غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

معاوية بن أبي سفيان

          1302 # معاوية بن أبي سُفيان(1) ، اسمه صَخْرُ بنُ حَرْب بن أُميَّةَ بن عبد شمس بن عبدِ مَنَافٍ، هو أخو يزيد الصَّحابيِّ، وأبو يزيد التَّابعيِّ، وهو أخو زياد بن سُمَيَّة، المعروف بزياد بن أبيه، أبو عبد الرَّحمن، القرشيُّ، الأمويُّ، نزيل الشَّام، وأمُّه هند بنت عُتبة بن ربيعة، وهو صحابيٌّ ابن الصَّحابييَّن.
          روى عن رسول الله صلعم مئة حديث وثلاثة وستِّين حديثاً. ذكر البخاريُّ منها ثمانية.
          روى عنه: ابن عبَّاس، وحُميد بن عبد الرَّحمن، وعُمير بن هاني، وحُمْران بن أَبَان(2) .
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب / من يرد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين، من كتاب العلم [خ¦71] .
          ولي الخلافة حين سلَّم الأمر إليه الحسن بن عليٍّ، وصالحه، وذلك في شهر ربيع الآخر، أو جمادى الأولى، سنة إحدى وأربعين، واستمرَّ على ذلك عشرين سنة استقلالاً، وتولَّى قبل ذلك عشرين سنة نيابة، زمن عمر ومن بعده، فتولَّى أربعين [سنة] نيابة وخلافة، وهو وأبوه وأخوه يزيد(3) وأمُّه هند من مسلمة الفتح على الأصحِّ، وكان معاوية ينكر أنَّه من مسلمة الفتح، ويقول: إنَّه أسلم عام القضيَّة(4) ، ولقي النَّبيَّ صلعم مسلماً، وكان يكتم إسلامه، وذلك لمَّا سمع النَّبيَّ قال: «هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثمَّ في أهل أحد ما بقي منهم أحد(5) ، ثمَّ في كذا، ثمَّ في كذا، وليس فيها لطليق(6) ، ولا لولد طليق، ولا لمسلمة الفتح شيء». قاله الكرمانيُّ، وفي آخر عمره أصابته لقوة، وكان يقول: ليتني كنت رجلاً من قريش بذي طُوى، ولم أَلِ(7) من هذا الأمر شيئاً. وكان عنده إزار رسول الله صلعم ورداؤه وقميصه وشيء من شعره وأظفاره، فقال: كفِّنوني في قميصه، وأدرجوني في ردائه، وأزِّروني بإزاره، واحشوا منخري ومواضع السُّجود منِّي بشعره وأظفاره، وخلُّوا بيني وبين أرحم الرَّاحمين.
          وشهد مع رسول الله صلعم حُنيناً، وكان هو وأبوه من المؤلَّفة قلوبهما(8) ، وحسن إسلامهما. قال ابن سيِّد النَّاس(9) : أعطى النَّبيَّ صلعم المؤلفة قلوبهم من غنائم حُنين، فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومئة من الإبل، فقال: ابني يزيد. قال: «أعطوه أربعين أوقية، ومئة من الإبل». فقال: ابني معاوية. فقال: «أعطوه أربعين أوقية، ومئة من الإبل».
          قال ابن الأثير(10) : كتب معاوية لرسول الله صلعم، ولمَّا سيَّر أبو بكر الجيوش إلى الشَّام سار معاوية مع أخيه يزيد، وكان أَمَّره أبو بكر على جيش، وسيَّره إلى الشَّام، وخرج معه [يسيِّره] راجلاً، فلمَّا ولي عمر ولَّى يزيد فلسطين، فلمَّا مات يزيد بطاعون عمواس، استخلف معاويةَ على عمله بالشَّام. قال ابن الأثير(11) : وهو دمشق، فلمَّا بلغ خبر وفاة يزيد إلى عمر، قال لأبي سفيان: أحسن الله عزاءك في يزيد، ⌂. فقال أبو سفيان: من ولَّيت مكانه؟ قال: أخاه معاوية. قال: وصلت رحمك يا أمير المؤمنين. وقال صلعم لمعاوية: «اللهم اجعله هادياً مهديًّا، [واهد به] ».
