الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: حرم ما بين لابتي المدينة على لساني

          1869- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ): أي: الأويسيُّ (قَالَ: حَدَّثَنِي): بالإفراد (أَخِي): أي: عبد الحميد (عَنْ سُلَيْمَانَ): أي: ابن بلالٍ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ): أي: العمري، ولأبي ذرٍّ زيادة: <ابن عمر>.
          (عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺): والإسناد كلُّه مكيُّون (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: حَرَّمَ): بتشديد الراء مبنيًّا للمفعول؛ أي: حرَّم الله، ولأبي ذرٍّ عن المستملي: <حَرَم> بفتحتين وتنوينه خبر مقدم والمبتدأ المؤخر (مَا بَيْنَ لاَبَتَيِ): بتخفيف الموحدة بعد الألف تثنية: لابة، وجمعها: لاب ولوب، وهي الأرضُ الحرَّةُ ذات الحجارةِ السُّود؛ أي: ما بين حرتي.
          (الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي): بخلاف مكَّة، فتحريمها على لسانِ إبراهيمَ عليه السلام، والمدينةُ بين حرَّتين عَظِيمتين يكتنفانها إحداهما: شرقيَّةٌ، والأخرى: غربيَّة.
          ولأحمد عن جابر: ((وأنا أحرِّمُ ما بينَ حرَّتيها))، ولأحمد أيضاً من طريقِ عبيد الله بلفظ: ((إنَّ الله ╡ حرَّم على لساني ما بين لابَتَي المدينةِ)) ونحوهُ للإسماعيلي.
          وزاد مسلمٌ في بعضِ طرقهِ: ((وجعل اثني عشرَ ميلاً حولَ المدينة حمى)).
          ولأبي داود من حديث عديِّ بن زيدٍ قال: ((حِمَى رسول الله صلعم كلَّ ناحيةٍ من المدينة بريداً بريداً لا يخبطُ شجره، ولا يعضدُ إلَّا ما يساقُ به الجمل)).
          وادَّعى بعض الحنفيَّة: أنَّ الحديثَ مضطربٌ قال: لأنَّه وقعَ في رواية: ((ما بين جبليْهَا))، وفي أخرى: ((ما بينَ لابتيْهَا))، وفي أخرى: ((ما بين حرَّتيها)).
          وأُجيب: بأنَّ الأحاديث الصَّحيحة لا ترد بمثل هذا إذا أمكنَ الجمعُ وهو ممكنٌ، ولو سلَّمنا تعذُّرَه أمكن التَّرجيح، ولا شكَّ أن روايةَ ((لابتيها)) وبمعناها ((حرتيها)) أرجحُ من جبليها؛ لتواردِ أكثرِ الرُّواة عليها.
          ورواية: ((جبليهَا)) لا تنافيها؛ لأنَّ لابتيْهَا من جهةِ الجنوب والشَّمال، وجبليها: من جهةِ المشرق والمغرب، أو لأن عند كلِّ لابةٍ جبلاً، فتأمَّل.
          وتحريمُ ما بين لابتيْهَا يدلُّ على فضلهَا، وفضل حرمها، فتحصلُ المطابقةُ للترجمة.
          (قَالَ): أي: أبو هريرةَ ☺ (وَأَتَى النَّبِيُّ صلعم بَنِي حَارِثَةَ): بحاء مهملة فألف فراء فمثلثة فهاء تأنيث، بطنٌ من الأوسِ، وكان منزلهم يومئذٍ غربي مشهد حمزة، وللإسماعيليِّ: ثمَّ جاء بني حارثة، وهم في سند الحرة؛ أي: في الجانبِ المرتفعِ منها.
          قال في ((الفتح)): الأوسُ هو: حارثة بن الحارث بن الخزرج، وكان بنو حارثة، وبنو عبد الأشهل في دار واحدةٍ، ثمَّ وقعت بينهم حروب، فانهزمتْ بنو حارثةَ إلى خيبر فسكنُوها، ثمَّ اصطلحوا فرجعَ بنو حارثةَ، فلم ينزلوا في دار بني عبدِ الأشهلِ، وسكنُوا في دارهم التي هي غربي مشهدِ حمزة.
          (فَقَالَ): بالفاء؛ أي: النَّبيُّ عليه السلام، ولأبي الوقت: <وقال> بالواو (أَرَاكُمْ): بفتح الهمزة في الفرع وغيره من الأصول (يَا بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الْحَرَمِ): فجزم بما غلب على ظنِّه، ولو قرئ: ((أُراكم)) بضم الهمزة لكان أظهرُ.
          (ثُمَّ الْتَفَتَ): أي: النَّبيُّ صلعم فرآهُم في داخلِ الحرم، فقال: (بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ): وللإسماعيليِّ بذكرها مرَّتين للتَّأكيد.
          واستنبطَ من الحديثِ: أنَّ للعالمِ أن يجزمَ لغلبة ظنِّه فإذا تبيَّن بخلافهِ رجع إليه.