الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا من أحدث فيها حدثًا

          1870- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ): بفتح الموحدة وتشديد الشين المعجمة، هو المشهورُ ببُنْدار، قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ): أي: ابن مهديٍّ، قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ): أي: الثَّوري (عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ): أي: ابن يزيد (عَنْ أَبِيهِ): قال في ((الفتح)): وفي الإسناد ثلاثة كوفيون من التابعين في نسقٍ واحدٍ، قال: وهذه روايةُ أكثر أصحابِ الأعمش عنه، وخالفَهُم شعبة؛ فرواهُ عنه أحمدَ والنَّسائي عن الأعمش عن إبراهيم التَّيمي عن الحارثِ بن سويدٍ عن علي.
          قال الدَّارقطنيُّ: والصَّواب رواية الثَّوري ومن تبعه.
          (عَنْ عَلِيٍّ ☺ قَالَ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ): أي: مكتوبٌ من السُّنَّة وإلا فعنده أشياءُ من السنة سوى الكتاب، أو المنفي شيءٌ اختصُّوا به عن الناس (إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ): برفع ((كتاب))؛ أي: القرآن العزيز، ويجوزُ نصبه (وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ): أي: الورقةُ المكتوبةُ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم): وسبب قول عليٍّ ما ذكر يظهرُ بما في ((مسند أحمد)) عن أبي حسَّان الأعرج: أنَّ / عليًّا كان يأمرُ بالأمرِ فيقال له: قد فعلنا، فيقولُ: صدقَ اللهُ ورسوله، فقال له الأشترُ: إنَّ هذا الذي تقوله أهو شيء عهدهُ إليك رسولُ الله صلعم ؟ قال: ما عهدَ إلينا شيئاً خاصَّةً دون النَّاس إلا شيئاً سمعتهُ منه، فهو في صحيفةٍ في قرابِ سيفِي، فلم يزالوا به حتى أخرجَ الصَّحيفة فإذا فيها:
          (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ): بفتحتين؛ أي: محرَّمةٌ (مَا بَيْنَ عَائِرٍ): بهمزة بعد الألف، وفي بعضِ الأصُولِ: بتحتية ساكنة من غير ألف (إِلَى كَذَا): أي: ثور كما في مسلم، وتقدَّم قريباً ما في ذلك من الرِّوايات، وبيان معناه كبقيَّة الحديث.
          (مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا): أي: في المدينةِ (حَدَثاً، أَوْ آوَى): بمد الهمزة الثانية على الأفصحِ في المتعدِّي وعكسه في اللازم (مُحْدِثاً): أي: للبدعة، ويجوز فتحها على معنى الأمر المبتدع، فإذا رضيهُ وأقرَّ فاعله عليه فقد آواهُ (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ): بالبناء للمفعول (مِنْهُ): أي: ممَّن أحدثَ (صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ): الصَّرف _بفتح الصاد_: الشفاعة أو التَّوبةُ أو النافلة أو الفرضُ أو الوزن أو الاكتساب، أو الحيلةُ، ومنه: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلَا نَصْراً} [الفرقان:19].
          وقيل: معنى: {مَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً} أن يصرفوا عن أنفسِهم العذابَ، وقيل: الصَّرف الديةُ، أو الرَّشوة.
          والعَدل _بفتح العين_: الفديةُ أو الفريضَةُ أو النَّافلةُ أو الكيلُ أو البديلُ.
          وقال عياضٌ: معناه: لا يقبلُ قبولَ رضى وإن قُبِل منه قبولَ جزاءٍ، قيل: معنى الفدية: أن لا يجد في القيامة فداءً يفتدي به بخلاف غيرهِ من المذنبين الذين يتفضَّل الله عليهم بالفديةِ من النَّار بيهوديٍّ أو بنصرانيٍّ مثلاً كما في الحديث الصَّحيح.
          تنبيه: زادَ في الصَّحيفة: ((المؤمنونُ تتكَافأ دماؤُهُم، ويسعَى بذمَّتِهم أدنَاهُم، وهم يدٌ على من سِواهُم، ألا لا يقتلُ مؤمنٌ بكافِرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهدِهِ)).
          وقال فيها أيضاً: ((إنَّ إبراهيم حرَّمَ مكَّةَ، وإنِّي أحرِّمُ ما بين حرَّتيها، وحماها كله لا يُختلى خلاها، ولا ينفر صيدُها، ولا تلتقطُ لقطتُها، ولا يقطعُ منها شجرةٌ، إلا أن يعلفَ رجلٌ بعيرهُ، ولا يحمل فيها السِّلاح لقتالٍ)).
          وتقدَّم في العلم: عن أبي جحيفة: قلت لعليٍّ: هل عندكم كتابٌ؟ قال: لا إلا كتابَ الله، أو فهمٌ أعطيه رجلُ مسلمٌ، أو ما في هذه الصَّحيفة، قلت: وما في هذه الصَّحيفة؟ قال: العقلُ، وفكاكُ الأسيرِ، ولا يقتلُ مسلمٌ بكافرٍ.
