غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

محمد بن علي بن أبي طالب

          1204 # محمَّد بن عليِّ بن أبي طالب، أبو القاسم، وأبو عبد الله، الهاشميُّ، المدنيُّ، والد أبي هاشم، عبد الله والحسن، المشهور بابن الحنفيَّة، وهي أمُّه، وكانت جارية عليٍّ ☺ من سبي اليمامة، من بني حنيفة، اسمها خولة بنت جعفر بن سلمة، وقيل: بل كانت سنديَّة سوداء، كانت أمة لبني حنيفة، ولم تكن منهم، وإنَّما صالحهم خالد بن الوليد على الرَّقيق، ولم يصالحهم على أنفسهم، وسمَّاه عليٌّ محمَّداً، وكنَّاه أبا القاسم.
          قال ابن خلِّكان(1) : أمَّا كنيته بأبي القاسم، فيقال: إنَّه رخصة من رسول الله صلعم، فإنَّه قال لعليٍّ: «سيولد لك بعدي غلام، وقد نحلته اسمِّي وكنيتي، ولا تَحِلُّ لأحد من أمَّتي بعده». قال: وممَّن سمِّي محمَّداً، وكنِّي أبا القاسم محمَّد بن أبي بكر الصِّدِّيق، ومحمَّد بن طلحة بن عُبيد الله، ومحمَّد بن سعد بن أبي وقَّاص، ومحمَّد بن عبد الرَّحمن [بن عوف] ، ومحمَّد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمَّد بن الأشعث بن قيس الكنديُّ.
          مسألة: صحَّ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «سَمُّوا باسمي، ولا تَكتنوا(2) بكُنيتي» وقال صلعم: «من تسمَّى باسمي، فلا يتكنَّى بكُنيتي، ومن تكنَّى بكُنيتي، فلا يتسمَّى باسمي». رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والتِّرمذيُّ(3) ، من حديث جابر، قال التِّرمذيُّ: حسن غريب. وقال البيهقيُّ في شعب الإيمان(4) : إسناده صحيح. وصحَّحه(5) ابن حبَّان، ثمَّ أخرجه من حديث أبي هريرة أيضاً، واختلف العلماء في حكم ذلك، فمنهم من حمل النَّهي على الكراهة، ومنهم من حمله على التَّحريم، لكن في حياته صلعم، وذلك لأنَّ يهوديًّا نادى يا أبا القاسم. فأجابه صلعم، فقال اليهوديُّ: لم أعنك. فقال صلعم: «سمُّوا باسمي، ولا تكنَّوا بكنيتي». ومنهم من قال: التَّحريم محمول على الجمع بين الاسم والكنية، دون الإفراد. قال الرَّافعيُّ في الشَّرح الكبير: يشبه أن يكون هذا أصحَّ. قال ابن الملقِّن: وليس كما ضعَّفه النَّوويُّ في الرَّوضة، واستدل بحديث جابر المذكور، والمرجَّح عند النَّوويِّ المنع مطلقاً، فتأمَّل.
          ولنرجع إلى المقصود، فاعلم أنَّ محمَّد بن الحنفيَّة ثقة، عالم، تابعيٌّ، كثير العلم والورع، وذكره الشَّيخ أبو إسحاق(6) الشِّيرازيُّ في طبقات الفقهاء، وكان شديد القوَّة، وله في ذلك أخبار عجيبة، منها أنَّ أباه عليًّا استطال درعاً لينقض منها كذا وكذا / حلقة، فقبض محمَّد إحدى يديه على ذيلها والأخرى على فضلها، ثمَّ جذبها فقطع من الموضع الذي حدَّه أبوه، وكان عبد الله بن الزُّبير إذا حُدِّث بهذا الحديث غضب واعتراه رعدة؛ لأنَّه كان يحسده على قوَّته، وكان ابن الزُّبير أيضاً شديد القوَّة، ومن قوَّته ما حكاه المبرِّد(7) أنَّ ملك الرُّوم وجَّه إلى معاوية: إنَّ الملوك قبلك كانت تراسل الملوك منَّا، ويجهد بعضهم أن يغرب على بعض، أفتأذن لي في ذلك؟ فأذن له، فوجَّه إليه رجلين، أحدهما طويل جسيم، والآخر أيد، فقال معاوية لعمرو بن العاص: أمَّا الطَّويل فقد أصبنا كُفْوَه، وهو قيس بن سعد بن عُبادة، وأمَّا الأيد فقد احتجنا إلى رأيك فيه. فقال عمرو: ههنا رجلان كلاهما إليك بغيض: محمَّد بن الحنفيَّة، وعبد الله بن الزُّبير. فقال معاوية: محمَّد أقرب إلينا على كلِّ حال. فلمَّا دخل الرَّجلان وجَّه إلى قيس بن سعد بن عبادة يعلمه، فدخل قيس، فلمَّا مثل بين يدي(8) معاوية نزع سراويله، فرمى بها(9) إلى العِلْج، فلبسها، فبلغت ثندوته(10) ، فأطرق مغلوباً، فقيل: إنَّ قيساً(11) لاموه في ذلك، وقالوا له: لم تبذَّلت هذا التبذيل(12) بحضرة معاوية؟ هلا وجَّهت إليه غيرها. فقال (في ذلك) _من البحر الطَّويل_:
أردتُ لكيما يعلمَ الناسُ أنَّها                     سراويلُ قيسٍ والوفودُ شهودُ
وأن لا يقولوا غاب قيسٌ وهذه                     سراويلُ عادِيٍّ نمتْهُ ثمودُ
وإنِّي من القوم اليمانينَ سيِّدٌ                     وما النَّاسُ إلَّا سيِّد ومَسُودُ
وبَذَّ جميعَ الخَلْقِ أصلي ومَنْصِبي                     وجسمٌ به أَعْلُو الرِّجالَ مَديدُ
          ثمَّ وجَّه معاوية إلى محمَّد بن الحنفيَّة، فحضر، فأخبر بما دعي له، فقال: قولوا له: إن شاء فليجلس وليعطني يده حتَّى أقيمه، وإن شاء فليكن القائم وأنا القاعد. فاختار الرُّوميُّ الجلوس، فأقامه محمَّد، وعجز هو عن إقعاده، ثمَّ اختار أن يكون محمَّد هو القاعد، فجذبه فأقعده، وعجز الرُّوميُّ عن إقامته، فانصرفا مغلوبين، وكانت راية أبيه عليٍّ يوم صِفِّين بيده، ويحكى أنَّه توقَّف أوَّل يوم في حملها لكونه قتال المسلمين، ولم يكن قبل ذلك شهد مثله(13) ، فقال له عليٌّ: وهل عندك شكٌّ في جيش مقدَّمه أبوك؟ فحملها، وحكي أنَّه قيل لمحمَّد: كيف كان أبوك يقحمك المهالك، ويولجك المضايق دون أخويك الحسن والحسين؟ فقال: إنَّهما(14) كانا عينيه، وكنت يديه، وكان يَقِي عينيه بيديه.
          ولمَّا دعا ابن الزُّبير إلى نفسه، وبايعه أهل الحجاز بالخلافة، دعا عبد الله بن العبَّاس ومحمَّد بن الحنفيَّة إلى البيعة، فأبيا ذلك، وقالا: لا نبايعك حتَّى تجمتع(15) لك البلاد، ويتَّفق النَّاس. فأساء جوارهم، وحصرهم وآذاهم، وقال: إن لم تبايعاني أحرقتكما بالنَّار. وذكرت باقي القصَّة في ترجمة ابن عبَّاس، فراجعها.
          وكانت ولادته لسنتين مضتا من خلافة عمر، والفرقة الكيسانيَّة يعتقدون إمامته، / وأنَّه مقيم بجبل رَضْوَى، وإلى هذا أشار كثيِّر عزَّة بقوله _من البحر الوافر_:
وسِبْطٌ لا يذوق الموتَ حتَّى                     يقودَ الخيلَ يقدمُها اللواءُ
يغيبُ فلا يُرى فيهم زماناً                     برَضْوَى عنده عسلٌ وماءُ
          قيل: لا يعلم أحد أسند عن عليٍّ عن النَّبيِّ صلعم (أكثر) ولا أصحَّ(16) ممَّا أسند محمَّد بن الحنفيَّة. قاله الكرمانيُّ(17) ، وكان محمَّد يخضب بالحِنَّاء والكَتَم، وكان يتختَّم في اليسار.
          قال ابن خلِّكان(18) : وانتقلت إمامته إلى ولده أبي هاشم، ومنه إلى محمَّد بن عليٍّ، والد السَّفَّاح والمنصور.
          روى عنه: عمرو بن دينار، وابناه عبد الله والحسن، ومنذر الثَّوريُّ.
          نقل عنه البخاريُّ في مواضع، أوَّلها: في باب من استحيا فأمر غيره بالسُّؤال، من كتاب العلم [خ¦132] ، وفي الكفالة [خ¦2296] ، والذَّبائح [خ¦5520] ، والنِّكاح [خ¦5115] .
          توفِّي سنة ثمانين، أو إحدى، أو اثنتين(19) ، أو ثلاث وثمانين. وقيل: سنة اثنتين، أو ثلاث وسبعين، بالمدينة، وصلَّى عليه أبان بن عثمان، وكان والي المدينة يومئذ، ودفن بالبقيع، وقيل: إنَّه خرج إلى الطَّائف هارباً من ابن الزُّبير، فمات هناك. وقيل مات ببلاد أيلة. وعاش خمساً وستِّين سنة بلا خلاف(20) .


