عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب المزارعة بالشطر ونحوه
  
              

          ░8▒ (ص) باب الْمُزَارَعَةِ بِالشَّطْرِ وَنَحْوِهِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكم المزارعة بالشَّطر؛ أي: بالنصف، قال بعضهم: راعى المصنِّف لفظ «الشطر» لوروده في الحديث، وألحق غيره؛ لتساويهما في المعنى، ولولا مراعاة لفظ الحديث؛ لكان قوله: «المزارعة بالجزء» أخصر.
          قُلْت: قد يُطلَق (الشطر) ويُراد به البعض، فاختار لفظ (الشطر) لمراعاة لفظ الحديث، ولكونِه يُطلَق على البعض، و(البعض) هو الجزء.
          فَإِنْ قُلْتَ: فعلى هذا لا حاجة إلى قوله: (وَنَحْوِهِ) ؟
          قُلْت: إذا أريد بلفظ (الشطر) البعض؛ يكون المراد بنحوه الجزء، فلا يحتاج حينئذٍ إلى التعسُّف بالإلحاق، فافهم.
          (ص) وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ.
          (ش) (قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ) ابن الجدليِّ، أبو عَمْرو الكوفيُّ، مرَّ في (باب زيادة الإيمان)، و(أَبُو جَعْفَرٍ) مُحَمَّد بن عليِّ بن الحسين الباقر.
          وهذا التعليقُ وصله عبد الرَّزَّاق عنِ الثَّوْريِّ قال: أخبرني قيس بن مُسلم عن أبي جعفر به.
          قوله: (أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ) أراد به المهاجرين.
          قوله: (وَالرُّبُعِ) الواو فيه بمعنى (أو) وقال بعضهم: الواو عاطفة على الفعل، لا على المجرور؛ أي: يزرعون على الثلث ويزرعون على الربع.
          قُلْت: لا يقال: الحرف يَعطِف على الفعل، وإِنَّما الواوُ هنا بمعنى (أو) كما قلنا، فإذا خلَّيناها على أصلِها يكون فيه حذفٌ؛ تقديره: وإلَّا يزرعون على الرُّبع، ونقل ابنُ التين عن القابسيِّ شيئين:
          أحدهما: أنَّهُ أنكر رواية قيس بن مُسلم عن أبي جعفرٍ، وعلَّل بأنَّ قيسًا كوفيٌّ، وأبا جعفر مدنيٌّ، ولم يروِه عَن قيس أحدٌ مِنَ المَدَنِيِّين، ورُدَّ هذا بأنَّ انفراد الثقة الحافظ لا يضرُّ.
          والآخر: أنَّه ذكَر أنَّ البُخَاريَّ ذكر هذه الآثار في هذا الباب ليعلم أنَّهُ لم يصحَّ في المزارعة على الجزء حديثٌ مسند، ورُدَّ عليه بأنَّه ذهل عَن حديث ابن عمر الذي في آخر الباب، وهو الذي احتجَّ به مَن قال بالجواز.
          (ص) وَزَارَعَ عَلِيٌّ، وسَعْدُ بنُ مَالِكٍ، وعَبْدُ الله بنُ مَسْعُودٍ، وعُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ، والْقَاسِمُ، وعُرْوَةُ، وآلُ أبِي بَكْرٍ، وآلُ عُمَرَ، وابنُ سِيرينَ ♥ .
          (ش) وصل تعليقَ عليِّ بن أبي طالبٍ ☺ ابنُ أبي شَيْبَةَ مِن طريق عَمْرو بن صُليع عنه: أنَّهُ لم يرَ بأسًا بالمزارعة على النصف.
          ووصل تعليق سعدِ بن مالك _وهو سعد بن أبي وَقَّاص_ وتعليقَ عبدِ الله بن مسعود الطَّحَاويُّ، قال: حَدَّثَنَا فَهْدٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سعد: أخبرنا شريكٌ عن إبراهيم بن المهاجر قال: سألت موسى بن طلحة عَنِ المزارعة، فقال: أقطع عثمانُ عبدَ الله أرضًا، وأقطع سعدًا أرضًا، وأقطع خبَّابًا أرضًا، وأقطع صُهَيبًا أرضًا، فكلٌّ جاري، فكانا يزارعان بالثلث والربع انتهى، وفيه خَبَّاب وصُهَيب أيضًا.
          ووصل تعليقَ عُمَر بن عبد العزيز ابنُ أبي شَيْبَةَ مِن طريق خالد الحذَّاء أنَّ عُمَر بن عبد العزيز كتب إلى عَدِيِّ بن أرطاة: أن يزارع بالثلث والربع.
