شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر

          ░1▒ باب: مَنِ اخْتَارَ(1) الضَّرْبَ وَالْقَتْلَ وَالْهَوَانَ على الْكُفْرِ
          فيه: أَنَسٌ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ). [خ¦6941]
          وفيه: سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنَّ عُمَرَ مُوثِقِي على الإسْلامِ، وَلَوِ انْقَضَّ أُحُدٌ مِمَّا فَعَلْتُمْ بِعُثْمَانَ كَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ. [خ¦6942]
          وفيه: خَبَّابٌ: (شَكَوْنَا إلى النَّبيِّ صلعم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ في ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ في الأرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ على رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ على غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ). [خ¦6943]
          أجمع العلماء أنَّ من أكره على الكفر فاختار القتل أنَّه أعظم أجرًا عند الله ممَّن اختار الرخصة.
          واختلفوا فيمن أكره على غير الكفر من فعل ما لا يحلُّ له فقال أصحاب مالكٍ: الأخذ بالشدَّة في ذلك، واختيار القتل والضرب(2) أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة. ذكره ابن حبيبٍ وسَحنون.
          وذكر ابن سحنون عن أهل العراق، أنَّه إذا تهدَّد بقتلٍ أو بقطعٍ أو ضربٍ(3) يخاف منه التلف حتَّى يشرب الخمر أو يأكل الخنزير فذلك له، فإن لم يفعل حتَّى قتل خفنا أن يكون آثمًا، وهو كالمضطر إلى أكل الميتة أو شرب(4) الخمر غير باغٍ ولا عادٍ، فإن خاف على نفسه الموت فلم يأكل ولم يشرب أثم(5).
          وقال مسروقٌ: من اضطر إلى شيءٍ ممَّا حرَّم الله عليه فلم يأكل ولم يشرب حتَّى مات دخل النار. قالوا: ولا يشبه هذا الكفر وقتل المسلم؛ لأنَّ هذا فيه رخصةٌ(6) وتركه أفضل، ولم يجعل في الضرورة حلالًا. /
          قال سحنون: إذا لم يشرب الخمر ولا يأكل الخنزير حتَّى قتل كان أعظم لأجره كالكفر؛ لأنَّ الله تعالى أباح له الكفر بضرورة(7) الإكراه، وأباح له الميتة والدم بضرورة الحاجة إليهما، وأجمعا أنَّ له ترك الرخصة في قول الكفر، فكذلك يلزم مخالفنا أن يقول في ترك الرخصة في الميتة ولحم الخنزير، ولا يكون مُعِينًا على نفسه.
          وقد تناقض الكوفيُّون في هذا فقالوا كقولنا في المكره تُوعِّد بقطع عضوٍ أو قتلٍ على أن يأخذ مالًا لفلانٍ فيدفعه إلى فلانٍ أنَّه في سعةٍ من ذلك؛ لأنَّه كالمضطر ويضمن الآمر، ولا ضمان على المأمور(8)، فإن أبى أن يأخذ حتَّى قتله كان عندنا في سعةٍ. فيقال لهم: هذا مال مسلمٍ قد أحللتموه بالإكراه؛ فلم لا يسعه ترك أكل الميتة حتَّى يقتل كما وسعه أخذ مال المسلم في الإكراه حتَّى يقتل.
          قال المؤلِّف: وحديث خَبَّاب حجَّةٌ لأصحاب مالكٍ؛ لوصفه صلعم عن الأمم السالفة من كان يمشط لحمه بأمشاط الحديد، ويشقُّ بالمناشر بالشدَّة في دينه والصبر على المكروه في ذات الله، ولم يكفروا في الظاهر ويبطنوا الإيمان، ليدفعوا العذاب عن أنفسهم؛ فمدَحهم صلعم لذلك، وكذلك حديث أنسٍ سوَّى فيه النبيُّ صلعم بين كراهية المؤمن الكفر وكراهيته لدخول النار، وإذا كان هذا حقيقة الإيمان فلا محالة(9) أنَّ الضرب والهوان(10) والقتل عند المؤمن أسهل من دخول النار، فينبغي أن يكون ذلك أسهل من الكفر إن اختار الأخذ بالشدَّة على نفسه.
          قال المُهَلَّب: وقد اعترض هذا قومٌ بقوله تبارك تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء:29]ولا حجَّة لهم في الآية؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا}[النساء:30]والعدوان والظلم محرَّمان، وليس من أهلك نفسه في طاعة الله بعادٍ ولا ظالمٍ، ولو كان كما قالوا لما جاز لأحدٍ أن يتقحَّم المهالك في الجهاد، وقد افترض على كلِّ مسلمٍ مقارعة رجلين من الكفَّار ومبارزتهما، وهذا من أبين المهلكات والغرر. ومن فرَّ من اثنين فقد أكبر المعصية وتعرَّض لغضب الله.
          وقول خَبَّاب للنبيِّ صلعم: (أَلَا تَدعُو اللهَ أَنْ يَكفِيَنا) يعني عدوان الكفَّار عليهم بمكَّة قبل هجرتهم وضربهم لهم وإيثاقهم بالحديد.
          وفيه من الفقه: أنَّ النبيَّ صلعم لم يترك الدعاء في ذلك على أنَّ الله تعالى قد أمرهم بالدعاء أمرًا عامًّا بقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60]وبقوله ╡: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ}[الأنعام:43]إلَّا(11) لأنَّه ◙ علم من الله تعالى أنَّه قد سبق من قدره وعلمه أنَّه يجري عليهم ما جرى من البلوى والمحن ليؤجروا عليها على ما سفلت(12) عادته تعالى في سائر أتباع الأنبياء من الصبر على الشدَّة في ذات الله، ثمَّ يعقبهم بالنصر والتأييد، والظفر وجزيل الأجر، وأمَّا غير الأنبياء فواجبٌ عليهم الدعاء عند كلِّ نازلةٍ تنزل بهم؛ لأنَّهم لا يعلمون الغيب فيها، والدعاء من أفضل العبادة ولا يخلو الداعي من إحدى الثلاث التي وعد النبيُّ صلعم بها.
          وفيه: علامات النبوَّة وذلك خروج ما قال صلعم من تمام الدين وانتشار الأمر وإنجاز الله ما وعد نبيَّه صلعم من ذلك.


[1] في (ص): ((أجاز)).
[2] في (ص): ((الضرب والقتل)).
[3] في (ص): ((بقتل أو بضرب أو قد)).
[4] في (ص): ((وشرب)).
[5] قوله: ((أثم)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((لأن في هذا رخصة)).
[7] في (ص): ((ضرورة)).
[8] زاد في (ص): ((على ذلك)).
[9] في (ص): ((مخالفة)).
[10] في (ص): ((والغرار)).
[11] قوله: ((إلا)) ليس في (ص).
[12] في (ص): ((جرت)).