عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قوله تبارك وتعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}
  
              

          ░4▒ (ص) بَابُ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}... إِلَى قَوْلِهِ: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة:233].
          (ش) أي: هذا بابٌ في قوله ╡ : {وَالْوَالِدَاتُ}... إلى قوله: {بَصِيرٌ}، كذا وقع في رواية كريمة، ووقع في رواية أبي ذرٍّ والأكثرين: <{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} إلى قوله: {بَصِيرٌ}> وهذه الترجمة وقعت في رواية النَّسَفِيِّ بعد الباب الذي يليه.
          قوله: ({وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ}) خبرٌ ومعناه الأمر؛ لما فيه مِنَ الإلزام؛ أي: لترضعِ الوالداتُ أولادهنَّ؛ يعني: الأولاد مِن أزواجهنَّ، وهنَّ أحقُّ، وليس ذلك بإيجابٍ، إذا كان المولود له حيًّا موسرًا؛ لقوله تعالى في (سورة النساء القصرى) : {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}[الطلاق:6] على ما يأتي، وأكثر المفسِّرين على أنَّ المراد بـ{الوَالِدَاتِ} هنا: المبتوتات فقط، وقام الإجماع على أنَّ أجرَ الرضاع على الزوج إذا خرجت المطلَّقة مِنَ العدَّة، واختلفوا في ذات الزوج هل تُجبَر على رضاع ولدها؟ قال ابن أبي ليلى: نعم، ما كانت امرأته، وهو قول مالكٍ وأبي ثورٍ، وقال الثَّوْريُّ والكوفيُّون والشَّافِعِيُّ: لا يلزمها رضاعه وهو على الزوج على كلِّ حالٍ، وقال ابن القاسم: يُجبِر على رضاعه إلَّا أن يكون مثلها لا يرضع فذلك على الزوج.
          قوله: ({حَوْلَيْنِ}) مدَّة الرضاع، وقوله: ({كَامِلَيْنِ}) مثل قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}[البقرة:96].
          (ض) وَقَالَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف:15].
          (ش) ذكر هذه الآية الكريمة إشارةً إلى قدر المدَّة التي يجب فيها الرضاع.
          قوله: ({وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ}) أي: فطامه ({ثَلَاثُونَ شَهْرًا}) وهذا دليلٌ على أنَّ أقلَّ مدَّة الحمل ستَّة أشهرٍ؛ لأنَّ مدَّة الرضاع حولان كاملان؛ لقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}[البقرة:233] فيبقى للحمل ستَّة أشهرٍ، وروي عن بعجة بن عبد الله الجُهَنِيِّ قال: تزوَّج رجلٌ منَّا امرأةً، فولدت لستَّة أشهرٍ، فأتى عثمان ☺ ، فأمر برجمها فأتاه عليٌّ ☺ ، فقال: إنَّ الله ╡ يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف:15] قال: / {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وقال ابن عَبَّاسٍ: إذا ذهبَتْ رضاعته فإِنَّما الحمل ستَّة أشهرٍ.
          (ص) وَقَالَ: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى. لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}... إِلَى قَوْلِهِ: {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[الطلاق:6-7].
          (ش) أشار بهذه الآية الكريمة إلى مقدار الإنفاق وأنَّه بالنظر لحال المُنْفِق.
          قوله: ({وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ}) أي: في الإرضاع، فأبى الزوج أن يعطي المرأةَ أجرةَ رضاعها، وأبت الأمُّ أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه، ({فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}) فستُوجَد ولا تعوز مرضعةٌ غير الأمِّ ترضعه، وفيه عن معاتبة الأمِّ على المُعَاسَرة؛ أي: سيجد الأب غير مُعاسِرةٍ ترضع له ولده إن عاسَرَتْهُ أمُّه.
