التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا أحصر المعتمر

          ░1▒ بَابُ: إِذَا أُحْصِرَ المُعْتَمِرُ.
          ذكر فيه ثلاثةَ أحاديث:
          1806- أحدها: (أَنَّ ابن عُمَرَ لما خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعَتمِرًا فِي الفِتْنَةِ فَقال: إِنْ صُدِدْتُ عَنِ البَيتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم وَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم كَانَ أهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الحُدَيبِيَة).
          1807- 1808- ثانيها: حديث عُبَيدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَسَالِم بْنِ عَبْدِ اللهِ (أنَّهما كَلَّمَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ لَيَالِي نَزَلَ الجَيشُ بِابْنِ الزُّبَيرِ فَقالا: لَا يَضُرُّكَ أَلَّا تَحُجَّ العَامَ...) الحديث، وقد سَلَفَا.
          1809- ثالثها: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ _هو الوُحاظِيُّ_ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قال: فقال ابن عَبَّاسٍ ☻: قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللهِ صلعم فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا).
          و(مُحَمَّدٌ) هذا قيل: إنَّه ابن إدريسَ أبو حاتمٍ الرَّازيُّ الحافظُ، مات سنة سبعٍ وسبعين ومئتين، كذا هو بخطِّ الدِّمياطيِّ على حاشية «الصَّحيح» مقتصِرًا عليه.
          وقال أبو مَسْعُودٍ الدِّمشقيُّ: (مُحَمَّدٌ) هذا هو محمَّد بن مسلم بن وارَةَ، وقال الحاكم: هو الذُهْلِيُّ، وقال الكَلاباذيُّ: هو محمَّد بن إدريسَ أبو حاتمٍ الرَّازيُّ، وقال: قاله لي ابن أبي سعيدٍ السَّرَخْسِيُّ وذكر أنَّه رآه في أصلٍ عتيقٍ، قلتُ: يؤيِّده أنَّ الإِسْمَاعِيلِيَّ رواه في «مستخرَجه» عن عبد الله بن محمَّد بن مسلمٍ، عن أبي حاتمٍ الرَّازيِّ، حَدَّثَنَا يحيى بن صالحٍ، ومِنْ جهته رواه ابن طاهرٍ مرسِّخًا لكونه أبا حاتم، وكذا قال أبو نُعيم في «مستخرَجه»:حَدَّثَنَا أبو أحمد، حَدَّثَنَا عبد الله بن محمَّد بن مسلمٍ، حَدَّثَنَا أبو حاتمٍ، فذكره.
          إذا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فغرضُ البُخَارِيِّ مِنْ هذه التَّرجمة الرَّدُّ على مَنْ قال: إنَّ مَنْ أُحصِر في العمرة بعدوٍّ، أنَّه لا بُدَّ مِنَ الوصول إلى البيت والاعتمار لأنَّ السَّنَة كلَّها وقتُ العمرة بِخِلَافِ الحجِّ، ولا إحصار في العمرة، ويُقيم على إحرامه أبدًا، وهو قولٌ لبعض السَّلف، حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، وهو مخالفٌ لفعله ◙ لأنَّه كَانَ معتمرًا بالحُدَيبِيَة هو وجميعُ أصحابِه وما حلُّوا دون البيت، والفقهاء على خلافه، حكمُ الإحصار في العُمرة والحجِّ عندهم سواءٌ.
          واختُلِف فيمَنْ أُحصر بعدوٍّ، فقال مَالِكٌ وَالشَّافعيُّ: لا حصر إلَّا حصر العدوِّ، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وابن عُمَرَ، ومعنى ذَلِكَ أنَّه لا يحلُّ لِمُحصَر أن يحلَّ دون البيت إلَّا مَنْ حصَره العدوُّ، كما فعل الشَّارع، وكَانَ حصْرُه بالعدوِّ، واحتجَّ الشَّافعيُّ فقال: على النَّاس إتمامُ الحجِّ وَالعُمْرَة، ورخَّص الله تعالى / في الإحلال للمحصَر بعدوٍّ، فقلنا: في كلٍّ بأمرِ الله ولم نعْدُ بالرُّخصة موضعَها كما لم نعدُ بالرُّخصة المسحَ على الخفَّين، ولم يجعل عِمامةً ولا قفَّازين قياسًا على الخُفَّين، وخالف الشَّافعيُّ مالكًا، فأوجب عليه الهدي ينحره في المكَانَ الَّذِي حُصر فيه وقد حلَّ، كمَا فعل النَّبيُّ صلعم بالحُدَيبِيَة، وهو قول أشهب.
