الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها

          1867- وبالسند قال: / (حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ) أي: محمَّد بن الفضل السَّدوسي، قال: (حَدَّثَنَا ثَابِتُ) بمثلثة أوله (ابْنُ يَزِيْدَ) بتحتية أوله؛ أي: الأحول، قال: (حَدَّثَنَا عَاصِمٌ) أي: ابن سليمانَ (أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَحْوَلُ، عَنْ أَنَسٍ) ☺، وسيأتي في الاعتصَام عن عاصم: ((قلتُ لأنسٍ))، ولمسلم: ((سألتُ أنساً)).
          (عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ) بفتح الحاء والراء بلا ألف؛ أي: محرمةٌ لا تُنتهَكُ حرمتُها، وفي بعضِ الأصُول: <حرام> بألف بعد الراء (مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا) بفتح الكاف والذال المعجمتين في الموضِعين، اسم إشارةٍ كنَاية عن مَكانينِ مخصُوصينِ إمَّا جبلين، ويدلُّ له ما في مسلمٍ عن أنسٍ مرفوعاً: ((اللَّهمَّ إنِّي أحرِّمُ ما بينَ جبليْهَا)). وإمَّا لابتيها: ويدلُّ لذلك ما رواهُ البيهقيُّ من حديثِ عبد الرَّحمن بن عَوفٍ بلفظ: ((اللَّهمَّ إنِّي أحرِّمُ ما بين لابتيهَا))، ولفظ رابع أحاديث البابِ عن عليٍّ: ((ما بينَ عائرَ إلى كذا)).
          فسمَّى الأول: عائراً _بهمزة بعد الألف_، وسيأتي في الجزيةِ وغيرها بلفظ: ((عَيْر)) بتحتية ساكنة من غير ألف والعين مهملة فيهما مفتوحة، وهو جبلٌ بالمدينةِ، واتَّفقتْ رواياتُ البُخاريِّ على إبهامِ الثاني.
          ووقعَ في مسلمٍ: ((ما بينَ عيرٍ إلى ثورٍ)).
          ولأحمد والطَّبراني: ((ما بينَ عيرٍ إلى أُحُد))، فقيل: إنَّ البخاريَّ أبهمهُ عمداً لما أنَّه عنده وهمٌ.
          لكن قال في ((الفتح)): وأمَّا قول ابن التين: إنَّ البُخاريَّ أبهم اسمَ الجبلِ عمْداً؛ لأنَّه غلطٌ فهو غلطٌ منه، بل إبهامُهُ من بعضِ رواتهِ، فقد أخرَجهُ في الجزيةِ وسمَّاه، انتهى فتدبَّر.
          وقال صاحب ((المشارق)) و((المطالع)): أكثرُ رواة البخاريِّ ذكروا عيراً، وأمَّا ثورٌ؛ فمنهم من كنَّى عنه بكذا، ومنهم من بيَّضَ له، والأصلُ في التَّوقُّف فيه قولُ مصْعبٍ الزُّبيري: ليس بالمدينةِ عير ولا ثورٌ.
          وقال أبو عُبيد: أهلُ المدينة لا يعرفون جبلاً يقال له: ثور، وإنما هو بمكَّةَ، ويرى أنَّ الحديثَ ما بينَ عير إلى ثورٍ، كما مرَّ لأحمد والطَّبراني.
          وقد ردَّ على أبي عُبيد: المحبُّ الطبريُّ بما أخبرَهُ به الثِّقة أبو محمَّد عبد السلام البصري: أنَّ هذا أحُدٌ جانحاً إلى ورائهِ جبلٌ صغير ممتدٌّ يقال له: ثورٌ، وأنه قال: وتكرَّر سُؤالي عنه طوائف من العربِ العارفينَ بتلك الأرض، فكلٌّ أخبرَ أنَّ اسمه: ثور.
          وبما في ((القاموس)): ثورٌ: جبل بمكَّة، وجبلٌ بالمدينةِ، قال: ومنه الحديثُ الصَّحيح: ((المدينةُ حرمٌ ما بينَ عيرٍ إلى ثورٍ)).
          وقال القاضِي عياضٌ: لا مَعنى لإنكارِ عير بالمدينة، فإنَّه معْروفٌ جاء في أشَعارهِم منها قولُ الأحوص المدني المشهور:
فَقُلْتُ لِعَمْرٍو تِلْكَ يَا عَمْرُو نَارُهُ                     تَشِبُّ قَفَا عيرٍ فَهَلْ أَنْتَ نَاظِرِ
          وقال ابن السيد في ((مثلثته)) عير: اسم جبلٍ بقربِ المدينةِ معروفٌ، وسلك العلماءُ كما في ((الفتح)) في إنكارِ مصعبِ بن الزُّبير لعير وثورٍ منها: قولُ ابنِ قدامةَ، يحتملُ أنَّ المراد: مقدارُ ما بين عيرٍ وثورٍ؛ لأنهما بعينهما في المدينةِ، أو سمَّى النَّبي عليه السلام الجبلين اللَّذين بطرَفي المدينةِ عيراً وثوراً ارتجالاً.
          وقال النَّووي: يحتملُ أن ثوراً كان اسم جبلٍ هناك أحداً وغيره، انتهى فتأمَّله.
          (لاَ يُقْطَعُ) بالتحتية مبنيًّا للمفعول (شَجَرُهَا) وليزيد بن هارون: ((لا يختَلَى خِلاهَا))، ولمسلمٍ عن جابرٍ: ((لا يُقْطَعُ عضَاهُها، ولا يُصَادُ صيْدُها))، ولأبي داودَ بإسنادٍ صحيحٍ: ((لا يُختَلى خِلاهَا، ولا ينفَّرُ صيدُهَا)).
