التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الإحصار في الحج

          ░2▒ بَابُ: الإِحْصَارِ فِي الحَجِّ.
          1810- ذَكَرَ فيه حديثَ سَالِمٍ قال: كَانَ ابنُ عُمَرَ يَقُولُ: أَلَيسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلعم؟ إنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الحَجَّ طَافَ بِالبَيتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيءٍ حتَّى يَحُجَّ قَابِلًا، فيُهدِي أَو يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، يُريد حُبِس بمرضٍ.
          وَقوله: (طَافَ) إلى آخره، ويكون مُحصَرًا بمَكَّةَ، مذهبُ مالكٍ وَالشَّافعيِّ: أنَّ المحصَر بمرضٍ لا يحلُّ حتَّى يطوف ويسعى، وقال أبو حنيفةَ: له التَّحلُّل حيث أُحصِر، دليلُنا قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالعُمْرَة لِلَّهِ} [البقرة:196]. والإتمام يقتضي الوجوب، ولأنَّه متلبِّسٌ بِالحَجِّ لم يُصَدَّ عَنْهُ بِيَدٍ عاديةٍ، فلم يحِلَّ دون البيت كمخطئ الوقتِ أو الطَّريق، فإنْ شَرَط التحلُّلَ بالمرض فالمشهور أنَّه يتحلَّل به لحديث ضُباعة في ذَلِكَ، خلافًا لمالكٍ.
          وَقوله: (فيهدِي) أيْ للآية السَّالفة، ولا يذبحه إلَّا بمَكَّةَ أو مِنًى، خلافًا للشَّافعيِّ وقد سَلَفَ، فإنْ بقي على إحرامِه إلى قابِلٍ ففي الهدي قولان عَنْ مَالِكٍ، فإنْ تحلَّل بِعُمْرَةٍ في أشهر الحجِّ ففي تحلُّله قولان لابن القَاسِم، فإن صحَّحناه فاختَلف قوله هل يكون متمتِّعًا أم لا؟ واحتج ابن عُمَرَ فيمَنْ أُحصر في الحجِّ أنَّه يلزمُه ما يلزم مَنْ أُحصر في العمرة، وحكمُهما سواءٌ في ذَلِك، قاس الحجَّ على العُمْرَةِ، والشَّارع لم يُحصَر إلَّا في عمرة، وهو أصلٌ في إثبات القياس كما سَلَفَ واستعمالِ الصَّحَابَة له.
          واخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فيمَنْ أُحْصِرَ بمَكَّةَ، فقال الشَّافعيُّ وأبو ثورٍ: حُكمُ الغريب والمكِّيِّ سواءٌ يطوف ويسعى ويحلُّ ولا عمرةَ عليه على ظاهر حديث ابن عُمَرَ، وأوجبها مالكٌ على المحصَر المكِّيِّ، وعلى مَنْ أنشأه مِنْ مَكَّةَ، وقال: لا بُدَّ لهم مِنَ الخروج إلى الحلِّ لاستئناف عمرة التحلُّل لأنَّ الطَّواف الأوَّل لم يكن نَواهُ لِلعُمْرَةِ، فلذلك يعمل بهذا، وفرَّق بين هؤلاء وبين الغريب يَدخلُ مِنَ الحلِّ محرِمًا، فيطوف ويسعى، ثمَّ يُحصِره العدوُّ عن الوقوف، أنَّه لا يحتاج إلى الخروج إلى الحلِّ لأنَّ مِنْهُ دخل ولم يحلَّ مِنْ إحرامه، ويتحلَّل بِعُمْرَةٍ ينشئُها مِنْ مَكَّةَ.
          وقال أبو حنيفةَ: لا يكون محصَرًا مَنْ بلغ مَكَّةَ لأنَّ الإحصار عندَه مَنْ مُنع مِنَ الوصول إلى مَكَّةَ وحِيل بينَه وبين الطَّواف والسَّعي، فيفعل ما فعل الشَّارعُ مِنَ الإحلال بموضعه، وَأَمَّا مَنْ بلغها فحُكمُه عنده كمَنْ فاته الحجُّ يحلُّ بِعُمْرَةٍ، وعليه الحجُّ مِنْ قابِلٍ ولا هدي عليه لأنَّ الهدي يجبُر ما أدخله على نفسه، ومَنْ حُبِسَ عن الحجِّ فلم يدخل على نفسه نقصًا.
          وقال الزُّهْرِيُّ: إذا أُحصر المكِّيُّ فلا بُدَّ له مِنَ الوقوف بِعَرَفَةَ وإنْ تعسَّ بعساءٍ.
          وفِي حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ ردٌّ على الزُّهْرِيِّ لأنَّ المحصر لو وقف بِعَرَفَةَ لم يكن محصرًا، ألا ترى قولَ ابن عُمَرَ: (طَافَ بِالْبَيتِ وَبَينَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة) ولم يذكر الوقوف بِعَرَفَةَ.
          وفيه أيضًا ردُّ قول أبي حنيفةَ: أنَّ مَنْ كَانَ بمَكَّةَ لا يكون محصَرًا، وقد استدلَّ ابن عُمَرَ على أنَّه يكون محصرًا بِقوله: (أَلَيسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ صلعم إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الحَجِّ) والحبس عَنْهُ هو الإحصار عنْد أهل اللُّغة، وقول ابن عُمَرَ: (ثمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيءٍ، حتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا، وَيُهْدِي هَدْيًا) معناه عند الحجازيِّين: إنْ كَانَ ضَرُورَةً، ومعنى الهدي لِلضَّرُورَةِ إذا قضى الحجَّ إِنَّمَا هو مِنْ أجل وقوع الحبْس الَّذِي كَانَ يقع له في سفرٍ واحدٍ في سفرين، وكذلك معنى هدي الإحصار لِمَرضٍ.