          قوله: ({لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ}) أي: ذو موجودٍ ({مِنْ سَعَتِهِ}) على قدر موجوده ({وَمَنْ قُدِرَ}) أي: ومَن ضُيِّق ({عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقَ مِمَّا آتاَهُ اللهُ}) أي: فليُنْفِق مِن ذلك الذي أعطاه الله وإن كان قليلًا ({لَا يُكَلِفُ الله نَفْسًا إِلَّا مَا أَتَاهَا}) أعطاها مِنَ المال ({سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرِ يُسْرًا}) أي: بعد ضيقٍ في المعيشة.
          (ص) وَقَالَ يُونُسُ عَنِ الزُّهْريِّ: نَهَى اللهُ أَنْ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا، وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ الْوَالِدَةُ: لَسْتُ مُرْضِعَتَهُ، وَهْيَ أَمْثَلُ لَهُ غِذَاءً، وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ، وَأَرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْبَى بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ نَفْسِهِ مَا جَعَلَ اللهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلُودِ لَهُ أَنْ يُضَارَّ بِوَلَدِهِ وَالِدَتَهُ، فَيَمْنَعَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ؛ ضِرَارًا لَهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَسْتَرْضِعَا عَنْ طِيبِ نَفْسِ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ، {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ. {فِصَالُهُ} فِطَامُهُ.
          (ش) أي: قال (يُونُس) ابن يزيد الأيليُّ القرشيُّ: عن مُحَمَّد بن مسلمٍ (الزُّهْريِّ)... إلى آخره، وهذا التعليق وصله عبد الله بن وهبٍ في «جامعه» عن يونس قال: قال ابن شهابٍ فذكره إلى قوله: ({وَتَشَاوُرٍ}).
          قوله: (نَهَى اللهُ أَنْ تُضَارَّ وَالِدَةُ بِوَلَدِهَا) وذلك في قوله ╡ : {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}[البقرة:233] قال في التفسير: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} أي: بأن تدفعَه عنها لتضرَّ أباه بتربيته، ولكن ليس لها دفعُه إذا ولدته حَتَّى تسقيَه اللِّبَأَ الذي لا يعيش بدون تناوله غالبًا، ثُمَّ بعد هذا لها دفعه عنها إن شاءت، ولكن إن كانت مضارَّة لأبيه فلا يحلُّ لها ذلك؛ كما لا يحلُّ له انتزاعه منها لمجرَّد الضرار لها.
          قوله: (وَهِيَ أَمْثَلُ لَهُ أي: الوالدة أفضل للصغير (غِذَاءً) أي: مِن حيث الغذاء (وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ) من غيرها (وَأَرْفَقُ بِهِ) أي: بالصغير (مِنْ غَيْرِهَا).
          قوله: (فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْبَى) أي: ليس للوالدة أن تَمتنع (بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهَا) الزوج (مِنْ نَفْسِهِ مَا جَعَلَ اللهُ عَلَيْهِ) مِنَ النفقة.
          قوله: (ضِرَارًا لَهَا) وفي بعض النُّسَخ: <ضرارًا بها> وهو متعلِّقٌ بقوله: (فَيَمْنَعُهَا) أي: منعها ينتهي إلى رضاع غيرها.
          قوله: ({فَإِنْ أَرَادَ فِصَالًا}) أي: فإن اتَّفق والدا الطفل على فصاله قبل الحولين ورأيا في ذلك المصلحة له، وتشاوَرَا في ذلك، واجتمعا عليه {فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا} في ذلك، فيؤخذ منه: أنَّ انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحدٍ منهما أن يستبدَّ بذلك مِن غير مشاورةِ الآخر.
          قوله: ({فِصَالُهُ} فِطَامُهُ) هذا تفسير ابن عَبَّاسٍ، أخرجه الطَّبَريُّ عنه، و(الفِصال) مصدرٌ، تقول: فاصلتُه أُفاصلُه مُفاصلةُ وفِصالًا؛ إذا فارقتَه مِن خلطةٍ كانت بينهما، وفصال الولد: منعه مِن شرب اللَّبن.