غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

محمد بن مسلمة

          1228 # محمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ _بفتح الميم، وسكون المهملة، وفتح اللَّام_ بن سَلَمةَ _بفتح اللَّام(1)_ بن خالد الأنصاريُّ الأوسيُّ، ثمَّ الحارثيُّ، الصَّحابيُّ، حليف بني الأشهل، يكنَّى أبا عبد الرَّحمن، وقيل: أبو عبد الله.
          روى عن رسول الله صلعم ستَّة عشر حديثاً، شهد بدراً وأحداً، والمشاهد كلَّها مع رسول الله صلعم إلَّا تبوك، ومات بالمدينة، ولم يستوطن / غيرها، وهو أحد الذين قتلوا عدوَّ الله كعب بن الأشرف، واستخلفه رسول الله صلعم على المدينة في بعض غزواته، (قيل: غزوة) قَرْقَرة. وقيل: غزوة تبوك. واستعمله عمر على صدقات جُهينة، وهو كان صاحب العمَّال أيَّام عمر، إذا اشتُكِي إليه عامل أرسل محمَّداً يكشف عليه الحال، وهو الذي أرسله عمر إلى عمَّاله ليأخذ شطر أموالهم لثقته به(2) ، واعتزل الفتنة بعد قتل عثمان بن عفَّان واتَّخذ سيفاً من خشب، وقال: كذلك أمرني رسول الله صلعم.
          قال محمَّد بن مسلمة: أعطاني رسول الله صلعم سيفاً، وقال: «قاتل به المشركين، فإذا اختلف المسلمون بينهم فاكسره على صخرة، ثمَّ كن حلساً من أحلاس بيتك». ولم يشهد من حروب الفتنة شيئاً، وممَّن قعد في بيته سعد بن أبي وقَّاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر وغيرهم، وقيل: محمَّد بن مسلمة هو الذي قتل مَرحباً اليهوديَّ صاحب خيبر. والصَّحيح أنَّ الذي قتل مرحباً هو عليُّ بن أبي طالب.
          قال حذيفة بن اليمان: إنِّي لأعلم رجلاً لا تضرُّه الفتنة: محمَّد بن مسلمة. قال الرَّاوي _نقلاً عن بعضهم_: فأتينا الرَّبَذَة، فرأينا فُسْطاطاً مضروباً، وإذا فيه محمَّد بن مسلمة، فسألناه، فقال: لا يشتمل عليَّ شيء من أمصارهم(3) حتَّى ينجلي الأمر عمَّا انجلى.
          توفِّي بالمدينة، سنة ستٍّ وأربعين، أو ثلاث، أو سبع، وعمره سبع وسبعون سنة.
          وكان أسمر شديد السُّمرة، طويلاً، أصلع، وخلَّف من الولد عشرة(4) ذكور وستَّ بنات.
          تكملة:
          لمَّا كان محمَّد بن مسلمة أميرَ مَنْ قتلَ اللَّعينَ كعبَ بنَ الأشرفِ أردنا أن نذكر هذه الواقعة، وكانت لأربع عشرة [ليلة] مضت من ربيع الأوَّل، على رأس خمسة وعشرين شهراً من مهاجَره صلعم على ما ذكره ابن سيِّد(5) النَّاس، قال محمَّد بن إسحاق: لمَّا أصيب أصحاب [القليب يوم] بدر، وقدم زيد بن حارثة إلى [أهل] السَّافلة، وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرَين بالفتح المبين، قال كعب: _وكان من طيٍّ، وأمُّه من بني النَّضير_ أحقٌّ ما سمعتم؟ أترون أنَّ محمَّداً قتل هؤلاء، وهم أشراف العرب وملوك النَّاس؟! والله إن كان محمَّد أصاب هؤلاء(6) القوم لبطنُ الأرض خير من ظهرها. فلمَّا أيقن عدوُّ الله الخبر خرج إلى مكَّة، وحرَّض النَّاس على قتال رسول الله صلعم، وأنشد الأشعار، وبكى أصحاب القليب، ثمَّ رجع إلى المدينة يشبِّب بنساء المسلمين حتَّى آذاهم، ثمَّ انبعث يهجو رسول الله صلعم والمؤمنين، ويمدح عدوَّهم، ويحرِّضهم على قتال المؤمنين، ثمَّ لم يرضه ذلك؛ حتَّى ركب إلى مكَّة، فاتَّفقوا على رسول الله صلعم، فقال له أبو سفيان: أديننا خير أم دين محمَّد؟ وأيُّنا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحقِّ؟ فقال: أنتم أهدى منهم سبيلاً وأفضل. فأنزل الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ } [آل عمران:23] الآية، وخمس آيات فيه، وفي قريش، فقال صلعم: «من لي بكعب بن الأشرف، فقد استعلن / بعداوتنا، وآذى الله ورسوله، وقد أتى مكَّة ينتظر قريشاً تقدم عليه، فيقاتلنا معهم». ثمَّ قرأ ما أنزل الله تعالى عليه، فقال محمَّد بن مسلمة: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال: «فافعل». فرجع محمَّد ثلاثة أيَّام، لا يأكل، ولا يشرب إلَّا ما تعلَّق به نفسه، فذُكر ذلك لرسول الله صلعم، فدعاه، فقال: «لم تركت الطَّعام والشَّراب»؟ قال: يا رسول الله، قلت لك قولاً، لا أدري هل أفينَّ(7) لك به أم لا؟ قال: «إنَّما عليك الجهد». قال: يا رسول الله، إنَّه لا بد لنا من أن نقول. قال: «قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حلٍّ من ذلك». وكان قد اجتمع على (قتل) عدوِّ الله محمَّدُ بن مسلمة، وسلْكَانُ بن سَلاَمة بن وَقْش، (وهو) أبو نائلة، وكان أخاً لكعب من الرَّضاعة، وعَبَّاد بن بِشْر بن وَقْش، [والحارث بن أوس بن معاذ] ، وأبو عبس بن جَبْر، والخمسة من الأوس، ثمَّ قدموا إلى عدوِّ الله، فأتاه أبو نائلة، فتحدَّث معه ساعة، وتناشدا شعراً، ثمَّ قال: ويحك يا ابن الأشرف! إنِّي قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك، فاكتم عنِّي. قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرَّجل علينا بلاء، عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنَّا السُّبل؛ حتَّى جاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا، وجهد عيالنا. فقال: أما والله، لقد كنت أخبرتك يا ابن سلامة أنَّ الأمر سيصير إلى ما أقوله(8) . فقال له سلكان: أردنا تبيعنا طعاماً، ونرهنك، ونحسن في ذلك. فقال: ترهنوني أولادكم. فقال: لقد أردت أن تفضحنا، ويقال لأبنائنا: قد رُهن بوسق، ورهن بوسقين. فيعيَّرون بذلك. قال: فأرهنوني نساءكم. قال: أونؤمن ذلك، وأنت أجمل العرب؟ وإنَّ معي أصحاباً على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحَلْقة والسِّلاح ما فيه وفاء. وأراد _(أي) أبو نائلة_ أن لا ينكر السِّلاح(9) إذا جاؤوا بها، فرجع إلى أصحابه، وأخبرهم بذلك، فاجتمعوا عند رسول الله صلعم، ومشى معهم رسول الله صلعم إلى بقيع الغرقد، ثمَّ وجَّههم، وقال: «انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم». وذلك في ليلة مقمرة، فانتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إنَّك امرؤ محارب، ومثلك لا ينزل في هذه السَّاعة. قال: إنَّه أبو نائلة، لو وجدني نائماً ما أيقظني. فقالت: والله، إنِّي لأعرف في صوته الشَّرَّ. فقال كعب: لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب. فنزل، فتحدَّث معهم(10) ساعة، وتحدَّثوا معه، وقالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن تمشي معنا إلى شِعْب، فنتحدَّث به بقيَّة اللَّيل؟ قال: إن شئتم. فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثمَّ إنَّ أبا نائلة شام يده في فود رأسه، ثمَّ شمَّ يده، فقال: ما رأيت مثل اللَّيلة طيباً أعطر! ثمَّ مشى ساعة، ثمَّ عاد لمثلها، حتَّى اطمأنَّ، فقال: نعم، إنَّه من طيب أمِّ فلان. يعني زوجته، ثمَّ أخذ برأسه، ومكَّن يده، فقال: اضربوا عدوَّ الله. فضربوه، / فاختلفت عليه أسيافهم، فلم تغن شيئاً، وقد صاح عدوُّ الله صيحة، لم يبق حولنا حصن إلَّا وأوقد عليه نار، قال محمَّد بن مسلمة: فأخذت سيفي، ووضعته على لبَّتِه(11) ، ثمَّ تحاملت عليه حتَّى بلغت عانته، فوقع عدوُّ الله، وقد أصيب الحارث ابن أوس، فجرح في رأسه أو رجله، أصابه بعض أسيافنا. قال: فخرجنا حتَّى وصلنا إلى حرَّة العريض، وقد أبطأ علينا(12) الحارث، ونزفه(13) الدَّم، فوقفنا له ساعة، ثمَّ أتانا يتبع آثارنا، فاحتملناه، فجئنا به رسول الله صلعم، آخر اللَّيل، وهو قائم يصلِّي، فسلَّمنا عليه، فخرج علينا، فأخبرناه بمقتل عدوِّ الله، وتفل على جرح صاحبنا، فأصبحنا وقد خافت اليهود، فليس بها(14) يهوديٌّ إلَّا وهو يخاف على نفسه.


[1] في تهذيب الكمال 26/456: محمد بن مسلمة بن سلمة بن حَريش بن خالد، وأسد الغابة:4/330، والإصابة:3/383، وجاء في (ن) تصحيفاً: (ابن مسلمة) بدل (سلمة).
[2] جاء في هامش (ه) حاشية للناسخ ما صورتها:
ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد أن محمد بن مسلمة لما أرسله عمر بن الخطاب ☺ إلى عمرو بن العاص _وهو يومئذ عامل مصر_ ليشاطره ماله، صنع له عمرو طعاماً كثيراً، فأبى محمد بن مسلمة أن يأكل منه شيئاً، فقال له عمرو: أتحرِّمون طعامنا؟ فقال: لو قدمت إليَّ طعام الضيف أكلته، ولكنك قدمت إليَّ طعاماً ما هو إلا تقدمة شر، والله لا أشرب عندك ماء، فاكتب لي كل شيء هو لك، ولا تكتمه، فشاطره ماله بأجمعه؛ حتى بقيت نعلاه، فأخذ إحداهما، وترك الأخرى، فغضب عمرو بن العاص، فقال: يا محمد بن مسلمة! قبح الله زماناً عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل، والله إني لأعرف الخطاب يحمل على رأسه حزمة من حطب، وعلى ابنه مثلها، وما منهما إلا في نميرة لا تبلغ رسغيه، والله ما كان العاص بن وائل يرضى أن. وتمام الكلام منخرم في الأصل، وتتمة القصة في العقد الفريد:1/14.
[3] في الأصول: (قال الواقدي) و(أبصارهم) وفي (ن): (عمن انجلى) والمثبت من أسد الغابة:4/337، ومن تاريخ دمشق:55/261، في ترجمة محمد بن ملسمة، والخبر عند الحاكم في مستدركه:3/433 وصححه، ووافقه الذهبي.
[4] في (ن): (عشر).
[5] في عيون الأثر 1/392: سرية كعب بن الأشرف. وما بين حاصرتين منه.
[6] في (ن): (هذا القوم).
[7] في (ن): (أدين).
[8] في (ن): (أقول) و(أردت) بدل (أردنا).
[9] في غير (ن): (السلام).
[10] في غير (ن): (فحدثهم).
[11] في (ن): (على بطنه).
[12] في غير (ن): (عليك).
[13] في (ن): (ولزقه).
[14] في غير (ن): (فيها).