[1] في وفيات الأعيان:4/170.
[2] في غير (ن): (ولا تكنوا) والحديث أخرجه البخاري برقم (2120).
[3] مسند أحمد برقم (9863)، عن أبي هريرة ☺. وأبو داود في سننه برقم (4966)، عن جابر ☺. والترمذي في جامعه برقم (2842).
[4] برقم (8634) الستون من شعب الإيمان.
[5] في صحيحه:13/134.
[6] 1/62، وانظر وفيات الأعيان:4/170 فالخبر فيه، والمصنف ينقل منه.
[7] في الكامل:1/309، والشعر مع الخبر فيه، وجاء في الشعر عندنا (وإني من القوم الثمانين) و(بدء جميع الخلق) وهو تصحيف، والمثبت من الكامل.
[8] في (ن) تصحيفاً: (بين يديه معاوية).
[9] في (ن): (به).
[10] في غير (ن): (ثديه).
[11] في غير (ن): (قوماً).
[12] في غير (ن): (التبذل).
[13] في غير (ن): (مثلها).
[14] في غير (ن): (لأنهما).
[15] في غير (ن): (يجمع).
[16] في (ن) تصحيفاً: (والأصح).
[17] شرح البخاري:2/161.
[18] في وفيات الأعيان:4/172، والخبر مع الشعر فيه، وفي تاريخ دمشق لابن عساكر:54/348، مع زيادة في الأبيات واختلاف يسير في الرواية، ونسب الأبيات لكثير بن كثير السهمي، ثم قال: وقيل: إن هذه الأبيات لكثير عزة.
[19] في (ن): (أو اثنين) وكذا الموضع بعده.
[20] في غير (ن) تقدم قوله (وعاش.. ) إلى ما قبل قوله (وصلى عليه أبان).