غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

مالك بن أنس

          1095 # مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر، أبو عبد الله، الأصبحيُّ، صاحب المذهب، شيخ الشَّافعيِّ، حليف عثمان بن عُبيد الله(1) ، أخي طلحة، التَّيميُّ، القرشيُّ، المدنيُّ.
          سمع: نافعاً، والزُّهريُّ، ويحيى بن سعيد، وزيد بن أسلم، وموسى بن عقبة، وعبد الله بن دينار، وصالح بن كيسان، وهشام بن عروة، وأبا الزِّناد(2) ، وعبد الرَّحمن بن القاسم، وأيُّوب.
          روى عنه: يحيى القطَّان، وابن مهديٍّ، وابن المبارك، ومعن بن عيسى، وأبو إسحاق الفزاريُّ، وأبو نعيم، [وأبو عاصم،] والقعنبيُّ، وعبد الله بن يوسف، وإسماعيل بن أبي أويس.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة، في أوَّل الصَّحيح [خ¦2] ، في ثاني حديث فيه، وأكثر من الرِّواية عنه في صحيحه.
          ومناقب مالك أكثر من أن تعدَّ، وأجلُّ من أن تحصى، وهو نجم السُّنن. روى التِّرمذيُّ(3) عن رسول الله صلعم قال: «يوشك أن تضرب النَّاس آباط الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة».
          وحمل سفيان بن عيينة وغيره هذا الحديث على مالك، فقالوا: هو العالم المذكور. وهو جدير به، كما قالوا، قال البخاريُّ: أصحُّ الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وتسمَّى (سلسلة) هذا الإسناد سلسلة الذَّهب. وقال وهيب(4) : ما بين المشرق والمغرب رجل آمن على حديث رسول الله صلعم من مالك.
          قال الكرمانيُّ(5) : هو أحد / الأئمَّة السِّتَّة، أصحاب(6) المذاهب المحمودة المتبوعة في الأمصار(7) ، وهم: مالك، وأبو حنيفة، والشَّافعيُّ، وأحمد، وسفيان الثَّوريُّ، وداود الأصبهانيُّ الظَّاهريُّ. وقد جمع الإمام أبو الفضل(8) الحَصْكَفيُّ الخطيب الشَّافعيُّ أسماءهم، فقال _من البحر الطَّويل_:
وإن شئتَ أركانَ الشَّريعةِ فاستمعْ                     لتعرفَهمْ واحفظْ إذا كنتَ سامعا
محمَّد والنُّعمان مالك أحمد(9)                      وسفيان واذكرْ بعد داودَ تابِعا
          ولد مالك في خلافة سليمان بن عبد الملك، وحمل به ثلاث سنين، يعني بقي في البطن هذه المدَّة. قاله الكرمانيُّ، فسبحان الرَّزَّاق القادر على كلِّ شيء! وأعظم من هذا ما روي أنَّ هرم بن حيَّان أقام في البطن أربع سنين، وكذلك الضَّحَّاك بن مزاحم. قال مالك: محمَّد بن عجلان جارنا رجل صدوق، وامرأته كذلك، ولدت له ثلاث بطون في اثنتي عشرة(10) سنة، كلُّ ولد لبث في البطن أربع سنين.
          روي أنَّ مالكاً لمَّا صنَّف الموطَّأ ظهر أمره إلى أن أُلِّف في تلك السَّنة عشرون كتاباً، [سمِّي] كلُّها موطَّأ، فأتاه بعض تلامذته، فقال: يا إمام دار الهجرة، قد سمِّي باسم كتابك كتب كثيرة. فرفع رأسه، ثمَّ نكس، وقال: يا بنيَّ، ما كان لله فهو يبقى. قال: فوالله ما مضى عشرون سنة وبقي من تلك الكتب كتاب.
          وهو أحد الأبدال الأربعين، كان قائم اللَّيل، صائم النَّهار، وشيخه الأوزاعيُّ الذي همَّ الحَجَّاج (بقتله)، وكان بمكَّة _شرَّفها الله تعالى_ بين الرُّكن والمقام مستلقياً، فجاءه الرَّسول، وأخبره بكيد الحجَّاج، [وكان الحجَّاج] بين النَّخيل خارج مكَّة، فوثب قاعداً، وأشار إلى الكعبة، وقال: وربِّ هذا البيت، لا دخلها. فثارت حفرة من الأرض، فنفر منها فرس الحجَّاج، فرمت به الأرض، فقال: أرجعوني، فإنَّ الأوزاعيَّ قد كلَّم ربَّه فيَّ. ولم يزل الحجَّاج يشكو ألم الوقعة إلى أن مات.
          وكان مالك يقول: إنَّ هذا العلم دين، فانظروا ممَّن تأخذون دينكم، ولقد أدركت سبعين ممَّن يقول: قال رسول الله صلعم عند هذه الأسطوانة. يعني من العلماء، لا من الصَّحابة، فإنَّه ما أدرك أحداً من الصَّحابة، أراد أسطوانة مسجد رسول الله صلعم، قال: فما أخذت منهم شيئاً، وإنَّ أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أميناً؛ إلَّا أنَّهم لم يكونوا من أهل هذا الشَّأن. وسمع منه الرَّشيد والمأمون كتابه الموطَّأ، وشخص إليه محمَّد بن الحسن الشَّيبانيُّ صاحب أبي حنيفة، وسمع منه الموطَّأ، وكتب بخطِّه، وأقام عنده ستَّة أشهر، وهو أستاذ الشَّافعيِّ، وبه عرف، ومنه أخذ، ولمَّا ورد عليه الشَّافعيُّ أكرمه، وقال: يا ابن إدريس، اتَّق الله في أمورك كلِّها، فإنِّي أرى لقلبك نوراً، فلا تطفئه. ولمَّا رجع الشَّافعيُّ من رحلته شاطره على ماله من الخيل والبغال والعين، ولم يزل ☺ عوناً للشَّافعيِّ بالحجاز.
