شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه

          ░7▒ باب: يَمِينِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ إِنَّهُ أَخُوهُ إِذَا خَافَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ أَوْ نَحْوَهُ
          وَكَذَلِكَ كُلُّ مُكْرَهٍ يَخَافُ فَإِنَّهُ يَذُبُّ عَنْهُ الْمَظَالِمَ وَيُقَاتِلُ دُونَهُ وَلا يَخْذُلُهُ، فَإِنْ قَاتَلَ دُونَ الْمَظْلُومِ فَلا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلا قِصَاصَ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ: لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَكَ، أَوْ تُقِرُّن(1) بِدَيْنٍ، أَوْ تَهَبُ هِبَةً، أَوَ تَحُلُّ عُقْدَةً، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوْ أَخَاكَ في الإسْلامِ.
          وَسِعَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبيِّ صلعم: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ). وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَوْ قِيلَ لَهُ: لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ أَوْ لَنَقْتُلَنَّ ابْنَكَ أَوْ أَبَاكَ أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لَمْ يَسَعْهُ؛ لأنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ، ثُمَّ نَاقَضَ فَقَالَ: إِنْ قِيلَ لَهُ: لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوِ ابْنَكَ أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ أَوْ تَهَبُ هِبَةً لَلْزَمُهُ في الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ وَنَقُولُ: الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَكُلُّ عَقْدٍ في ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ وَغَيْرِهِ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلا سُنَّةٍ.
          وَقَالَ النَّبيُّ صلعم: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ لامْرَأَتِهِ: هَذِهِ أختي وَذَلِكَ في اللهِ).
          وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إِذَا كَانَ الْمُسْتَحْلِفُ ظَالِمًا فَنِيَّةُ الْحَالِفِ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَنِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ.
          فيه: ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ ◙: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ في حَاجَتِهِ). [خ¦6951]
          وفيه: أَنَسٌ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ). [خ¦6952]
          اختلف العلماء فيمن خشي على رجلٍ القتل فقاتل دونه، فقالت طائفةٌ: إن قتل دونه فلا قود عليه ولا / قصاص، والحجَّة لهم قوله ◙: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) قالوا: فدلَّ عموم هذا الحديث أنَّه لا قود عليه إذا قاتل عن أخيه كما لا قود عليه إذا قاتل عن نفسه، وروي نحوه عن عُمَر بن الخطَّاب.
          وذكر ابن الماجِشون: أنَّ رجلًا هربت منه امرأته إلى أبيها في زمن عُمَر بن الخطَّاب، فذهب في طلبها مع رجلين فقام أبوها إليهم بيده عمودٌ فأخذه منه أحدهما فضربه فكسر يده، وأخذ الزوج منه امرأته فلم يقده منه عمر، وقضى له بدية اليد.
          قال ابن حبيبٍ: لم ير فيه قصاصًا؛ لأنَّه كفَّه عن عدائه بضربه له، وليس على جهة العمد الذي فيه القصاص، وقياس قول أشهب يدلُّ أنَّه لا قصاص في ذلك؛ لأنَّه قال في الرجل يختفي عنده مظلومٌ فيحلفه السلطان الجائر الذي يريد دمه وماله أو عقوبته إن كان عنده فقال(2): يحلف ولا حنث عليه، كما لا حنث عليه إذا حلف عن نفسه. ذكره ابن الموَّاز عن أشهب. وروي مثله عن أنس بن مالكٍ قال: لأن أحلف تسعين يمينًا أحبُّ إليَّ من أن أدلَّ على مسلمٍ. وقاله ميمون بن مِهْرَان.
          وقالت طائفةٌ: من قاتل دون غيره فقتل فعليه القود. هذا قول الكوفيِّين، ويشبه مذهب ابن القاسم؛ لأنَّه قال في الرجل يختفي عنده الرجل من السلطان الجائر يخافه على نفسه، أنَّه متى حلف أنَّه ليس عنده فهو حانثٌ، وإن كان مأجورًا في إحياء نفسه، فلمَّا كان حانثًا في حلفه عليه، والحنث أيسر شأنًا من القتل دلَّ أنَّه ليس له أن يقاتل دونه، وهذا قول أصبغ قال: لا يعذر أحدٌ إلَّا في الدراءة عن نفسه، ولا يدرأ عن ولده باليمين وهو حانثٌ. وقاله أكثر أصحاب مالكٍ.
