شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا استكرهت المرأة على الزنا فلا حد عليها

          ░6▒ باب: إِذَا اسْتُكْرِهَتِ الْمَرْأَةُ على الزِّنَا فَلا حَدَّ عَلَيْهَا لقَوْلِهِ ╡: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:33]
          وقَالَ(1) اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الإمَارَةِ وَقَعَ على وَلِيدَةٍ مِنَ الْخُمُسِ فَاسْتَكْرَهَهَا حَتَّى افتَضَّهَا(2)، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ وَنَفَاهُ، وَلَمْ يَجْلِدِ الْوَلِيدَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا.
          وَقَالَ الزُّهرِيُّ في الأمَةِ الْبِكْرِ يَفْتَرِعُهَا الْحُرُّ: يُقِيمُ ذَلِكَ الْحَكَمُ مِنَ الأمَةِ الْعَذْرَاءِ بِقَدْرِ ثَمَنَها وَيُجْلَدُ، وَلَيْسَ في الأمَةِ الثَّيِّبِ في قَضَاءِ الأئِمَّةِ غُرْمٌ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ، أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ بِهَا، فَقَامَ إِلَيْهَا فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، فَلا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ. [خ¦6950]
          قال المُهَلَّب: قوله تعالى(3): {فَإِنَّ اللهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النور:33]يعني: الفتيات المكرهات، وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدَّها. والعلماء متَّفقون على أنَّه لا حدَّ على امرأةٍ مُستكرَهةٍ.
          واختلفوا في الذي لها(4)؟ فقال عطاءٌ والزهريُّ: لها الصداق. وهو قول مالكٍ والشافعيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثورٍ، وقال الشَّعبيُّ: إذا أقيم الحدُّ على الذي / زنا(5) بطل الصداق وهو قول الكوفيِّين.
          واختلف العلماء فيمن أكره من الرجال على الزنا(6) فقال مالكٌ: عليه الحدُّ؛ لأنَّه لم ينتشر إلَّا بلذَّةٍ. وهو قول أبي ثورٍ، قال مالكٌ: وسواءٌ أكرهه سلطانٌ أو غيره.
          وقال أبو حنيفة: إن أكرهه غير سلطانٍ حُدَّ، وإن أكرهه سلطانٌ فالقياس أن يحدَّ، ولكنِّي أستحسن ألَّا يحدَّ.
          وقال أبو يوسف ومحمَّدٌ والشافعيُّ: لا يحدُّ في الوجهين جميعًا. ولم يراعوا الانتشار. وقال ابن القصَّار: احتجَّ أصحاب مالكٍ في وجوب الحدِّ فقالوا: انتشار قضيبه في الوطء ينافي الخوف، ألا ترى أنَّ ذلك لا يحصل إلَّا بوجود الشهوة والطمأنينة وسكون النفس؛ لأنَّ من قُدِّم ليضرب عنقه لا تحصل منه شهوةٌ ولا انتشارٌ حتَّى ربَّما ذهب حسُّه وذهل عقله.
          واحتجَّ الذين لم يوجبوا الحدَّ فقالوا: متى علم أنَّه يتخلَّص من القتل بفعل الزنا جاز أن ينتشر وإن كان مكرهًا، وقالوا لأصحاب مالكٍ: هذا يلزمكم في طلاق المكره، وأنتم لا توقعونه، وفيمن أكره على الفطر. فقال المالكيُّون: طلاق المكره لا علامة لنا في اختياره، والإكراه ظاهرٌ، والمكره على الفطر عليه القضاء وليس كالمتعمِّد، إذ لا أمارة تدلُّ على اختياره للفطر والصورة واحدةٌ.
          قال المُهَلَّب: وقول(7) الزهريِّ في البكر يفترعها الحرُّ أنَّ عليه قيمة العذرة ويجلد، وهو قول مالكٍ.
          واختلف قول مالكٍ في وطء الأمة الثيِّب في الإكراه، فقال في «المدوَّنة»: إنَّه لا شيء عليه في وطء الثيِّب غير الحدِّ خاصَّةً.
          وروى أشهب وابن نافعٍ، عن مالكٍ في الجارية الزائغة تتعلَّق برجلٍ تدَّعي أنَّه اغتصبها(8) نفسها، أتُصدَّق عليه بما بلغت من فضيحة نفسها بغير يمينٍ عليها؟ قال: ما سمعت أنَّ عليها في ذلك يمينًا وتُصدَّق عليه ويكون عليه غرم ما نقصها الوطء. وهذه خلاف رواية ابن القاسم.
          وأمَّا حديث إبراهيم وسارة فإنَّما شابه الترجمة من وجه خلوِّ الكافر بسارة وإن كان لم يصل إلى شيءٍ منها، ولمَّا لم يكن عليها ملامةٌ في الخلوة، فكذلك لا يكون على المستكرهة ملامةٌ، ولا حدَّ فيما هو أكثر من الخلوة، والله الموفِّق.


[1] في (ص): ((قال)).
[2] في (ص): ((استفضها))..
[3] قوله: ((قوله تعالى)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((واختلفوا هل لها صداق)).
[5] زاد في (ص): ((بها)).
[6] في (ص): ((النساء)).
[7] في (ص): ((وفرَّق)).
[8] في (ص): ((غصبها)).