِمَنْ قَدَر على دخول شيءٍ مِنَ الحرم أن ينحر هديَه دون الحرم، فلمَّا ثَبَتَ بالحديث الَّذِي ذكرنا أنَّه ◙ كَانَ يصِلُ إلى الحرم استحال أنْ يكون نحرَ الهديَ في غيرِه لأنَّ الَّذِي يُبيح نحْرَ الهدي في غيره إِنَّمَا يُبيحه في حال الصَدِّ عن الحرم، لا في حال القُدرة على دخوله فانتفى بما ذكرناه أنْ يكون ◙ نحرَ الهدي في غير الحرم، وهذا قول أبي حنيفةَ وصاحبيه.
          واحتجَّ مَنْ سَلَفَ بما ذكرناه قبْلَ الإحصار في الحجِّ لأنَّ فيه أنَّ عليًّا نَحر الجَزور دون الحرم، والحُجَّةُ عليهم في ذَلِكَ أنَّهم لا يبيحون لِمَنْ كَانَ غيرَ ممنوعٍ مِنَ الحرم أنْ يذبح في غير الحرم، وَإِنَّمَا يختلفون إذا كَانَ ممنوعًا مِنْهُ فدلَّ أنَّ عليًّا إِنَّمَا نحر فيه في غير الحرم، وهو واصلٌ إلى الحرم، أنَّه لم يكن أراد به الهديَ، وَإِنَّمَا أراد به الصَّدقة والتَّقرُّب إلى الله تعالى مَعَ أنَّه ليس فِي الحَدِيثِ أنَّه أراد به الهدي، فكما يجوز لِمَنْ حَمَله على أنَّه هديٌ ما حمله عليه، فكذلك يجوز لِمَنْ حَمَله على أنَّه ليس بهديٍ ما حمله عليه.