          قال في ((الفتح)): ويجمعُ بين هذه الأخبار: بأنَّ الصَّحيفة كانت مشتملةً على جميعِ ما ذكر، فنقل كلُّ راوٍ الذي نقلهُ، انتهى.
          (وَقَالَ): أي: النَّبي أيضاً (ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ): أي: أمانة أيِّ واحد منهم، ومعاهدتهُ شريفاً، أو وضيعاً حرًّا، أو عبداً رجلاً، أو امرأة، صحيحٌ نافذٌ على المسلمين، فإذا أمنَ واحدٌ منهم كافراً أو أكثرَ بشروطه المعروفة في الفقه؛ فليس لأحدٍ منهم نقضهُ ولا إبطالهُ لقوله عليه السلام: (فَمَنْ أَخْفَرَ): بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة ففاء مفتوحة فراء.
          قال الكرمانيُّ وغيره: يقال: خفرْتُ الرجل _بغير ألف_ أمنتهُ، وأخفرتُه: إذا نقضْتُ عهدهُ فالهمزة للسَّلب، انتهى.
          (مُسْلِماً): أي: من نقضَ عهدَهِ وذمامَه (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ. وَمَنْ تَوَلَّى قَوْماً): أي: اتَّخذهُم أولياءَ له (بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ): أي: الذين أعتقُوهُ ليس الإذن بشرط؛ لجواز الادِّعاء لغيرِ مواليهِ، وإنما هو لتأكيدِ التَّحريم؛ لأنَّه لو استأذنهُم في ذلك منعوهُ غالباً، أو المراد: موالاةُ الحلف، فإذا أرادَ الانتقالَ عنه لا ينتقلُ إلا بإذنٍ، وبالجملة: فإن أريدَ ولاء الحلفِ فهو سائغٌ، وإن أريدَ ولاء العتقِ؛ فلا مفهومَ له وإنَّما هو للتَّنبيه على المانعِ، وهو إبطال حقِّ الموالي.
          (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ): بالبناء للمفعول، وفي بعضِ الأصولِ: <الله> بذكر الفاعل (مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ).
          قال النَّووي: في هذا الحديثِ إبطالُ ما تزعمُه الشيعة ويفترونهُ من قولهم: أنَّ عليَّ بن أبي طالبٍ ☺ أوصى إليه النَّبي عليه السلام بأمورٍ كثيرةٍ من أسرارِ العلم، وقواعد الدِّين، ومن الإيصاءِ له بخصائص له ولأهل البيت، ولم يطَّلع على ذلك غيرهم، فهذه دعاوى باطلةٌ واختراعاتٌ لا أصلَ لها زائلةٌ.
          ففي مسلمٍ عن أبي الطُّفيل قال: ((كنتُ عند عليٍّ، فأتاهُ رجلٌ فقال: ما كانَ النَّبيُّ صلعم يسرُّ إليك، / فغضِبَ ثم قال: ما كان يسرُّ إليَّ شيئاً يكتُمهُ عن الناس غير أنَّه حدَّثني بكلماتٍ أربع)).
          وفي روايةٍ له: ((ما خصَّنا بشيءٍ لم يعمَّ به الناس كافَّةً إلا ما كان في قرابِ سيفِي هذا، فأخرجَ صحيفةً مكتوبٌ فيها لعنَ الله من ذبحَ لغيرِ الله، ولعنَ الله من سرقَ منارَ الأرض، ولعنَ الله من لعنَ والدَه، ولعنَ الله من آوى محدثاً))، انتهى.
          وبهذا يعلمُ: أنَّ ما في الصَّحيفة لا ينحصرُ فيما مرَّ، بل هي مشتملةٌ على جميع ما ذكر، فافهم.
          وفي الحديثِ فوائدُ كثيرةٌ تقدَّمت، وستأتي:
          منها: جواز كتابة العلم، وتقدَّمت في كتابِ العلم، وفي إسناده ثلاثةٌ من التَّابعين في نَسَقٍ واحدٍ، وأن رواتهُ كلُّهم كوفيون إلا شيخَه وشيخ شيخهِ فبصريَّان، فاعرفه.
          <قال أبو عبد الله: عَدل> بفتح العين <فِداء> بكسر الفاء ممدود، وهذا تفسيرُ الأصمعيِّ، وهذه الجملة أيضاً ساقطةٌ في غير رواية أبي ذرٍّ عن المستملِي، هذا ورأيتُ هنا في نسخةٍ صحيحةٍ: <قال محمد: قال الأعمش: عائر إلى ثور، وأخطأ الأعمشُ: في ثور عدل فداء>، انتهى.
          والظَّاهرُ: أنَّه أراد بمحمد البخاري، وأراد بكون الأعمش أخطأ في ثور؛ أي: لأنَّ الثابت في الأصول: عدم التَّعيين في الثَّاني مطلقاً كذا وفي الأول، لكن على خلاف.