الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا وهب شيئًا لوكيل أو شفيع قوم جاز

          ░7▒ (باب إِذَا وَهَبَ) أي: الشخصُ الواهبُ المدلولُ عليه بالفعل (شَيْئاً) أيَّ شيءٍ كان، / قليلاً أو كثيراً (لِوَكِيلٍ) بتنوينِه لعدم إضافتِه، واقتصر عليه القسطلانيُّ، وجوَّزَ غيرُه تركه، على حدِّ قولِه:
بينَ ذِرَاعَي وجَبْهَةِ الأَسَدِ
          ورواه الإسماعيليُّ بلفظ: ((لوكيلِ قومٍ)).
          (أَوْ شَفِيعِ قَوْمٍ جَازَ) بالجيم والزاي، جوابُ: ((إذا)) أي: صحَّتِ الهِبةُ لكلِّ من ذكَرَ، لكنَّها للمُوكَّلِ والمشفوعِ له، وإن أوهَمَ ظاهرُ الكلامِ أنها للوَكيلِ والشفيعِ تنزيلاً للكلامِ على المقاصِدِ لا على الظواهر، كما يأتي قريباً عن ابنِ المنيِّر بأبسَطَ.
          وقوله: (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم) متعلِّقٌ بـ((جاز)) على أنه عِلَّةٌ له (لِوَفْدِ هَوَازِنَ) ((لوَفْدِ)) متعلِّقٌ بـ((قولِ))، وهو _بفتح الواو وسكون الفاء وبالدال_ جمعُ: وافدٍ؛ وهم القومُ الوافدون؛ أي: القادمون من البلاد، ويُجمَعُ أيضاً على: وفودٍ وأَوفادٍ ووُفَّدٍ _بتشديد الفاء وضم الواو_، قاله في ((القاموس)).
          و((هَوازِنَ)) بفتح الهاء وتخفيف الواو وبكسر الزاي والمنعِ من الصَّرفِ؛ لأنَّه علَمٌ لقبيلةٍ من قيسِ غَيلانَ، وهم بطونٌ كثيرةٌ، جمعُ: هَوْزَنٍ _بوزن: فَوْعَلٍ_ بمعنى الشَّرابِ، فالواو زائدةٌ، وقيل: هَوازِنُ: ضربٌ من البطونِ، ذكر ذلك العينيُّ.
          (حِينَ سَأَلُوهُ الْمَغَانِمَ) بالميم، جمعُ: مغنَمٍ؛ أي: حين سألَ وفدُ هَوازِنَ النَّبيَّ عليه السَّلامُ أن يرُدَّ إليهم الغنائمَ التي غنمَها منهم في حُنينٍ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: نَصِيبِي) أي: الذي خصَّني منها (لَكُمْ) أي: هِبةٌ، وهذا التعليقُ قطَعَه من حديثِ البابِ الآتي الموصولِ فيه، وكذا من حديثٍ وصَلَه ابنُ إسحاقَ في ((مغازيه)) عن عبدِ اللهِ بن عمرِو بن العاصي، ولفظُه عنه: ((كنَّا مع رسولِ الله بحُنينٍ، فلما أصابَ من هَوازِنَ ما أصابَ من أموالِهم وسَباياهم، أدركَهم وفدُ هَوازِنَ بالجِعْرَانةِ وقد أسلَموا، فقالوا: يا رسولَ الله؛ امنُنْ علينا مَنَّ اللهُ عليك، فقال رسولُ الله صلعم: نساؤكم وأبناؤكم أحبُّ إليكم أم أموالُكم؟ فقالوا: يا رسولَ الله؛ خيَّرتَنا بين أحسابِنا وأموالِنا، بل أبناؤنا ونساؤنا أحبُّ إلينا، فقال رسولُ الله: أمَّا ما كان لي ولبَني عبدِ المطَّلِبِ فهو لكم، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسولِ الله، وقالتِ الأنصارُ: وما كان لنا فهو لرسولِ الله، فرَدُّوا إلى النَّاسِ نساءَهم وأبناءَهم))، انتهى.
          ووجهُ المطابقةِ للتَّرجمة في قولِه: ((نصيبي لكم)).
          قال ابنُ المنيِّر: إنَّما خاطَبَ بذلك الوسائطَ، وظاهرُه أنَّ الهِبةَ تختصُّ بهم، وليس بمُرادٍ، إنَّما مقصودُه هبةُ الكلِّ، مَن حضَرَ منهم ومَن غابَ، فدلَّ على أنَّ الألفاظَ تتنزَّلُ على المقاصِدِ لا على الصُّورِ، فمَن تشفَّعَ لغيرِه في هبةٍ، فقال المشفوعُ عنده للشفيعِ: وهَبتُك هذا، فليس للشفيعِ أن يتعلَّقَ بظاهرِ اللفظِ، ويخُصَّ نفسَه به، بل إنَّ الهِبةَ للمشفوعِ له، وكذا مَن يوكِّلُ غيرَه في شراءِ شيءٍ، فوهَبَه المشترى منه، فهو للموكِّل، قال: ويؤخَذُ من ذلك: من وُكِّلَ في شراءِ شيءٍ بعينِه، فاشتراه ولم يسمِّ المالكَ، ثم زعَمَ أنه إنَّما نوى نفسَه، لم يُقبَلْ منه ذلك، وكانت السِّلعةُ للموكِّل، انتهى.
          وأقول: / مذهبُ الشافعيِّ: تصديقُ الوكيلِ في نيَّتِه حيثُ لم يصرِّحْ بالموكِّلِ، ولذا قال في ((الفتح)): وهذا قاله على مقتضى مذهبِه، وفي المسألة خلافٌ مشهورٌ، انتهى فاعرِفه.