          ووصل تعليقَ القاسم بن مُحَمَّد عبدُ الرزاق قال: سمعت هشامًا يحدِّث: أنَّ ابن سِيرِين أرسله إلى القاسم بن مُحَمَّد يسأله عَن رجلٍ قال لآخر: اعمل في حائطي هذا ولكَ الثلث والربع، قال: لا بأس، قال: فرجعت إلى ابن سِيرِين فأخبرته، فقال: هذا أحسن ما يصنع في الأرض.
          ووصل تعليق عروةَ بن الزُّبَيرِ بن العوام ابنُ أبي شَيْبَةَ، قاله بعضهم، ولم أجِده.
          ووصل تعليقَ آل أبي بكرٍ وآل عُمَر فوصله ابنُ أبي شَيْبَةَ بسنده إلى أبي جعفرٍ الباقر: أنَّهُ سُئِل عَنِ المزارعة بالثلث والربع، فقال: إن نظرت في آل أبي بكرٍ وآل عمر؛ وجدتهم يفعلون ذلك.
          قلت: (آل الرجل) أهل بيته؛ لأنَّ (الآل) القبيلة يُنسَب إليها، فيدخل فيه كلُّ مَن ينسب إليه مِن قِبَل آبائه إلى أقصى أبٍ له في الإسلام الأقرب والأبعد.
          ووصل تعليقَ مُحَمَّدَ بن سِيرِين سعيدُ بن منصور بإسناده عنه: أنَّهُ كان لا يرى بأسًا أن يجعل الرجل للرجلِ طائفة مِن زرعه أو حرثه، / على أن يكفيه مؤونتها والقيام عليها.
          (ص) وقال عبدُ الرَّحْمَن بنُ الأسْوَدِ _ابْنُ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمن بْنِ يزيد، أَدْرَكَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَة_: كُنْتُ أُشَارِكُ عبدَ الرَّحْمَن بنَ يَزِيدَ في الزَّرْعِ.
          (ش) (عبدُ الرَّحْمَن بنُ الأسْوَدِ) ابن يزيد النَّخَعِيُّ، أبو بكرٍ الكوفيُّ، و(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ يَزِيد) ابن قيس النَّخَعِيُّ الكوفيُّ، هو أخو الأسود بن يزيد، وابن أخي عَلْقَمَة بن قيس، وهو أيضًا أدرك جماعةً مِنَ الصحابة، ووصل تعليقه ابن أبي شَيْبَةَ، وزاد فيه: وأَحْمَله إلى عَلْقَمَة والأسود، فلو رأيا به بأسًا لنهياني عنه.
          (ص) وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى: إِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ؛ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاؤُوا بِالْبَذْرِ؛ فَلَهُمْ كَذَا.
          (ش) هذا التعليقُ وصله ابنُ أبي شَيْبَةَ عن أبي خالدٍ الأحمر، عن يحيى بن سعيدٍ: أنَّ عمر ☺ أجلى أهلَ نجران واليهود والنصارى، واشترى بياضَ أرضهم وكرومهم، فعامل عمرُ الناس: إن هم جاؤوا بالبقر والحديد مِن عندهم؛ فلهم الثلثان ولعمر الثلث، وإن جاء عمر بالبذر مِن عنده؛ فله الشطر، وعاملهم في النخل على أنَّ لهم الخُمُسَ وله الباقي، وعاملهم في الكرم على أنَّ لهم الثلثَ وله الثلثين.
          (ص) وقال الحسَنُ: لَا بَأْسَ أنْ يَكُونَ الأرضُ لِأَحَدِهِمَا فيُنْفِقَانِ جَمِيعًا، فَما خَرَجَ فَهْوَ بَيْنَهُمَا.
          (ش) (الحَسَنُ) هو البَصْريُّ، قال بعضهم: أَمَّا قول الحسن فوصله سعيد بن منصور نحوه.
          قُلْت: لم أقف على ذلك بعد الكشف.
          (ص) ورَأى ذَلِكَ الزُّهْريُّ.
          (ش) أي: رأى مُحَمَّدُ بن مسلم (الزُّهْريُّ) ما قاله الحسن البِصْريُّ؛ يعني: يذهب إليه فيه، وقال بعضهم: أَمَّا قول الزُّهْريِّ فوصله عبدُ الرزاق وابن أبي شَيْبَةَ نحوه.
          قُلْت: لم أجده عندهما.
          (ص) وقالَ الحَسَنُ: لَا بَأْسَ أنْ يُجْتَنَى الْقُطْنُ علَى النِّصْفِ.
          (ش) (أنْ يُجْتَنَى) مِن جنيتُ الثمرة؛ إذا أخذتَها مِنَ الشجرة، وقال ابن بَطَّالٍ: أَمَّا اجتناء القطن والعصفر ولقاط الزيتون والحصاد _كلُّ ذلك غير معلومٍ_ [فأجازه جماعة مِنَ التَّابِعينَ، وهو قول أحْمَد ابن حَنْبَل، قاسوه على القِراض؛ لأنَّه يُعمَل بالمال على جزءٍ منه معلوم] لا يُدرى مبلغه، ومنع مِن ذلك مالكٌ وأبو حنيفة والشَّافِعِيُّ؛ لأنَّها عندهم إجارةٌ بثمنٍ مجهولٍ لا يُعرف.