          وقال أبو حنيفةَ: الهدي واجبٌ عليه ينحره في الحرم، وقد حلَّ كما أسلفناه فيما مضى، واحتجُّوا في إيجاب الهدي عليه بِقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}الآية [البقرة:196]، فأجابهم الكُوفِيُّونَ أنَّ هذا إحصارُ مرضٍ، ولو كَانَ إحصار عدوٍّ لم يكن لهم في نحر أهل الحُدَيبِيَة حُجَّةٌ لأنَّ ما كَانَ معهم مِنَ الهدي لم يكونوا سَاقُوه لِمَا عَرَض لهم مِنْ حصر العدوِّ لأنَّه ◙ لم يعلم حِينَ قلَّده أنَّه يُصَدُّ، وَإِنَّمَا سَاقَه تطوُّعًا فلمَّا صُدَّ أخبر اللهُ عن صدِّهم وحبسِهم الهدي عن بلوغِ محِلِّه.
          وكيف يجوز أن ينوب هديٌ قد سَاقَه قبل أنْ يُصدَّ عن دمٍ وجب بالصَّدِّ، ولم يأمرهم الشَّارعُ بهديٍ لحصرِهم؟ قاله جابرٌ، ولو وجب عليهم الهديُ لأمرهم به كما أمرهم بالهدي الَّذِي وجب عليهم، فكيف يُنقل الحلقُ ولا يُنقل إيجابُ الهدي؟ وهو يحتاج إلى بيان مَنْ معه هديٌ، ما حكمُه؟ ومَنْ لا هديَ معه، ما حكمُه؟
          وأمَّا قول أبي حنيفةَ: ينحرُه في الحرم بِقوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25]، يدلُّ أنَّ التَّقصير عن بلوغ المحلِّ سواءٌ كَانَ ذَلِكَ في الحلِّ أو الحرم اسمُ التَّقصير واقعٌ عليه إذا لم يبلغ مَكَّةَ لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، وقول ابن عُمَرَ: إِنَّمَا شأنهما واحدٌ، يعني الحجَّ وَالعُمْرَة في اجتناب ما يجتنب المحرِم بِالحَجِّ وفي العمل لهما لأنَّ طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا يجزئ القارن عنده.
          واختلفوا فيمَنْ أُحصر بمرضٍ فقال مَالِكٌ: لا يجوز له التحلُّل دون البيت بالطَّواف والسَّعي، ثمَّ عليه حجُّ قَابِلٍ والهدي، وهو قَول الشَّافعيِّ وأحمد وإسحاق، وَرُوِيَ عَنِ ابن عُمَرَ وابن عَبَّاسٍ.
          وقال أبو حنيفةَ: المحصَر بالمرض كالمحصر بالعدوِّ، يبعث بهديه إلى الحرم، فإذا عَلِمَ أنَّه نُحِرَ عَنْهُ حَلَّ في مكَانِه مِنْ غير عمل عُمرةٍ، وَإِنَّمَا لم يرَ عليه عمرةً لأنَّه مُحرِمٌ وَالعُمْرَة تحتاج إلى إحرامٍ مستأنَفٍ ولا يدخل إحرامٌ على إحرامٍ، وهو قول النَّخَعِيِّ وعطاءٍ والثَّورِيِّ، واحتجُّوا بالحديث السَّالف هناك: ((مَنْ كُسِرَ أَو عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعليه الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ)) فيَحْتَمِل أنْ يكون معناه فقد حلَّ له أنْ يحلَّ إذا نحر الهدي في الحرم، لا على معنى أنَّه قد حلَّ بذلك مِنْ إحرامه، كما يُقال: حلَّت فلانة للرِّجال إذا خرجتْ مِنْ عُدَّتها، ليس على معنى أنَّها قد حلَّت للأزواج فيكون لهم وطْؤُها، ولكنْ على معنى أنَّه قد حلَّ لهم تزويجها، فيحلُّ لهم حِينَئذٍ وطْؤُها، وهو سائغٌ في الكلام، وهذا موافقٌ معنى حديث ابن عُمَرَ أنَّه ◙ لم يحلَّ مِنْ عمرته بحصر العدوِّ إيَّاه حتَّى نحر الهدي.