          قالوا: وليس قوله ◙: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) بمبيحٍ له قتل المتعدِّي على أخيه الظالم له؛ لأنَّ كلا الرجلين المتقاتلين أخٌ للذي أمره النبيُّ صلعم بالنصرة، ونصره كلَّ واحدٍ منهما لازمٌ له، وقد فسَّر النبيُّ صلعم نصرة الظالم كيف، فقال: ((تكفُّه عن الظلم))، ولم يأمره بقتل الظالم ولا استباحة دمه، وإنَّما أراد نصره دون إراقة دمه، هذا المفهوم من الحديث، والله أعلم.
          وقال لي بعض الناس: معنى قول البخاريِّ: (إِنْ قَاتَلَ دُونَ المَظْلُومِ فَلاَ قَوَدَ عَلَيْهِ وَلاَ قِصَاصَ)، هو أن يرى رجلٌ رجلًا يريد قتل آخر بغير حقٍّ، فإن أمكنه الدفع عنه فقد توجَّه عليه الفرض في نصرته ودفع الظلم عنه بكلِّ ما يمكنه، ولا ينوي بقتاله له إلَّا الدفع عن أخيه خاصَّةً دون أن يقصد إلى قتل الظالم للمنتصر في تلك المدافعة فهو شهيدٌ، كما لو دافعه عن نفسه سواءٌ، فإن قدر المدافع على دفع الظالم بغير قتالٍ أو بمقاتلةٍ لا يكون فيها تلف نفسٍ وقتله قاصدًا لقتله فعليه القود.
          وموضع التناقض الذي ألزمه البخاريُّ لأبي حنيفة في هذا الباب هو أنَّ ظالمًا لو أراد قتل رجلٍ وقال لابن الذي أريد قتله: (لَتَشْرَبَنَّ الخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ المَيْتَةَ، أَوْ لَأَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَو ابْنَكَ، أَوْ ذَا رَحِمٍ، لَمْ يَسَعْهُ شُربُ الخَمرِ وَلَا أَكْلُ المَيتَةِ لِأَنَّه لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ) عند أبي حنيفة، وإنَّما لم يكن مضطرًا عنده؛ لأنَّ الإكراه إنَّما يكون فيما يتوجَّه إلى الإنسان في خاصَّة نفسه لا في غيره؛ لأنَّها معاصي لله(3)؛ ليس له أن يدفع بها معاصي غيره، وليصبر على قتل أبيه والله سائلٌ قاتله، ولا إثم على الابن؛ لأنَّه لم يقدر على دفع القتل عن أبيه أو ابنه إلَّا بمعصيةٍ يركبها، ولا يحلُّ له ذلك.
          ألا ترى قوله: (إِنْ قِيلَ لَهُ: لَأَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوِ ابْنَكَ، أُوْ ذَا رَحِمٍ أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا العَبْدَ، أَوْ تُقِرَّنَّ بِدَيْنٍ أَوْ تَهَبُ هبة) أنَّ البيع والإقرار والهبة تلزمه في القياس؛ لأنَّه قد تقدَّم أنَّه يصبر على قتل ابنه أو أبيه أو ذي رحمه ولا يشرب الخمر ولا يأكل الميتة، فعلى هذا ينبغي أن يلزمه كلُّ ما عقد على نفسه من عقدٍ، ولا يجوز له القيام في شيءٍ منها كما لم يجز له شرب الخمر وأكل الميتة في دفع القتل عن أبيه وابنه(4) وذي رحمه.
          ثمَّ ناقض هذا المعنى بقوله: (وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ وَنَقُولُ: البَيْعُ وَكُلُّ عَقْدٍ فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ) فاستحسن بطلان البيع وكلَّ ما عقده على نفسه، وجعل له القيام فيه بعد أن تقدَّم من قوله: أنَّ البيع والإقرار والهبة تلزمه في القياس / فلا(5) يجوز له القيام فيها، واستحسانه كقول أشهب، وقياسه كقول ابن القاسم المتقدِّمين.
          وقول البخاريِّ: (فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، وَغَيْرِهِ، بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلاَ سُنَّةٍ)، يريد أنَّ مذهب أبي حنيفة في ذوي الأرحام بخلاف مذهبه في الأجنبيِّين، فلو قيل لرجل: لأقتلنَّ(6) هذا الرجل الأجنبيَّ أو لتبيعنَّ عبدك أو تقرُّ بدينٍ أو هبةٍ ففعل ذلك لينجيه من القتل لزمه جميع ما عقد على نفسه من ذلك ولم يكن له فيها قيامٌ(7). ولو قيل له ذلك في ذوي محارمه لم يلزمه ما عقد على نفسه من ذلك في استحسانه.