          (ص) وقال إبْرَاهِيمُ، وابنُ سِيرينَ، وعطَاءٌ، والحَكَمُ، والزُّهْريُّ، وقَتادَةُ: لا بأسَ أنْ يُعْطِيَ الثَّوْبَ بالثُّلْثِ أوِ الرُّبْعِ ونَحْوَهُ
          (ش) (إبْرَاهِيمُ) هو النَّخَعِيُّ، و(ابنُ سِيرِين) هو مُحَمَّد بن سِيرِين، و(عطَاءٌ) هو ابن أبي رَبَاحٍ، و(الحَكَمُ) هو ابن عُتَيْبة، و(الزُّهْريُّ) هو مُحَمَّد بن مسلم، و(قَتادَةُ) هو ابن دِعامة.
          قالوا: لا بأس أن يُعطِيَ للنسَّاجِ الغزلَ لينسجه، ويكون ثلث المنسوج له، والباقي لمالك الغزل، وأطلق (الثَّوْبَ) على الغزل مجازًا.
          أَمَّا قول إبراهيم فوصله أبو بكرٍ الأثرم، مِن طريق الحكم أنَّهُ: سأل إبراهيم عَن الحوَّاك يعطي الثوب على الثلث والربع؟ فقال: لا بأس بذلك.
          وأَمَّا قول ابن سِيرِين؛ فوصله ابن أبي شَيْبَةَ مِن طريق ابن عون: سألت مُحَمَّدًا _هو ابن سِيرِين_ عَنِ الرجل يدفع إلى النسَّاج الثوب بالثلث أو بالربع، أو بما تراضيا عليه؟ فقال: لا أعلم به بأسًا، وقال بعضهم: وأَمَّا قول عطاء والحكم فوصلهما ابن أبي شَيْبَةَ.
          [قُلْت: لم أجد ذلك عِنده، وأَمَّا قول الزُّهْريِّ فلم أقف عليه، وأَمَّا قول قتادة؛ فوصله ابن أبي شَيْبَةَ] بلفظٍ أنَّهُ كان لا يرى بأسًا أن يدفعَ الثوب إلى النسَّاج بالثلث.
          وقال أصحابنا: ومَن دفع إلى حائكٍ غزلًا لينسجه بالنصف؛ فهذا فاسدٌ، فللحائك أجر مثله، وفي «المبسوط»: حكى الحلوانيُّ عَن أستاذه أبي عليٍّ: أنَّهُ كان يفتي بجواز ذلك في دياره بنسف؛ لأنَّ فيه عرفًا ظاهرًا، وكذا مشايخ بَلْخٍ يفتون بجواز ذلك في الثياب للتعامل، وكذا قالوا: لا يجوز إذا استأجر حمارًا يحمل طعامًا بقفيزٍ منه؛ لأنَّه جعل الأجر بعض ما يخرج مِن عمله، فيصير في معنى قفيز الطحَّان، وقد نهى عنه صلعم ، وأخرجه الدَّارَقُطْنيُّ ثمَّ البَيْهَقيُّ مِن حديث أبي سعيد الخُدْريِّ قال: نهي عن عَسْب الفحل وعَن / قفيز الطحَّان، وتفسير (قفيز الطحَّان) أن يستأجر ثورًا ليطحن له حنطة بقفيزٍ مِن دقيقه، وكذا إذا استأجر أن يعصر له سمسمًا بمَنٍّ مِن دُهنه، أو استأجر امرأة لتغزل هذا القطن أو هذا الصوف برطلٍ مِنَ الغزل، وكذا اجتناء القطن بالنصف، ودياس الدخن بالنصف، وحصاد الحنطة بالنصف، ونحو ذلك، وكل ذلك لا يجوز.
          (ص) وقال مَعْمَرٌ: لا بأسَ أن تكُونَ المَاشِيَةُ علَى الثُّلْثِ وَالرُّبْعِ إلَى أجَلٍ مُسَمًّى.
          (ش) (مَعْمَرٌ) بفتح الميمَيْن، ابن راشد.
          قوله: (أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ) ويُروَى: <أن يُكري الماشية> وذلك: أن يُكري دابَّةً تحمل له طعامًا مثلًا إلى مدَّةٍ معيَّنةٍ، على أن يكون ذلك بينهما أثلاثًا أو أرباعًا، فَإِنَّهُ لا بأس به، وعندنا: لا يجوز ذلك، وعليه أجرة المثل لصاحب الدابَّة.