          قال البَجَليُّ: سئل أبو حنيفة حين رجع / من الحجِّ، كيف رأيت(11) المدينة؟ قال: رأيت بها علماً مبثوثاً، فإن يكن أحد يجمعه فالفتى الأبيض. يعني مالكاً، وقال محمَّد بن رمح: رأيت النَّبيَّ صلعم في المنام، فقلت: يا رسول الله، إنَّ مالكاً واللَّيث بن سعد اختلفا، فبأيِّهما آخذ؟ قال: مالك، مالك.
          وقال مصعب بن عبد الله عن أبيه: كنت عند مالك في مسجد النَّبيِّ صلعم إذ أتى رجل، فقال: أيُّكم مالك؟ فقالوا(12) : هذا. فسلَّم عليه، واعتنقه، وضمَّه إلى صدره، وقال: والله، لقد رأيت رسول الله صلعم البارحة جالساً في هذا الموضع، فقال: ائتوني بمالك. فأتي به ترعد فرائصه، فقال له: ليس بك بأس يا أبا عبد الله. فكنَّاك(13) ، وقال: اجلس. فجلست، وقال: افتح حجرك. ففتحت، فملأه مسكاً منثوراً، وقال: ضمَّه إليك، وبثَّه في أمَّتي. فبكى مالك، وقال: الرُّؤيا تسرُّ ولا تغرُّ(14) ، فإن صدقت رؤياك فهو العلم الذي أودعني الله تعالى.
          وروي أنَّه سعي به إلى جعفر بن سليمان، والي المدينة، وقال: إنَّما(15) لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء. فغضب جعفر من ذلك، ودعا به، وجرَّده من ثيابه، ومدَّ يده حتَّى خلع كتفه، وضربه بالسِّياط، فكأنَّما كانت تلك السِّياط حليَّا حلِّي بها، ولم يزل في علوٍّ ورفعة بعد ذلك، وكان قبله يأتي المسجد، ويشهد الجمعة والجماعات، ويجلس في المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ويعود المرضى، فلمَّا ضرب، ترك الكلَّ، فاحتمل النَّاس إليه، وصاروا أرغب ممَّا كانوا.
          وروي أنَّ الرَّشيد كتب إليه يسأله حضوره ليعامل النَّاس بمشورته، فأجابه مالك في ظهر الكتاب الذي بعث: يا هارون، كأنِّي بك وقد أخذت يوم القيامة بضيق الخناق، وترى حسناتك في ميزان غيرك، وسيِّئات غيرك في ميزانك، بلاء على بلاء، وظلمة على ظلمة، يا هارون! استعن بالله على ما ولَّاك، ولا تحكم إلَّا بالحقِّ، ولا تقبل (إلَّا) بالِّصدق، فكأنَّك بالأمر وقد كان، والسَّلام.
          وروي أنَّ رجلاً أتى مالكاً، فقال: يا أبا عبد الله، إنِّي انصرفت من المسجد صلاة العشاء، فنظرت إلى رجل يتقافز إلى القمر، كأنَّه يريد أن يناله، وكان سكران، فقلت: امرأته طالق إن كان يدخل جوف المرء شرٌّ من الخمر. فما ترى في الطَّلاق؟ قال: عد إليَّ غداً. فعدت إليه ثلاثة أيَّام، في كلِّ يوم يقول: عد إليَّ غداً. فلمَّا عدت إليه اليوم الرَّابع، قال لي: يا رجل، قد عرضت كتاب الله حرفاً حرفاً، فما رأيت شيئاً يدخل جوف ابن آدم شرًّا من الرِّبا؛ لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } [البقرة:278-279] وقد طلَّقت(16) زوجتك.
          وكان مالك يطالع يوماً كتاباً، فمرَّ به شخص، فسلَّم عليه، فلم يشعر به مالك حتَّى جاوزه، فلمَّا رفع رأسه من المطالعة، قيل له: إنَّ فلاناً اجتاز بك وأنت غافل، فسلَّم عليك. فقام من ساعته، فقال: قد لزمني فرض من فروض الله تعالى. وجعل / يسأل عن ذلك الرَّجل، فلم يدلُّه عليه أحد حتَّى كان وقت المساء، فقيل له: ارجع إلى بيتك، فلعلَّنا نجده، فنرسله إليك، وتقضي ما وجب. فقال: لا والله، لا أبيت ولله عليَّ فرض من فروض الله تعالى. فلم يستقرَّ تلك اللَّيلة حتَّى ظفر بالرَّجل، فردَّ السَّلام عليه، وجعل يعتذر إليه عذراً شافياً.
          وكان إذا سئل عن المسألة فأجاب، لم يجترئ(17) أحد أن يقول [له] : من أين لك؟
          وكان نقش خاتمه: حسبنا الله ونعم الوكيل. فقيل له: لم نقشت هذا على خاتمك؟ فقال: لقوله تعالى: { حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } الآية [آل عمران:173-174]
          قيل: إنَّه انتصب لتدريس(18) [العلم] ، وهو ابن سبع عشرة [سنة] ، واحتاج أشياخه إليه، وعاش نحو تسعين سنة، ومكث يفتي النَّاس نحو سبعين سنة، وشهد له التَّابعون بالفقه والحديث.
          قال أبو مصعب: كان النَّاس يزدحمون على باب مالك؛ حتَّى كادوا يقتتلون عليه لطلب العلم. قال يحيى: دخلت المدينة سنة أربع وأربعين ومئة، ومالك أسود الرَّأس واللِّحية، والنَّاس حوله سكوت، لا يتكلَّم أحد منهم هيبة له، ولا يفتي أحد في مسجد رسول الله صلعم غيره، فجلست بين يديه، فسألته فحدَّثني، فاستزدته فزادني، ثمَّ غمزني أصحابه فسكتُّ.