          وعند البخاريِّ ذوو الأرحام والأجنبيُّون سواءٌ في أنَّه لا يلزمه ما عقد على نفسه في تخليص الأجنبيِّ؛ لقوله(8) صلعم: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ) والمراد بذلك أخوَّة الإسلام لا أخوَّة النسب، ولقول إبراهيم ◙ في سارة: (هَذِهِ أُخْتِي) وإنَّما كانت أخته في الإسلام، فأخوَّة الإسلام توجب على المسلم حماية أخيه المسلم والدفع عنه، ولا يلزمه ما عقد على نفسه في ذلك من بيعٍ ولا هبةٍ، وله القيام فيها متى أحبَّ، ووسعه شرب الخمر وأكل الميتة، ولا إثم عليه في ذلك ولا حدَّ، كما لو قيل له: لتفعلنَّ هذه الأشياء أو لنقتلنَّك، وسعه في نفسه إتيانها ولا يلزمه حكمها حريٌّ أن يسعه ذلك في حماية أبيه وأخيه في النسب وذوي محارمه ولا يلزمه ما عقد على نفسه من بيعٍ ولا هبةٍ ولا فرق بينهما.
          اختلف العلماء في يمين المكره، فذهب الكوفيُّون إلى أنَّه يحنث، وذهب مالكٌ إلى أنَّ كلَّ(9) من أكره على يمينٍ بوعيدٍ أو سجنٍ أو ضربٍ أنَّه يحلف ولا حنث عليه، وهو قول الشافعيِّ وأبي ثورٍ وأكثر العلماء، وحجَّة الكوفيِّين أنَّ المكره كان له أن يورِّي في يمينه، فلمَّا لم يورِّ ولا ذهب بنيَّته إلى خلاف ما أكره عليه فقد قصد إلى اليمين، ولو لم يرد أن يحلف لورَّى؛ لأنَّ الأعمال بالنيَّات، فلذلك لزمته اليمين.
          وحجَّة من لم يلزمه اليمين أنَّه إذا أكره على اليمين فنيَّته مخالفةٌ لقوله؛ لأنَّه كارهٌ لما حلف عليه، ولأنَّ اليمين عندهم على نيَّة الحالف، وأنَّه حلف على ما لم يرده ولا قصده بنيَّته، وكلُّ عمل لا نيَّة فيه غير لازمٍ، ولا يصحُّ الإكراه إلَّا أن يكون الفعل فيه مخالفًا للنيَّة والقصد. وقد روى سليمان بن ميسرة عن النزَّال بن سَبْرة قال: التقى عثمان وحذيفة عند باب الكعبة فقال له عثمان: أنت القائل الكلمة التي بلغتني؟ فقال: لا والله ما قلتها. فلمَّا خلونا به قلنا له: يا أبا عبد الله، حلفت له وقد قلت ما قلت. قال: إنِّي أشتري ديني بعضه ببعضٍ مخافة أن يذهب كلَّه. وقال الحسن البصريُّ: أعطهم ما شاؤوا بلسانك إذا خفتهم.
          وأمَّا قول النَّخَعِيِّ: (إِذَا كَانَ المُسْتَحْلِفُ ظَالِمًا فَنِيَّةُ الحَالِفِ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَنِيَّةُ المُسْتَحْلِفِ) فهو قول مالكٍ؛ لأنَّ النيَّة عنده نيَّة المظلوم أبدًا. وهو خلاف قول الكوفيِّين الذين يجيزون التورية في الأعمال ويجعلون النيَّة نيَّة الحالف أبدًا. وسيأتي الكلام في ذلك في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى.
          فإن قال قائلٌ: كيف يكون المستحلف مظلومًا؟
          قال: إذا جحده رجلٌ حقًّا له ولم تكن له بيِّنةٌ فإنَّ الجاحد يحلف له فتكون النيَّة نيَّة المستحلف؛ لأنَّ الجاحد ظلمه.


[1] في (ص): ((لتقرن)).
[2] في (ص): ((قال)).
[3] زاد في (ص): ((لأنه)).
[4] في (ص): ((أو ابنه)).
[5] في (ص): ((ولا)).
[6] في (ص): ((لنقتلن)).
[7] في (ص): ((قياس)).
[8] في (ص): ((بقوله)).
[9] قوله: ((كل)) ليس في (ص).