          فيحرمُ صيدُ حرمِ المدينة، وقطْعُ شجرِهَا، كما في حرمِ مكَّة، حتى فيمَا استثني فيه، لكن لا ضمانَ في هذا؛ لأنَّ حرم المدينةِ ليس محلًّا للنُّسُك بخلاف حرمِ مكَّة، وكون حرمِ المدينةِ لا ضمَانَ فيه على الصَّحيح عند الشَّافعيَّة كوج الطائف، وفي القديمِ يضمنُ ذلك لكلِّ من وجد الصَّائد بما عليهِ غير ساترٍ عورته؛ للخبر الصَّحيحِ بذلك.
          وقيل: حتى ساتر العورة، فيؤخذُ منه بعد سترها، والصَّحيحُ: أنَّه لا ضمانَ في ذلك، لكنه حرامٌ، فيحرم صيدهُ، وقطعُ شجرهِ على المحرمِ وغيره، والمذبوحُ منه ميتة كصَيدِ مكَّة.
          قال ابن بطَّال: اتَّفق مالكٌ والشَّافعي وأحمدُ وجمهورُ الفقهاء على أنَّ الصَّيد محرمٌ في حرمِ المدينَةِ، وقال أبو حنيفةَ وأصحَابُه: صيدُ المدينة غير محرمٍ، وكذلك قطعُ شجرهَا، قال: فخالَفَ آثار هذا الباب.
          واحتجَّ الطَّحاوي لهم بحديثِ أنسٍ: أنَّ النَّبيَّ دخلَ دارهُم، وكانَ لأنسٍ أخٌ صغيرٌ له نغيرٌ يلعبُ به، فقال له النَّبيُّ: ((يا أبا عُمير ما فعلَ النُّغَير)) فأقرَّه، ولا حجَّة فيه؛ لأنَّه يمكنُ أنَّه صيدٌ من غيرِ الحرم.
          ثمَّ قال: وجمهورُ العلماءِ على أنَّه لا جزاءَ في حرمِ المدينةِ، لكنَّه آثمٌ عندهُم.
          ثمَّ قال: وشذَّ ابنُ أبي ذئبٍ وابن نافعٍ صاحب مالكٍ والشَّافعي في أحدِ قوليهِ، فأوجبُوا فيه الجزاءَ، فإن احتجُّوا فيه بحديث سعدٍ أنَّ الرَّسول قال: ((مَنْ وجدْتُموهُ يصِيدُ في حرمِ المدينةِ، ويقطعُ شجرَهَا، فخُذُوا سلبهُ)).
          فيقالُ لهم: لم يصحَّ عند مالكٍ، ولا رأى عليهِ عمل أهل المدينةِ، انتهى ملخَّصاً.
          وقال في ((فتح الباري)): وفي روايةٍ لأحمد وهو قولُ الشَّافعي في القديم / وابنِ أبي ذئب، واختارهُ ابنُ المنذرِ وابن نافعٍ من أصحاب مالكٍ.
          وقال القاضِي عبد الوهاب: أنَّه الأقيسُ، واختارَهُ جماعةٌ بعدهُم فيه الجزاء، وهو كمَا في حرم مكَّة، وقيل: الجزاء في حرمِ المدينةِ أخذُ السَّلب؛ لحديثٍ صحَّحه مسلمٌ عن سعد بنِ أبي وقَّاص، وفي روايةٍ لأبي داود: ((مَن وجدَ أحداً يصِيدُ في حرمِ المدينةِ فليسْلُبْه)).
          وتَعقَّب ما ذكرهُ من احتمَالاتِ النُّغير من غير الحرمِ بأنَّه بعيدٌ، وعلى تسليمهِ فلا يردُ على الحنفيةِ؛ لأنَّ صيدَ الحلِّ عندهُم إذا دخلَ الحرم كان له حُكْم صيدِ الحرمِ، وإن كان عندَ غيرهِمْ لا يلزمهُ إرساله.
          (وَلاَ يُحْدَثُ) بالبناء للمفعول (فِيهَا) أي: في المدينةِ (حَدَثٌ) بفتح المهملتين ومثلثة آخره؛ أي: لا يعمل فيها أحدٌ عمَلاً مخالفاً للكتابِ أو السُّنَّة ولو استنباطاً منهما، والحديثُ بهذا المعنى لا يجوزُ أن يعملَ في المدينةِ ولا في غيرها، لكن الوعيدَ هنا أشدُّ وأغلظُ لقوله: (مَنْ أَحْدَثَ) أي: فيها، وثبتَ في بعض الأصُول (حَدَثاً) أي: بالمعنى المارِّ آنفاً، وزاد شعبةُ عن عاصمٍ: ((أو آوَى محدَثاً))، وهذه الزِّيادة صَحيحةٌ، لكنَّ عاصماً لم يسمعْهَا من أنسٍ.
          وجملة: (فَعَلَيْهِ... إلخ) جواب ((من)) الشَّرطية أو الموصُولة (لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وهذا وعيدٌ شديدٌ، لكنَّ اللَّعن هنا بمعنى العذابِ الذي يستحقُّهُ على ذنبهِ لا كلعنِ الكَافرِ من أنَّه الإبعاد كلُّ الإبعادِ عن رحمةِ الله تعالى.
          قال عياضٌ: واستدلَّ بهذا الحديث على أنَّ الحدثَ في المدينةِ من الكبَائرِ.
          والمطابقةُ فيه ظاهرةٌ من حيثُ ترتَّبُ هذا الوعيد، ومن حيث أنَّه لا يقطعُ شجرَها، فإنَّه يدلُّ على فضْلِهَا وفضلِ حرمِهَا، وهو من الرَّباعيَّات.
          وأخرجهُ المصنِّف أيضاً في الاعتصام، ومسلمٌ في المناسك.