          قال مالك: ما جلست للفتيا والحديث حتَّى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم مرضاة لذلك. قال حمَّاد بن زيد لرجل جاءه في مسألة اختلف النَّاس فيها: يا أخي، إن أردت السلَّامة لدينك، فسل عالم المدينة، وأصغ إلى قوله، فإنَّه حجَّة، ومالك إمام النَّاس.
          قال حمَّاد بن سلمة: لو قيل لي: اختر لأمَّة محمَّد إماماً يأخذون عنه العلم والدِّين لرأيت مالكاً لذلك موضعاً وأهلاً، ورأيت ذلك صلاحاً للأمَّة.
          قال اللَّيث بن سعد: علم مالك علم نقيٌّ، [مالك] أمان (لمن) أخذ به بعده.
          وقال عبد الرَّحمن بن القاسم: إنَّما أهتدي في ديني [برجلين،] بمالك بن أنس في علمه، وسليمان بن القاسم في ورعه.
          قال محمَّد بن رمح: حججت مع أبي وأنا صبيٌّ لم أبلغ الحلم، فنمت في مسجد رسول الله صلعم في الرَّوضة بين القبر والمنبر، فرأيت النَّبيَّ(19) صلعم قد خرج من القبر، وهو متَّكئ على أبي بكر وعمر، فقمت وسلَّمت عليه، فردَّ عليَّ السَّلام، فقلت: يا رسول الله، أين تذهب؟ قال: أقيم لمالك الصِّراط المستقيم. فانتبهت، وأتيت أنا وأبي مالكاً، فوجدت النَّاس مجتمعين عليه، وقد أخرج الموطَّأ، وكان أوَّل خروجه.
          وحدَّث محمَّد بن أبي الحكم قال: سمعت محمَّد بن السِّرِّيِّ العسقلانيَّ يقول: رأيت رسول الله صلعم في النَّوم، فقلت: يا رسول الله، حدِّثني بعلم أحدِّث به النَّاس عنك. فقال صلعم: يا أبا السِّرِّيِّ(20) ، إنِّي قد أوصيت إلى مالك بكنز يفرِّقه عليكم، ألا وهو الموطَّأ، ألا وليس بعد كتاب الله ولا سنَّتي حديث أصحُّ من الموطَّأ، فاسمعه تنتفع به.
          قال عتيق بن يعقوب: قدم هارون الرَّشيد المدينة، وكان قد بلغه أنَّ مالك بن أنس عنده الموطَّأ يقرأه على النَّاس، فوجَّه إليه البرمكيَّ، فقال: أقرئه السَّلام، وقل له: إنَّ العلم يزار ولا يزور. فأتاه البرمكيُّ، وبلَّغه ما قال، وكان عنده القاضي أبو يوسف، فقال: يا أمير المؤمنين، (إن) يبلغ(21) أهل العراق / أنَّك وجَّهت إلى مالك بن أنس في أمر فخالفك، واعزم عليه. فبينما هو كذلك؛ إذ دخل مالك، فسلَّم عليه وجلس، فقال هارون: يا ابن أبي عامر، أبعث إليك فتخالفني؟! فقال مالك: يا أمير المؤمنين، أخبرني الزُّهريُّ، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال: كنت أكتب الوحي بين يدي رسول الله صلعم، فكتبت: { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء:95] وكان ابن أمِّ مكتوم حاضراً(22) عنده، فقال: يا رسول الله، إنِّي رجل ضرير، وقد أنزل الله تعالى في فضل الجهاد ما قد علمت، فهل عليَّ إثم إذا تركت؟ فقال صلعم: «لا أدري». وقلمي رطب، فثقل فخذُ النَّبيِّ صلعم عليَّ، وكان فخذه على فخذي، ثمَّ أخذه الرُّحَضَاءُ(23) ، فجلس، فقال: «يا زيد، اكتب: { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ }». يا أمير المؤمنين، كلمة تعب فيها جبريل والملائكة مسيرة خمسة آلاف عام، ألا ينبغي أن أعزَّه وأجلَّه؟ وإنَّ الله تعالى قد رفعك في هذا الموضع، فلا تكن أوَّل من يضيِّع عزَّ العلم، فيضيِّع الله عزَّك. فقام الرَّشيد، ومشى مع مالك إلى منزله يسمع الموطَّأ، وأجلسه معه على المنصَّة، والمنصَّة: [هي] شيء مرتفع كالكرسيِّ، يجلس عليه القارئ والمتحدِّث(24) ، فلمَّا أراد أن يقرأ(25) على مالك، قال له مالك: ليقرأ عليَّ أميرُ المؤمنين. قال: ما قرأته على أحد منذ زمان. قال الرَّشيد: فليخرج النَّاس حتَّى أقرأه عليك. قال: يا أمير المؤمنين، إنَّ العلم إذا منع من العامَّة لأجل الخاصَّة لم ينفع الله به الخاصَّة(26) . فأمر أن يقرأ معن بن عيسى عليه، فلمَّا بدأ بالقراءة قال مالك للرِّشيد: يا أمير المؤمنين، أدركت أهل العلم ببلدنا، وإنِّهم يحبُّون التَّواضع للعلم. فنزل هارون عن المنصَّة، وجلس ين يديه.
          وسئل مالك عن طلب العلم، فقال: حسن جميل، ولكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه.