          ومعنى هَذَا الحديث عند أهل المقالة الأولى: ((فَقَدْ حَلَّ)) يعني وصل البيتَ وطاف وسعى حلًّا كاملًا، وحلَّ له بنفس العرج والكسر أن يفعل ما شاء مِنْ إلقاء التَّفَثِ ويفتدي، وليس للصَّحيح أنْ يفعل ذَلِكَ.
          قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا إسنادٌ صالحٌ مِنْ أسانيد الشُّيوخ، ولكنَّ أحاديث الثِّقات تضعِّفُه، حَدَّثَنَا سليمان بن حربٍ حَدَّثَنَا حمَّاد بن زيدٍ عن أيُّوب، عن أبي قِلابة قال: ((خَرَجْتُ مُعْتَمِرًا حتَّى إِذَا كُنْتُ بالرُّثينة وَقَعْتُ عَنْ رَاحِلَتِي فَانْكَسَرتُ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى ابن عَبَّاسٍ وابن عُمَرَ أَسْأَلُهُمَا فَقالا: لَيسَ لَهَا وَقْتٌ كَوَقْتِ الْحَجِّ، يَكُونُ على إِحْرَامِهِ حتَّى يَصِلَ إِلَى الْبَيتِ)).
          وَحَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سفيانُ، قال عمرٌو: أخبرني ابن عَبَّاسٍ قال: ((لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ))، ورواه ابن جُرَيجٍ ومعمرٌ، عَنِ ابنِ طاوسٍ عن أبيه عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، فقد بان بما رواه الثِّقات أنَّه خلاف ذَاكَ لأنَّ ابن عَبَّاسٍ حَصَرَ الحصر بالعدوِّ دون غيره، فبان أنَّ مَذْهَب مَالِكٍ كمذهب ابن عُمَرَ.
          ومِنَ الحُجَّة له في أنَّ المحصر بمرضٍ لا يحلُّه إلَّا البيت قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ}الآية [الفتح:25]، فأعلَمَنا تعالى أنَّهم حبسوا الهدي عن بلوغ محِلِّه فينبغي أنْ يكون بلوغ محِلِّه شرطًا فيه مَعَ القدرة عليه، وَأَمَّا قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، وَقوله {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيتِ العَتِيقِ} [الحج:33]. والمخاطَب بذلك الآمِنُ الَّذِي يجد السَّبيل إلى الوصول إلى البيت، والمريض آمنٌ يمكنه ذَلِكَ، وقول الكُوفِيِّينَ ضعيفٌ، وفيه تناقضٌ لأنَّهم لا يُجيزون لمحصَرٍ بعدوٍّ ولا بمرضٍ أنْ يحلَّ حتَّى ينحر هديه في الحرم، وإذا أجازوا للمُحصَر بمرضٍ أنْ يبعث هديه ويواعِدَ حاملَه يومًا ينحر فيه، فيحلق ويحِلُّ أجازوا له الإحلال بغير يقينٍ مِنْ نحر الهدي وبلوغِه، وحملوه على الإحلال بالظُّنون.
          والعلماء متَّفقون على أنَّه لا يجوز لِمَنْ لزمَهُ فرضٌ أنْ يخرج مِنْهُ بالظنِّ، والدَّليل على أنَّ ذَلِكَ ظنٌّ قولهم: أنَّه لو عطب الهدي أو ضلَّ أو سُرق فحلَّ مُرسِلُه وأصاب النِّسَاء وصاد، أنَّه يعود حرامًا، وعليه جزاء ما صَاد، وأباحوا له فساد الحجِّ بالجِماع، وألزموه ما يلزم مَنْ لم يحلَّ مِنْ إحرامِه، وهذا تناقضٌ بلا شكٍّ.