          قال ابن عبَّاس: معاوية فقيه. قال ابن عمر: ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلعم أسود من معاوية. فقيل له: أبو بكر وعمر وعثمان؟! فقال: كانوا والله خيراً من معاوية وأفضل، ومعاوية أسود. أي أحسن سيادة، ولمَّا دخل عمر ☺ الشَّام ورأى معاوية قال: هذا كسرى العرب.
          قال ابن عبَّاس: كنت ألعب مع الصِّبيان، فجاء رسول الله صلعم، فتواريت خلف باب، قال: فجاء فَحَطَأَني / حَطْأة(12) ، وقال: اذهب فادع لي معاوية. قال: فجئت فرأيته يأكل، فرجعت، فقلت: هو يأكل، قال صلعم: «لا أشبع الله بطنه». أخرجه مسلم، وعدَّه منقبة له، وذلك لأنَّ الذي لا يشبع حريص، وكان، ☺، حريصاً على فتح البلاد واتسَّاع الإسلام، ولم يزل.
          كان والياً على ما كان يتولَّى أخوه بالشَّام جميعه إلى أن قتل عثمان، فانفرد بالشَّام، ولم يتابع عليًّا، وأظهر الطَّلب بدم عثمان، وكان وقعة صفِّين بينه وبين عليٍّ، وهي مشهورة. قلت: وقد مضى في ترجمة الحسين أنَّه لا يجوز قراءة حربهم وما جرى بين الصَّحابة للعامَّة؛ فإنَّ(13) فيه تهييجاً للشَّرِّ والطَّعن واللَّعن، والطَّاعن فيهم طاعن في دينه، فإنَّ الدِّين منهم أُخذ، وحرَّم لعنهم، ثمَّ لمَّا قتل عليٌّ، واستخلف الحسن، سار معاوية إلى العراق، وسار إليه الحسن بن عليٍّ، فلمَّا رأى الحسن الفتنة، وأنَّ الأمر عظيم، تُراق فيه الدِّماء، ورأى اختلاف أهل العراق، سلَّم الأمر إلى معاوية، وعاد إلى المدينة، وتسلَّم معاوية العراق، وأتى الكوفة، فبايعه النَّاس، واجتمعوا عليه، فسمِّي عام الجماعة، وظهر صدق النَّبيُّ صلعم، حيث قال في الحسن: «ابني هذا سيِّد، ولعلَّ الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».
          ولي دمشق أربع سنين من خلافة عمر، واثني عشر سنة من(14) خلافة عثمان، مع ما أضاف إليه من باقي الشَّامات، وأربع سنين تقريباً خلافة عليٍّ، وستَّة أشهر خلافة الحسن، ووصَّى أن يكفَّن في قميص كان قد كساه رسول الله صلعم إيَّاه، وأن يجعل ممَّا يلي جسده، وأن يسحق قلامة أظفاره صلعم وتجعل في عينيه وفمه، وكان أبيض اللَّون جميلاً، إذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يخضب لحيته، وقال: ما زلت أطمع في الخلافة مذ قال لي رسول الله صلعم: «إن ولِّيت فأحسن».
          وكان من أحلم النَّاس، يضرب بحلمه المثل، ومن حلمه أنَّه تباطأ عن حضور الجمعة، فحضر وقد أخذ النَّاس مجالسهم، فجعل يشقُّ الصُّفوف حتَّى وصل إلى شخص، وضرب بركبته ظهره، وأراد أن يفسح (له)، فقال [له] : هل أنت حمار؟ قال: لا، بل معاوية بن أبي سفيان. فخجل الرَّجل، وقال: أستغفر الله يا أمير المؤمنين. فقال: ماذا جرى؟ سألتني فأجبتك. وقسم مرَّة طنافس، فحصل لشيخ طنفسة خشنة، طويلة الخمل(15) ، فحلف أنَّه يضرب بها رأس معاوية، فبلغه الخبر، فبعث إليه ليحضر، ويحضر معه الطُّنفسة، فامتثل، فقال له معاوية _وقد كشف رأسه_: اضرب رأسي بطنفستك، وليرفق الشَّيخ بالشَّيخ. فقال: يا أمير المؤمنين، العفو. قال: لا بدَّ من ذلك، ولا نحنِّثك. وأمثال هذا كثير، فرضي الله عنه، وقال: لو كان بيني وبين النَّاس شعرة ما انقطعت. قيل له: وكيف / ذلك؟ قال: إذا تركوا(16) مددتها، وإذا مدُّوا تركتها، وبالجملة فمعاوية من كبار الصَّحابة، وهو كاتب الوحي، ودعا له صلعم، ونحن أيضاً ندعو له.