          وكان ☺ في تعظيم العلم مبالغاً؛ حتَّى إذا أراد أن يحدِّث توضَّأ وصلَّى ركعتين، وجلس على صدر فراشه، وسرَّح لحيته، واستعمل الطِّيب، وتمكَّن بهيبة ووقار، فقيل له في ذلك، فقال: أحبُّ أن أعظِّم حديث رسول الله صلعم. وما حدَّث قطُّ قائماً، أو ذاهباً في طريق، وما ركب بالمدينة مع أنَّه كان عنده الخيل والبغال، وقال: ما ينبغي لابن أبي عامر أن يركب في موضع كان يطؤه صلعم بنعليه. ولمَّا اشتهر بالعلم، وانتشر صيته حمل إليه الأموال، فكان يفرِّقها على أصحابه، وأصحابه يفرِّقونها على أهل الخير اتِّباعاً له، وما كان يدَّخرها، وكان يقول: ليس الزُّهد فقد المال، وإنَّما الزُّهد فراغ القلب منه. وقال: لا يكون أحد صادقاً في حديثه إلَّا متَّعه الله بعقله، ولم يصبه عند الهرم آفة، ولا حزن(27) .
          قال عمر بن أبي سلمة: ما قرأت كتاب الجامع من موطَّأ مالك إلَّا أتاني آت في المنام، فقال لي: هذا كلام رسول الله صلعم حقًّا.
          وروي أنَّ مالكاً لمَّا أراد أن يؤلف كتاباً بقي متفكِّراً في أيِّ شيء يسمِّي كتابه بعد تأليفه(28) ، قال: فنمت، فرأيت النَّبيَّ صلعم، فقال لي: وطِّئ للنَّاس هذا العلم. فسمَّى كتابه بالموطَّأ.
          قال عبد الله بن المبارك: كنت عند مالك، / وهو يحدِّثنا حديث رسول الله صلعم، فلدغته عقرب ستَّ عشرة مرَّة، وهو يتغيَّر لونه ويصفَّرُّ، ولا يقطع حديث رسول الله صلعم، فلمَّا تفرَّق النَّاس عنه، قلت: يا أبا عبد الله، لقد رأيت اليوم منك عجباً. قال: نعم، صبرت إجلالاً لحديث رسول الله صلعم.
          قال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النَّبيَّ صلعم تغيَّر لونه، وينحني حتَّى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم ما ترون.
          قال الدَّراورديُّ: رأيت في المنام أنِّي دخلت مسجد رسول الله صلعم فرأيت النَّبيَّ صلعم يعظ النَّاس؛ إذ دخل مالك، فلمَّا رآه صلعم قال: «إليَّ إليَّ». فأقبل نحوه حتَّى دنا منه، فنزع صلعم خاتمه، ووضعه في أصبعه، قال: فأوَّلته العلم المفوَّض إليه.
          قال الشَّافعيُّ: رأيت على باب مالك كُراعاً من خيل خراسان جاءته هديَّة، وبغال من مصر، ما رأيت أحسن منها، فقلت: ما أحسن هذه! فقال: هي هديَّة منِّي إليك. فقلت: دع لنفسك منها دابَّة تركبها. فقال: إنِّي لأستحيي من الله أن أطأ تربة فيها نبيُّ الله صلعم بحافر دابَّة.
          قال يحيى بن سعيد: مالك رحمة لهذه الأمَّة. وقال أبو قدامة: مالك أحفظ أهل زمانه.
          قال اللَّيث بن سعد: والله ما على وجه الأرض أحبُّ إليَّ من مالك، اللهم زد من عمري في عمر مالك. وكان الأوزاعيُّ معظِّماً لمالك، وإذا ذكره يقول: عالم العلماء، أو عالم المدينة، أو مفتي الحرمين.
          قال المثنَّى بن سعيد: قال مالك: ما بتُّ ليلة إلَّا ورأيت النَّبيَّ صلعم فيها في المنام. قال أبو القاسم: كنَّا عنده في مرضه الذي مات فيه، فدخل ابن الدَّراورديُّ، فقال: يا أبا عبد الله، رأيت البارحة رؤيا تسمعها منِّي؟ قال: قل. قال: رأيت رجلاً نزل من السَّماء، عليه ثياب خضر، وبيده سجلٌّ ينشره(29) ما بين السَّماء [إلى] الأرض ثلاث مرَّات: هذه براءة لمالك من النَّار. فبينما أنا أحدِّثه؛ إذ دخل عليه رسول الأمير، فقال: يا أبا عبد الله، إنَّ مؤذِّن مسجد المدينة رأى البارحة رؤيا، فسمعتها منه. فقصَّ عليه مثل ذلك، فقال مالك: الله المستعان، ما شاء الله.
          قال الشَّافعيُّ: قالت لي عمَّتي _ونحن بمكَّة_: رأيت هذه اللَّيلة عجباً، رأيت كأنَّ قائلاً يقول: مات اللَّيلة (أعلم) أهل الأرض. فحسبنا ذلك اليوم، فكان اليوم الذي مات فيه مالك.
          قال بشر بن بكر: رأيت الأوزاعيَّ في المنام مع جماعة في الجنَّة، فقلت: أين مالك؟ قال: رفع. قلت: بماذا؟ قال: بصدقه.
          ورأى بعض الصَّالحين مالكاً بعد موته في المنام، فقال: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قلت: بماذا؟ قال: بكلمة، بلغني عن عثمان أنَّه كان إذا رأى ميِّتاً قال: الله لا إله إلا هو الحيُّ القيُّوم، الذي لا يموت. فأدمنت أقولها، فأدخلني الله بها(30) الجنَّة.
          وقال رجل لسفيان بن عيينة _وأراد أن يسأل مسألة عن رجل من أهل العلم يكون له حجَّة بينه وبين الله تعالى_: / فقال: مالك ممَّن يجعله الرَّجل حجَّة بينه وبين الله تعالى. فقيل له: قد مضى مالك. فقال: هيهات! ذهب النَّاس.
          وسأله المهديُّ، فقال: هل لك دار؟ فقال: لا، ولكن أحدِّثك، سمعت ربيعة بن عبد الرَّحمن _وهو ربيعة الرَّأي_ يقول: نسبُ الرَّجلِ دارهُ.