          واحتج الكُوفِيُّونَ بحديث ابن عَبَّاسٍ في الباب: (حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا) في وجوب قضاء الحجِّ أو العمرة على مَنْ أُحصِرَ في أحدهما بعدوٍّ، وقال أهل الحجاز: معنى قوله: (حَتَّى اعْتَمَرَ) إلى آخره، هو ما عقده معهم في صلح الحُدَيبِيَة أنَّه لا يمنعوه البيت عامًا قابلًا، ولا يُحال بينهم وبينه، فإمَّا أنْ يكون ما فعلوه مِنَ العمرة قضاءً عنْ عُمرة الحُدَيبِيَة، ففيه النِّزاع، فيحتاج إلى ذَلِكَ، وسيأتي ما للعلماء فيه قريبًا في باب: مَنْ قال ليس على المحصَر بدلٌ [خ¦1813].
          وقول ابن عَبَّاسٍ: (قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللهِ صلعم) حُجَّةٌ على مَنْ قال: لا يُقال: أحصره العدوُّ، وَإِنَّمَا يُقال: حَصره العدوُّ، وأحصره المرض، واحتَجَّ بقول ابن عَبَّاسٍ: ((لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ))، واحتجَّ به ابن القصَّار، فيُقال له: هذا ابن عَبَّاسٍ قال: (قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللهِ صلعم)، / وقام الإجماع أنَّه ◙ لم يُحصَر بمرضٍ، وَإِنَّمَا أُحصر بعدوٍّ عام الحُدَيبِيَة، فثبت أنَّه يُقال: حصره العدوُّ وأحصره، لغتان.
          وَقوله: (أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوجَبْتُ حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي) فهو حُجَّةٌ لمُثْبِت القياس، ولِمَنْ قال: إنَّ الحجَّ يرتدف على العُمْرَةِ، روى مَعمرٌ عن منصورٍ عَنْ مَالِكِ بن الحارث قال: لقيتُ عليًّا، وقد أهللتُ بالحجِّ، فقلت له: هل أستطيع أنْ أضيف إلى حَجَّتي عمرةً؟ قال: لا، ذَلِكَ لو كنتَ بدأتَ بِالعُمْرَةِ ضممتَ إليها حَجًّا.
          وهذا قول مالكٍ وأبي حنيفةَ قالا: ويصير قارنًا، قال مَالِكٌ: ولا تدخل العُمرةُ على الحجِّ، وهو قول أبي ثَورٍ وإسحاق.
          وقال الكُوفِيُّونَ: تجوز ويصير قارنًا، وقال الشَّافعيُّ بالعراق كقول الكوفيِّ، وقال بمصر: أكثرُ مَنْ لقِيتُ يَقُولُ ليس له ذَلِكَ، قال ابنُ المُنْذِرِ: والحُجَّة لقول مالكٍ أنَّ أصل الأعمال ألَّا يُدخَل عملٌ على عملٍ ولا صلاةٌ على صلاةٍ، ولا صومٌ على صومٍ ولا حجٌّ على حجٍ، ولا عمرةٌ على عمرةٍ إلا ما خَصَّت السُّنَّةُ في إدخال الحجِّ على العُمْرَةِ، وعلى الَّذِي يُحرم بِعُمْرَةٍ إذا ضمَّ إليها حجًّا فقد ضمَّ إلى العمل الَّذِي كَانَ قد دخل فيه، وألزم نفسَه أعمالًا لم تكن لزمته حِينَ أَحْرَمَ بِالعُمْرَةِ، مثلَ الخروج إلى مِنًى والوقوفِ بالموقفين، ورميِ الجمار، والمقام بمِنًى، وغيرِ ذَلِكَ مِنْ أعمال الحجِّ، والَّذِي يضمُّ إلى الحجِّ عمرةً لمْ يضمَّ إليها عملًا لأنَّ عمل المفرِد والقارن واحدٌ، والَّذِي يُعتمد عليه في هذا الباب السُّنَّةُ وإجماع الأمَّة.
          وَقوله: (فِي الفِتْنَةِ) يريد به فتنة الحَجَّاج ونزوله على ابن الزُّبَيرِ.
