الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: المدينة طابة

          ░3▒ (باب: الْمَدِينَةُ طَابَةُ): بتنوين ((باب)) وتركه، وعلى الثاني: فـ((طابة)) خبر لمحذوف، وهي: بالطاء المهملة فألف منقلبة عن ياء فموحدة فتاء تأنيث بالمنع من الصَّرف للأكثر، ورواه أبو ذرٍّ: بصرفها، ومرَّ في باب حرم المدينة ذكر كثيرٍ من أسمائها، وأنَّ النَّبيَّ سمَّاها بطابة، كما رواهُ أبو داود وأبو عَوانة، بل روى مسلمٌ عن جابر بن سمُرة مرفوعاً: ((إنَّ الله سمَّى المدينةَ طابةَ)).
          وتسمَّى أيضاً: طيبة كهيبة، وطيِّبة _بكسر التحتية مشددة_ كهيِّنة، وطايب ككاتب، فهذه الأربعة أخواتٌ لفظاً ومعنى، ومختلفاتٌ صيغة ومبنى لطيبِ رائحتها وسائرِ أمورها، ولطهارتها من الشِّركِ، ولطيبِ العيش بها.
          قال بعضُ العلماء في طيبِ ترابها وهوائها شاهدٌ على صحَّة تسميتهَا بذلك؛ لأنَّ من أقامَ بها يجدُ من تربتها وحيطانها رائحةً طيِّبةً لا تكادُ توجدُ في غيرها، ولا سيَّما ترابُ قبره الشَّريف:
مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَ                     أَنْ لَا يَشُمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا
          وطيبها أقوى رائحة، ويتضاعفُ طيبُها فيها عن غيرها من البلاد، وكذلك العودُ وسائر أنواع الطِّيب، ومن أسمائها أيضاً: بيتُ الرَّسول، قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال:5]؛ أي: من المدينة.
          والحرم: لتحريمها كما مرَّ، والحبيبة؛ لحبه عليه الصَّلاة والسَّلام لها ودعائهِ به، وحرمُ الرسولِ عليه السلام؛ لأنَّه الذي حرمها، وفي الطَّبراني بسندٍ رجالهُ ثقات: ((حرَمُ إبراهيمَ مكة وحرَمِي المدينةُ)) وحسَّنه.
          قال الله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل:41]؛ أي: مباءةً حسنةً، وهي المدينةُ ودار الأبرار، ودارُ الأخيار؛ لأنَّها دار المختار والمهاجرين والأنصَار، وتنفِي شرارها من أقامَ بها منهم، فليسَتْ له في الحقيقَةِ بدارٍ، وربما نقل منها بعد الإقبار، ودار الإيمان، ودار السُّنَّة، ودار السَّلامة، / ودار الفتحِ، ودارُ الهجرةِ، فمنها فتحت سائر الأمصارِ، وإليها هجرةُ المختار، ومنها انتشرت السُّنَّة في الأقطارِ.
          والشَّافية: لحديث: ((ترابها شفاءٌ من كلِّ داء))، وذكر ابن مسدي الاستشفاءَ بتعليقِ أسمائها على المحموم، وقبَّةُ الإسلام؛ لحديث: ((المدينةُ قبَّةُ الإسلام)).
          والمؤمنة: لتصديقِهَا بالله حقيقةً بخلقه قابلية ذلك فيها كما في تسبيح الحصى أو مجازاً؛ لاتِّصاف أهلها به، وانتشاره منها، وفي خبر: ((والذي نفسي بيدهِ إنَّ تربتها لمؤمنة))، وفي آخر: ((إنَّها المكتوبةُ في التَّوراة مؤمنة)).
          ومباركةٌ: لأنَّ الله تعالى باركَ فيها بدعائهِ صلعم وحلوله فيها، والمختارةُ: لأنَّ الله اختارها للمختارِ من خلقهِ، والمحفوظةُ: لحفظها من الطَّاعون والدَّجَّال وغيرهما، ومدخلُ صدقٍ، والمرزوقَةُ: أي: المرزوقُ أهلها، والمسكينة: نقلٌ عن التَّوراة كما مرَّ، وروي مرفوعاً: ((إنَّ الله تعالى قال للمدينةِ: يا طيبة، يا طابة، يا مسكينة، لا تقبلِي الكنوزَ أرفع أجاجيرك على أجاجيرِ القرى)).
          والمسكنة: الخضوعُ والخشوع من الله فيها وفي أهلها، أو هي مسكنُ الخاشعين.