          وسأله الرَّشيد: هل لك دار؟ فقال: لا. فأعطاه ثلاثة آلاف دينار، وقال له: اشتر بها داراً. فأخذها ولم ينفقها، فلمَّا أراد الرَّشيد التَّوجُّه إلى بغداد، قال لمالك: ينبغي لك أن تخرج معي، فإنِّي عزمت أن أحمل النَّاس على الموطَّأ، كما حمل عثمان النَّاس على القرآن. قال: حملُ النَّاس على الموطَّأ ليس إلى ذلك سبيل؛ لأنَّ أصحاب النَّبيِّ صلعم قد افترقوا في الأمصار بعده، وحدَّثوا فيها، فعند أهل كلِّ مصر علم، وقد قال صلعم: «اختلاف أمَّتي رحمة». وأمَّا الخروج معك فلا سبيل (إليه)، قال صلعم: «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون». وقال: «المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد، وتنصع طِيبَها».(31) وهذه دنانيركم كما هي، إن شئتم فخذوها، وإن شئتم فدعوها. يعني إنَّما كلَّفتني مفارقة المدينة بما اصطنعت إليَّ بإعطاء الدَّنانير، فالآن خذها(32) ، فإنِّي لا أوثر على مدينة رسول الله صلعم الدُّنيا وما فيها.
          قال بعض الصَّالحين: رأيت في المنام كأنِّي دخلت الجنَّة، فرأيت وسطها عموداً من نور، ورأيت أربعة يجرُّونه بأربعة سلاسل من جهاته الأربع، وهو ثابت لا يتغيَّر من مكانه، فقلت: (يا) لله العجب! لو جرُّوه هؤلاء من جهة واحدة لكان أسهل عليهم. فسألت بعض الملائكة عن ذلك، فقال: هذا العمود هو دين الإسلام، وهؤلاء الأربعة هم أئمَّة الإسلام: الشَّافعيُّ ومالك وأبو حنيفة والإمام أحمد، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
          قال كمال الدِّين الدَّميريُّ _في شرح المنهاج(33) ، في المسائل المنثورة من أواخر الجنائز_: إنَّ امرأة غسَّلت بالمدينة _في زمن مالك_ امرأة، فالتصقت يدها على فرجها، فتحيَّر النَّاس في أمرها، هل تقطع يد الغاسلة أو فرج المغسولة الميِّتة؟ فاستُفتي مالك؟ فقال: سلوها ما قالت لمَّا وضعت يدها عليه؟ فسألوها، فقالت: قلت: طالما عصا هذا الفرج ربَّه. فقال مالك: هذا قذف، اجلدوها ثمانين جلدة تتخلَّص يدها. فجلدوها ثمانين، فتخلَّصت يدها، (فمن) ثمَّ قيل: لا يُفتى ومالك بالمدينة. قلت: هذه مواهب رحمانيَّة، وإلهامات ربانيَّة، ليس لها دخل في العلم الصِّرف، ولكن في العمل بالعلم، فتتنوَّر البصيرة، فيرى بنور الله تعالى الغائبات، كما يرى أحدنا الشاهدات(34) ، فسبحانه يمنُّ بفضله على من يشاء، اللهم نوِّر بصيرتنا، ووفِّقنا يا موفِّق لما تحبُّ وترضى، فالكلُّ بيدك، والجميع إليك، أنت المعطي، لا مانع لما أعطيت، فلك الحمد حتَّى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت.
          قال حجَّة الإسلام الغزاليُّ في إحيائه(35) : قال مالك: دخلت على هارون الرَّشيد، فقال لي: ينبغي _يا أبا عبد الله_ أن تختلف إلينا حتَّى تسمع صبياننا منك الموطَّأ. فقلت: أعزَّ الله أمير المؤمنين(36) ،إن / هذا العلم منكم خرج، فإن أنتم أعززتموه عزَّ، وإن (أنتم) أذللتموه(37) ذلَّ، والعلم يؤتى ولا يأتي. فقال: صدقت، اخرجوا إلى المسجد حتَّى تسمعوا مع النَّاس. قال مالك: العلم نور يجعله(38) الله حيث شاء، وليس بكثرة الرِّواية.
          قال الغزاليُّ: كان مالك مريداً بعلمه وجه الله تعالى، ويدلُّ له قوله: الجدال في الدِّين ليس بشيء. ويدلُّ عليه قول الشَّافعيِّ: إنِّي شهدت مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين(39) وثلاثين منها: لا أدري. قال: ومن يريد بعلمه غير وجه الله لا تسمح نفسه بأن يقرَّ على نفسه بأنَّه لا يدري. هذا كلام الإحياء(40) ، والمذكور في أوَّل الأسنويِّ شرح منهاج البيضاويِّ وغيره أنَّ مالكاً سئل عن أربعين مسألة، فأجاب أربعة، وقال في ستٍّ وثلاثين: لا أدري.
          قال الشَّافعيُّ: إذا ذكر العلماء، فمالك النَّجم، وما أحد أَمَنّ عليَّ من مالك.
          روي أنَّ أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره، ثمَّ دسَّ عليه من يسأله، فروى على ملأ من النَّاس، وقال: قال رسول الله صلعم: «ليس على مستكره طلاق». فضربه بالسِّياط، ولم يترك رواية الحديث، واجتمع مالك وشيخه ربيعة عند الخليفة، فسأل(41) ربيعة عن مسألة، فما أجاب، وسأل مالكاً فأجاب، فصعب على ربيعة، فقال مالك: لا يصعب عليك، قلَّ رجل كتبت العلم منه ومات حتَّى يجيئني ويستفتيني.
          قال عبد الله بن وهب: سمعت منادياً ينادي بالمدينة: ألا لا يفتي النَّاس إلَّا مالك وابن أبي ذئب.