          وَقوله: (صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم) يريدُ أنَّه يحلُّ دون البيت، ويجزئ عَنْهُ نسكه، ولو لم يكن محرمًا ما دخل فيه لأنَّه بمنزلة مَنْ تعرَّض لفوات النُّسك وإبطاله، ويَحْتَمِل كما قال ابنُ التِّينِ: أنْ يكون ابن عُمَرَ لم يتيقَّن نزول الجيش، وَإِنَّمَا كَانَ يتَّقيه ويخاف أنْ يكون، ويَحْتَمِل أنْ يكون تيقَّن نزولَه، ولم يتيقَّن صَدَّه له لِمَا كَانَ عليه مِنِ اعتزال الطوائف، ويبيِّنُه قوله: (إِنْ صُدِدْتُ عَنِ البَيتِ) ولو لم يتيقَّن العذر المانع لما جاز أن يُحرم لأنَّه تلبُّسٌ بعبادةٍ يَتَيَقَّنُ أنَّها لا تتمُّ فيكون كالقاصد غيرَ البيت بنسكِه، أو ملتزمًا لتمام النُّسك ومطَّرِحًا للإحلال بالحصر وعلى مَنْ فعل ذَلِكَ إتمامُ نسكِه، ولا يحلُّ دون البيت، قاله ابن الماجِشُونِ، وممَّا يبيِّنُه أنَّه ◙ لم يتيقَّن أنْ يُصدَّ عام الحُدَيبِيَة لأنَّه لم يأتِهم محاربًا، وَإِنَّمَا قصد العمرة، ولم تكنْ قريشٌ تمنع مَنْ قصد الحجَّ وَالعُمْرَة.
          وَقوله: (أَلَيسَ حَسْبُكُمْ) أي أليس تكفيكم سنَّةُ رسول الله صلعم، لأنَّ الحسب الكفاية، ومِنْهُ حسبنا اللهُ أيْ كافينا.
          وقال ابنُ عبد البرِّ: اتَّفق مالكٌ وَالشَّافعيُّ على أنَّ المحصَر ينحر هديه حيث حُبس وصُدَّ في الحِلِّ كَانَ أو في الحرم، وخالفهما أبو حنيفةَ وأهلُ الكوفة، واختلفوا في موضع نحره يوم الحُدَيبِيَة هل كَانَ في الحِلِّ أو في الحرم؟ فكَانَ عطاءٌ يَقُولُ: لم ينحر هديَهُ يومَها إلَّا في الحرم، وهو قول ابن إسحاق، وقال غيرُه مِنْ أصحاب المغازي: لم ينحره إلَّا في الحِلِّ، وهو قَول الشَّافعيِّ، وقد سَلَفَ الخلاف فيه هناك.
          وذكر يعقوب بن سفيان، أخبرنا ابن أبي أُويسٍ عن مُجَمِّعِ بن يعقوبَ، عن أبيه قال: لمَّا حُبس رسول الله صلعم وأصحابُه نحروا بالحُدَيبِيَة وحلقوا، فبعث الله ريحًا عاصفًا حملت شعورَهم فألقتها في الحرم، قال: فهذا يبيِّن أنَّهم حلقوا في الحلِّ، وأكثر أهل العلم على أنَّ المحصَر عليه الهدي، خلافًا لمالكٍ.
          وقال الطَّحَاوِيُّ: إذا نحر المحصَر هديه هل يحلق رأسه أم لا؟ فقال قومٌ: ليس عليه أنْ يحلق لأنَّه قد ذهب عَنْهُ النُّسك كلُّه، وهو قول أبي حنيفةَ ومحمَّدٍ، وقال آخرون: بلْ يحلق، فإنْ لم يحلقْ فلا شيءَ عليه، وهو قول أبي يوسُف، وفي ابن أبي شَيبَةَ عن مُجَاهِدٍ أنَّه ◙ لما أُحصر، ونحر الهديَ حلق رأسه، وهذا يأتي [خ¦1812].