          توفِّي منتصف رجب، سنة ستِّين، عن ثمانٍ وسبعين سنة على الأصحِّ، أو لثمان بقين من رجب، سنة تسع وخمسين، عن اثنتين(17) وثمانين سنة، ولمَّا توفِّي أخذ الضَّحَّاك بن قيس أكفانه، وصعد المنبر، وخطب النَّاس، وقال: إنَّ أمير المؤمنين معاوية كان جَدَّ العرب، وعود العرب، قطع الله به أنف الفتنة، وملَّكه على العباد، وسيَّر جنوده في البرِّ والبحر، وكان عبداً من عبيد الله(18) ، دعاه فأجابه، وقد قضى نحبه، وهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومخلُّوه وعمله فيما بينه وبين ربِّه، إن شاء الله رحمه، وإن شاء عذَّبه. وصلَّى عليه الضَّحَّاك، ودفنه بدمشق، وكان يزيد غائباً، فلمَّا ثقل في مرضه، أرسل إليه الضَّحَّاك، فقدم وقد مات معاوية، فقال(19) _من البحر البسيط_:
جاء البريدُ بقرطاسٍ يحثُّ به                     فأوجسَ القلبُ من قرطاسِه فَزِعَا
قلنا لك الويل ماذا في صحائفكم                     قالوا الخليفةُ أمسىَ مُثْبَتاً وَجِعَا
          وأتاه [أبو مسلم الخولاني حين حبس العطاء،](20) (وطلب منه شيئاً، وقال): أعطنا يا معاوية من مال الله، ليس من كدِّك ولا كدِّ أبيك. فغضب معاوية، [ونزل عن المنبر، وقال للناس مكانكم. فغاب ساعة وكان قد] دخل واغتسل وخرج، ثمَّ قال: أين السَّائل؟ صدق، ليس من كدِّي ولا كدِّ أبي. ثمَّ قال: سمعت النَّبيَّ صلعم يقول: «إنَّ الغضب [من الشَّيطان، والشَّيطان خلق من النَّار](21) ، وإنَّما يطفأ النَّار بالماء، فمن غضب فليغتسل». [وإني اغتسلت هلموا إلى عطاياكم]


[1] جاء في (ن) زيادة: (بضم المعجمة).
[2] وجاء في الأصول: (مهدي بن أبان)، وهو تصحيف، وجاء في هامش (ه) عند قوله: زياد بن ابيه: (ويقال: ابن أمه).
[3] في (ن) تصحيفاً: (زيد).
[4] اضطربت العبارة في (ن) وتداخلت الكلمات والمثبت من غيرها وجاء في هامش (ه) عند كلمة (القضية): صوابه: الحديبية. وجاء في (ن): (وهو عام الصلح وهو عام الحديبية).
[5] في (ن): (أحدا) والمثبت هو الوجه في اللغة.
[6] في (ن) تصحيفاً: (تطليق).
[7] في (ن): (ولم أر).
[8] في (ن): (قلوبهم).
[9] عيون الأثر:2/220.
[10] أسد الغابة:5/201.
[11] أسد الغابة:5/202، وفيه: وصلتْكَ رحم، والحَطْأة: لا تكون إلا ضربة بالكف بين الكتفين، أو على الصدر، أو على الكَتِد. اللسان: حطأ، والحديث في صحيح مسلم، برقم (2604)، وفسره أحد رواة مسلم، فقال: حطأني: قفدني قفدة، ومعناه، كما قال القاضي عياض في مشارق الأنوار 1/192: الصفع بالكف على الرأس، وقيل: في العنق، وهو مهموز وغير مهموز.
[12] في (ن) تصحيفاً: (فجاءني فرآني).
[13] في غير (ن): (لأن).
[14] في (ن): (على).
[15] في غير (ن): (الوبر).
[16] في غير (ن): (خلوا).
[17] في (ن): (اثنين).
[18] في (ن) تصحيفاً: (عبد ابن عبيد الله).
[19] في (ن): (فقال معاوية) وهو وهم.
[20] في غير (ن): (أتاه شخص وطلب..).
[21] في غير (ن): (إن الغضب جمة من النار). وجاء بعد ذكر الحديث في غير (ن): (أو كما قال).