          قال الشَّافعيُّ: قال (لي) محمَّد بن الحسن: أيُّنا أعلم، صاحبنا أم صاحبكم؟ يعني أبا حنيفة ومالكاً، [قال:] قلت: على الإنصاف؟ قال: نعم. قلت(42) : فأنشدك الله، من أعلم (بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. قال: أنشدك الله، من أعلم) بالسُّنَّة صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. قال: [فأنشدك الله، من أعلم بأقاويل الصَّحابة، صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. قال:] الشَّافعيُّ: فلم يبق إلَّا القياس، والقياس لا يكون إلَّا هذه الأشياء، فعلى أيِّ شيء تقيس؟
          قال الواقديُّ: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصَّلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجتمع النَّاس عليه في المسجد، ثمَّ يترك الجلوس في المسجد، وكان يصلِّي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز، فكان يأتي أصحابها يعزِّيهم، ثمَّ ترك ذلك كلَّه، فلم يكن يشهد الصَّلوات في المسجد، ولا الجمعة، ولا يأتي أحداً يعزِّيه، ولا يقضي حقًّا، واحتمل النَّاس له ذلك كلَّه؛ حتَّى مات عليه، وربَّما قيل له في ذلك، فيقول: ليس كلُّ النَّاس يقدر أن يتكلَّم بعذره. وسعي به إلى جعفر بن سليمان بن عليٍّ ابن عمِّ أبي جعفر المنصور، فضربه، وقد مضى، لكن ذكر ابن الجوزيِّ أنَّه ضرب لأجل فتيا لا توافق غرض السُّلطان.
          قال القعنبيُّ: دخلت على مالك في مرضه الذي مات فيه، فسلَّمت ثمَّ جلست إليه، فرأيته يبكي، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك؟ / قال: يا ابن قعنب، وما لي لا أبكي، ومن أحقُّ بالبكاء منِّي؟ والله لوددت أنِّي ضربت لكلِّ مسألة أفتيت فيها برأي مئة سوط، وقد كانت لي السَّعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرَّأي.
          وكان شديد البياض إلى الشُّقرة، طويلاً، عظيم الهامة، أصلع، يلبس الثِّياب الجياد، ويكره حلق الشَّارب ويعيبه، ويراه من المثلة، ولا يغيِّر شيبه، ورثاه أبو محمَّد جعفر بن أحمد بن السِّراج، ذكرها ابن خلِّكان(43) في وفياته. قال أبو نعيم الأصفهانيُّ في الحلية(44) : ضرب جعفر بن سليمان في طلاق المكره مالكاً، وحمل على بعير، فقيل له: ناد على نفسك. فقال: ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس، وأنا أقول: طلاق المكره ليس بشيء. فبلغ جعفر أنَّه ينادي على نفسه بذلك، فقال: أدركوه أنزلوه. قال: ما أجبت في الفتيا حتَّى سألت من هو أعلم منِّي، هل رآني(45) موضعاً لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك، فقال(46) خَلَف بن عَمرو: يا أبا عبد الله، فلو نهياك؟ قال: كنت أنتهي، لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلاً لشيء حتَّى يسأل من هو أعلم منه.
          وقال خلف: دخلت على مالك، فقال لي: انظر، ما ترى تحت مصلَّاي؟ فنظرت، فإذا أنا بكتاب، قال: اقرأ. فإذا فيه رؤيا رآها بعض إخوانه، فقال: رأيت النَّبيَّ صلعم في مسجده قد اجتمع النَّاس، فقال: إنِّي قد خبَّأت لكم تحت منبري طيباً أو علماً، وأمرت مالكاً أن يفرِّقه عليكم. فانصرف النَّاس، وهم يقولون: إذاً ينفِّذ مالكٌ ما أمر به رسول الله صلعم. ثمَّ بكى مالك.
          قال سهل بن مزاحم المروزيُّ _وكان من أصحاب عبد الله بن المبارك_: رأيت النَّبيَّ صلعم في النوم، فقلت: يا رسول الله، من نسأل بعدك؟ قال: مالك بن أنس.
          قال إبراهيم بن عبد الله الأنصاريُّ _قاضي المدينة_: مرَّ مالك على أبي حازم وهو يحدِّث، فجازه، فقيل له، فقال: إنِّي لم أجد موضعاً فيه، فكرهت أن آخذ حديث رسول الله صلعم وأنا قائم، وأحبُّ أن أتفهَّم(47) ما أحدِّث به عنه، الياء والتَّاء ونحوهما.
          قال عبد الرَّحمن بن مهديٍّ: ما لُقي أحد على وجه الأرض آمن على حديث رسول الله صلعم من مالك، وكان وقوراً مهيباً.
          قال أبو يونس المدينيُّ: أنشدني بعض أصحابنا من المدنيين في مالك(48) بن أنس _من البحر الكامل_:
يدع الجوابَ فلا يراجَع هيبةً                     والسَّائلون نواكسُ الأذقان
أدب الوقارِ وعزُّ سلطان التُّقى                     فهو المطاع وليس ذا سلطان
          قال خالد بن خداش: ودَّعت مالكاً، فقلت: أوصني. قال: يا أبا عبد الله، تقوى الله، وطلب الحديث. وسئل مالك عن الدَّاء العضال، فقال: الخبث في الدِّين، وبلغني أنَّ العلماء يسألون يوم القيامة عمَّا يسأل عنه الأنبياء.
          وسئل مالك عن الرَّجل يدعو، يقول: يا سيِّدي. قال: يعجبني أن يدعو بدعاء الأنبياء: ربَّنا، ربَّنا.