          وقال آخرون: يحلق ويجب عليه ما يجب على الحاجِّ والمعتمر، وَهُوَ قَولُ مالكٍ، فكَانَ مِنْ حُجَّة أبي حنيفةَ أنَّه قد سقط عَنْهُ بالإحصار جميعُ مناسك الحجِّ، وذلك ممَّا يَحلُّ به المحرِم مِنْ إحرامِه، ألا ترى أنَّه إذا طاف يوم النَّحْرِ حلَّ له أنْ يحلق، فيحلُّ له بذلك الطِّيب واللِّباس، فلمَّا كَانَ ذَلِكَ ممَّا يفعلُه حِينَ يحلُّ يَسقُط ذلك عَنْهُ بالإحصار، سقط عَنْهُ سائر ما يحلُّ به المحرم بسبب الإحصار.
          وكَانَ مِنْ حُجَّة الآخرين عليهم في ذَلِكَ أنَّ تلك الأشياء مِنَ الطَّواف والسَّعي والرَّمي قد صُدَّ عَنْهُ المُحرِم، وحيل بينه وبينَه فسقط عَنْهُ أنْ يفعله، والحلق لم يُحَل بينَه وبينَه وهو قادرٌ على فعله، فما كَانَ يصل إلى فعله فحُكمُه فيه في حال الإحصار كحكمِه فيه في غير حال الإحصار، وما لا يستطيع أنْ يفعلَه في حال الإحصار فهو الَّذِي يسقط عَنْهُ.
          وقد ثبتَ عَنْهُ صلعم أنَّه حلق حِينَ صُدَّ فِي حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ والمِسْوَر، وليس لأحدٍ قياسٌ مَعَ وجود السُّنَّة الثَّابتة، وقد دعا رسول الله صلعم للمحلِّقين يوم الحُدَيبِيَة ثلاثًا لأنَّهم لم يَشُكُّوا، وللمقصِّرين مرَّةً، فثبت بتفضيله مَنْ حلق مِنْهُم على مَنْ قصَّر أنَّه كَانَ عليهم ذَلِكَ كما يكون عليهم لو وصلوا البيتَ، ولولا ذلك لما كَانُوا فيه إلَّا سَواءً، ولا كَانَ لبعضهم في ذَلِكَ فضيلةٌ على بعضٍ، فبَان أنَّ حكم الحلق والتَّقصير لا يزول بالإحصار.
          وقد روى الطَّبَرانيُّ والنَّسَائِيُّ أيضًا مِنْ حَدِيثِ ناجِيَةَ بنِ جُنْدُبٍ، قال: ((أَتَيتُ رَسُولَ اللهِ صلعم حِينَ صُدَّ الْهَدْيُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَبْعَثُ مَعِيَ بَالْهَدِي فَلأنْحَرَنَّهُ بِالْحَرَمِ، قال: كَيَفَ تَصْنَعُ بِهِ؟ قُلْتُ: آخُذُ بِهِ أَودِيَةً فَلَا يَقْدِرُونَ عليه، فَانْطَلَقْتُ حتَّى نَحَرْتُهُ بِالْحَرَمِ)).
          وقد ثبت عَنْهُ حِينَ صُدَّ في حديث المِسْوَر أنَّه حلق، قال: وذهب قوم إلى أنَّ الهدي / إذا صُدَّ عن الحرم ذُبِح في غيره احتجاجًا بحديث ابن عَبَّاسٍ، وإنْ كَانَ معَه هديٌ وهو محصَرٌ نحرَه، وقالوا: إِنَّمَا نَحْرُ هديِه بالحُدَيبِيَة إذ صُدَّ دلَّ على أنَّ مَنْ لم يُمنع مِنْ إدخال هديه في الحرم أنْ يذبحه في غير الحرم، وهذا قول مالكٍ، وروى سفيانُ مِنْ حَدِيثِ أبي أسماء مولى عبد الله بن جَعْفَرٍ قال: خرجتُ مَعَ عَلِيٍّ وعُثْمَانَ فاشتكى الحَسَن بالسُّقيا وهو محرِمٌ فأصابَه بِرْسامٌ فأومأ إلى رأسِه فحُلق ونَحر جزورًا، ورَوَاهُ مَالِكٌ عن يحيى بن سعيدٍ فلم يَذكُر عُثْمَانَ ولا أنَّ الحَسَن كَانَ محرِمًا.