          وقال مالك: قال عيسى بن مريم: تأتي أمَّة محمَّد علماء حكماء، كأنَّهم من الفقه أنبياء. قال: أراهم(49) صدر هذه الأمَّة. قال: وحقٌّ على طالب العلم أن يكون له وقار وسكينه وخشية، والعلم حسن لمن رزق خيره، وهو قَسْم من الله، فلا تمكِّن النَّاس من نفسك، فإنَّ من سعادة المرء / أن يوفَّق للخير، ومن شقاوة المرء أن (لا) يزال يخطئ، وإهانة العلم أن يتكلَّم الرجل بالعلم عند من لا يطيعه.
          قال: وقال لقمان لابنه: إنَّ النَّاس قد تطاول عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرة سراع يذهبون، وإنَّك قد استدبرت الدُّنيا منذ كنت، واستقبلت الآخرة، وإنَّ داراً تسير إليها أقرب [إليك] من دار تخرج منها.
          قال: وكان الرَّجل يختلف إلى الرَّجل ثلاثين سنة يتعلَّم منه. قال معن بن عيسى: ما من حديث أحدِّث به عن مالك إلَّا وقد سمعته منه أكثر من ثلاثين مرَّة، وإذا لم يكن للإنسان في نفسه خير لم يكن للنَّاس فيه خير(50) .
          قال مطرِّف: قال لي: ما تقول النَّاس فيَّ؟ قلت: أمَّا الصَّديق فيثني، وأمَّا العدوُّ فيقع. قال: ما زال النَّاس كذا، لهم صديق وعدوٌّ، ولكن نعوذ بالله من تتابع الألسنة كلِّها.
          ولمَّا جاء حمادَ بنَ زيد نَعْيُ مالك، قال: رحم الله أبا عبد الله، كان من الدِّين بمكان. ولمَّا بلغ ابنَ عيينة نعيه حزن لذلك كثيراً، وقال: ما ترك على الأرض مثله.
          قال مالك: إنَّ عندي لأحاديث ما حدَّثت بها قطُّ، ولا أحدِّث بها حتَّى أموت.
          وقال مالك: لو كان لي سلطان على من(51) يغسِّر القرآن لضربت رأسه.
          وسئل الإمام أحمد عن كتاب مالك، فقال: ما أحسنه لمن تديَّن به. قال الشافعي: إذا جاء الحديث من مالك فاشدد يديك به، فإنَّ مالكاً إذا شكَّ في الحديث طرحه كلَّه.
          قال سفيان: كان مالك [ينتقي الرِّجال، ولا يحدِّث عن كلِّ أحد. قال عليٌّ: ومالك أمان فيمن حدَّث عنه من الرِّجال، كان مالك] يقول: لا آخذ العلم إلَّا عمَّن يعرف ما يقول.
          قال إسحاق: سمعت مالكاً يقول: سمعت من ابن شهاب(52) الزُّهريَّ أحاديث لم أحدِّث بها إلى اليوم. قلت: لمَ يا أبا عبد الله؟ قال: لم يكن العمل عليها، فتركتها.
          وقيل لمالك: لم لا تكتب عن صالح مولى التَّوأمة، وحزام بن عثمان، وعمر مولى غُفْرة؟ قال: أدركت تسعين(53) تابعيًّا في هذا المسجد، فما أخذت(54) العلم إلَّا عن الثِّقات المأمونين.
          قال عبد الرَّحمن بن مهديٍّ: رأيت رجلاً يأتي مالكاً يسأله عن شيء أيَّاماً، لا يجيبه، فقال: يا أبا عبد الله، إنِّي أريد الخروج. قال: فأطرق طويلاً، ثمَّ رفع رأسه، وقال: ما شاء الله، يا هذا إنَّما أتكلَّم فيما أحتسب فيه الخير، وليس مسألتك هذه أُحسنها. فقال الرَّجل: إني صرت إليك من كذا وكذا لأسألك عنها. فقال [له] : إذا رجعت إلى مكانك، فأخبرهم أنِّي قلت لك: (إنِّي) لا أحسنها(55) .
          قال سعيد بن سليمان: قلَّما(56) سمعت مالكاً يفتي بشيء إلَّا تلا هذه الآية { إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [الجاثية:32]
          قال عمرو بن يزيد _وهو شيخ مصريٌّ صديق لمالك_: يا أبا عبد الله، تأتيك ناس من بلدان شتَّى، قد أنضوا مطاياهم، وأنفقوا نفقاتهم، يسألونك عما جعل الله عندك من العلم، تقول: لا أدري! فقال: يا أبا عبد الله، يأتيني الشَّاميُّ من شامه، والعراقيُّ من عراقه، والمصريُّ من مصره، ويسألوني عن الشَّيء لعلِّي أن يبدو لي فيه غير ما أجيب فيه. قال عمرو: فأخبرت اللَّيث بن سعد بقول مالك هذا، فبكى، ثمَّ قال: مالك والله أقوى عليه من اللَّيث، واللَّيث والله أضعف عنه من مالك.
          وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: سنَّ رسول الله صلعم وولاة الأمور بعده سنناً، الأخذ بها اتِّباع لكتاب الله، واستكمال / لطاعة الله، وقوَّة على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها، فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتَّبع غير سبيل المؤمنين، وولَّاه الله تعالى [ما تولَّى،] وأصلاه جهنَّم وساءت مصيراً.
          وقال مالك: حقٌّ على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متَّبعاً لأثر من مضى.
          قال الشَّافعيُّ: كان مالك إذا أتاه بعض أهل الأهواء قال: أما إنِّي على بيِّنة من ديني، وأمَّا أنت فشاكٌّ، اذهب إلى شاكٍّ مثلك، فخاصمه.
          وكان يقول: لست أرى لأحد يسبُّ أصحاب النَّبيِّ صلعم في الفيء سهماً.
          قال يحيى بن خلف الطَّرَسُوسيُّ _وكان من ثقات المسلمين_ قال: كنت عند مالك، فدخل عليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: زنديق، [اقتلوه] . فقال: يا أبا عبد الله، إنَّما أحكي كلاماً سمعته. فقال: لم أسمعه من أحد، إنَّما سمعته منك. وعظَّم هذا [القول] . قال أبو مصعب(57) : سمعت مالكاً(58) يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. وقال ابن أبي أويس: قال مالك: القرآن كلام الله، وكلام الله من الله، وليس من الله شيء مخلوق. وقال: لو أنَّ رجلاً ركب الكبائر كلَّها بعد أن لا يشرك بالله شيئاً، ثمَّ تخلَّى من هذه الأهواء والبدع(59) دخل الجنَّة. وقال: النَّاس ينظرون إلى الله تعالى يوم القيامة بأعينهم.
          وقال: قال رسول الله صلعم: «إذا سلم رمضان سلمت السَّنة، وإذا سلمت الجمعة سلمت الأيَّام».
          وقال: قال أبو هريرة _ما أعلم إلَّا رفعه_ قال: «لا تقوم السَّاعة حتَّى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً».
          وقال: قال صلعم: «إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً قال لجبريل: ناد في السَّماء إنَّ الله يحبُّ فلاناً فأحبُّوه. وإذا أبغض عبداً نادى في السَّماء إنَّ الله يبغض فلاناً فأبغضوه».
          وقال: قال أبو هريرة: لدغت عقرب رجلاً، فلم ينم ليلته، فقال: «أما إنَّه لو قال حين أمسى: أعوذ بكلمات الله التَّامَّات(60) من شرِّ ما خلق. ما ضرَّته لدغة عقرب حتَّى يصبح».
          وقال: قال صلعم: «من بات وفي يده غَمَر فأصابه شيء فلا يلومنَّ إلَّا نفسه».(61) .
          ولد مالك في خلافة سليمان بن عبد الملك، وكانت خلافته النِّصف من جمادى الآخرة، سنة ستٍّ وتسعين، ومات(62) لعشر بقين من صفر، سنة تسع وسبعين ومئة، بالمدينة.


[1] في (ن) تصحيفاً: (عبد الله).
[2] في (ن) تصحيفاً: (وأبا زياد).
[3] برقم (2680).
[4] في غير (ن): (وهب).
[5] شرح البخاري:1/24.
[6] في (ن): (صاحب).
[7] في (ن): (في المذهب).
[8] البيتان في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي:7/177، وقبلهما بيتان آخران جمع فيهما أسماء القراء السبعة.
[9] في (ن): (وأحمد) وبه يكسر الوزن.
[10] في (ن): (اثني عشر).
[11] في غير (ن): (وجدت).
[12] في (ن): (فقال).
[13] في غير (ن): (فكناه).
[14] في (ن): (ولا تضر).
[15] في غير (ن): (إنه).
[16] في (ن): (وقد طلقتك).
[17] في غير (ن): (فلم يجسر).
[18] في غير (ن): (للتدريس).
[19] في غير (ن): (رسول الله).
[20] في (ن): (يا بن السري) ولعل الصواب يابن أبي السري.
[21] في غير (ن): (بلغ).
[22] في (ن): (حاضر).
[23] الرحضاء: العرق.
[24] في غير (ن): (المحدث).
[25] في (ن): (يقرأه).
[26] في غير (ن): (الخاصة به).
[27] في غير (ن): (خوف).
[28] في (ن): (يسمي به كتابه).
[29] في (ن): (ينشر).
[30] في (ن): (به).
[31] رواية البخاري برقم (1883): يَنْصَعُ طيبُها. وأما الرواية المثبتة، بالتاء من تنصع ونصب طيبها، فهي رواية الإمام أحمد والنسائي والترمذي.
[32] في (ن) تصحيفاً: (أخذها).
[33] النجم الوهاج:3/97.
[34] في غير (ن): (المشاهدات).
[35] إحياء علوم الدين:1/56.
[36] في (ن): (الأمير).
[37] في (ن): (ذللتموه).
[38] في (ن): (يجعل).
[39] في (ن): (اثنين).
[40] إحياء علوم الدين:1/55، ومعظم أخباره فيه.
[41] في (ن) تصحيفاً: (قال).
[42] في (ن): (قال).
[43] في ستة أبيات، مطلعها:
~سقى جدثاً ضمَّ البقيع لمالك من المزن مِرْعادُ السَّحائب مبراقُ
وفيات الأعيان:4/138.
[44] 6/316، وترجمته فيه.
[45] في (ن): (هل رأى).
[46] في (ن): (فقلت) وسقط من الأصول (خلف بن عمرو) واستدرك من الحلية، وتصحفت في (ن): (فلو نهياك) إلى (فلو نهيناك).
[47] في غير (ن): (أفهم).
[48] الشعر لمصعب بن عبد الله، وهو في سير أعلام النبلاء للذهبي:8/113، مع اختلاف في الرواية، وروايتنا موافقة لما في الحلية لأبي نعيم:6/319، وأخبار الإمام مالك مع ترجمته فيه.
[49] في (ن): (أرهم).
[50] في (ن): (خيرا) في الموضعين وهو لحن.
[51] في غير (ن): (يغير) وفي الحلية 6/322: يفسر.
[52] في (ن) تصحيفاً: (أبي شهاب).
[53] في غير (ن): (عشرين) وفي الحلية 6/323: سبعين تابعياً.
[54] في (ن): (فما أحدث).
[55] في (ن): (لما أحسنها).
[56] في غير (ن): (ما).
[57] في الأصول كلها: (قال مصعب) والمثبت من الحلية.
[58] في (ن) تصحيفاً: (سمعت كلاماً).
[59] في (ن) هنا زيادة كلمة: (شيئا) ويأباها السياق فحذفتها.
[60] في غير (ن): (التامة).
[61] الحديث في حلية الأولياء:7/144، وهو غريب من حديث الثوري، والغَمَر: زَنَخُ اللحم وزهمته.
[62] في (ن) تصحيفاً: (ومئة).