غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب

          1205 # محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب، أبو جعفر، الهاشميُّ، المدنيُّ، المعروف بمحمَّد الباقر، هو ابن زين العابدين.
          ثقة، فاضل، [تابعيٌّ] كبير.
          سمع جابر بن عبد الله.
          روى عنه: أبو إسحاق، ومِخْوَلُ بنُ راشِد، ومعمر بن يحيى.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب من لم ير الوضوء إلَّا من المخرجين، من كتاب الوضوء [خ¦255] . قال الكرمانيُّ: ويحتمل(1) أن يراد بمحمَّد المذكور في هذا الباب _يعني باب من لم ير الوضوء إلَّا من المخرجين_ محمَّد بن الحنفيَّة، وقال الكلاباذيُّ(2) : ذكره البخاريُّ، في كتاب الغسل، في(3) باب الغسل بالصَّاع [خ¦252] .
          قال الكرمانيُّ: هو تابعيٌّ، جليل القدر، ولقِّب بالباقر؛ لأنَّه بقر العلم، أي شقَّه بحيث عرف حقائقه، وقال ابن خلِّكان(4) : لأنَّه تبقَّر في العلم، أي توسَّع، والتَّبقُّر: التَّوسُّع، وفيه يقول الشَّاعر _من البحر السَّريع_:
يا باقرَ العلمِ لأهلِ التُّقى                     وخيرَ من لبَّى على الأَجْبُلِ
          ولد يوم الثلاثاء، سنة سبع وخمسين للهجرة، وكان عمره يوم قتل جدُّه الحسين ثلاث سنين، وأمُّه أمُّ عبد الله بنت الحسن بن الحسن، هو أحد الأئمَّة الاثني عشر في اعتقاد الإماميَّة، وهو والد جعفر الصَّادق.
          قال أبو نعيم الأصفهانيُّ(5) : ومنهم الحاضر الذَّاكر، [والخاشع] الصَّابر، أبو جعفر، محمَّد بن عليٍّ الباقر، كان من سلالة النُّبوَّة، وجمع حسب الدِّين والأبوَّة، وتكلَّم في العوارض والخطرات، وسفح الدُّموع والعبرات، ونهى عن المراء والخصومات.
          قال الباقر: الإيمان ثابت في القلب، ولليقين خطرات، فيمرُّ اليقين بالقلب، فيصير كأنَّه زبر الحديد، ويخرج منه، فيصير كأنَّه خرقة بالية.
          وقال: ما دخل قلبَ امرئ شيءٌ من الكبر إلَّا نقص من عقله مثلما دخله من ذلك، قلَّ أو كثر.
          وقال: الغنى والعزُّ يجولان في قلب المؤمن، فإذا وصلا إلى مكان فيه التَّوكُّل أوطناه. وقال: / الصَّواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن، ولا تصيب الذَّاكر.
          وقال في قوله ╡: { أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا } [الفرقان:75] قال: الغرفة: الجنَّة؛ بما صبروا على الفقر في دار الدُّنيا. وكذلك في قوله: { وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } [الإنسان:12]
          قال جابر الجعفيُّ: قال لي الباقر: يا جابر، إنِّي لمحزون، وإنِّي لمشتغل القلب. قلت: وما شغلك، وما حزنك؟ قال: يا جابر، إنَّ من دخل قلبَه خالصُ دين الله شغله عمَّا سواه، يا جابر، ما الدُّنيا، وما عسى أن تكون؟ هل هو إلَّا مركب ركبته، أو ثوب لبسته، أو امرأة أصبتها؟ يا جابر، إنَّ المؤمنين لم يطمئنُّوا إلى الدُّنيا لبقاء فيها، ولم يأمنوا قدوم الآخرة عليهم، ولم يُصْمِهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم من الفتنة، ولم يُعْمِهم عن نور الله ما رأوا بأعينهم من الزِّينة، ففازوا بثواب الأبرار، إنَّ أهل التَّقوى أيسر أهل الدُّنيا مؤنة، وأكثرهم مَعونة، إن نسيت ذكَّروك، وإن ذكرت أعانوك، قوَّالين بحقِّ الله، قوَّامين بأمر الله، قطعوا محبَّتهم بمحبَّة(6) ربِّهم، ونظروا إلى الله، وإلى محبَّته بقلوبهم، وتوحَّشوا من الدُّنيا بطاعة مليكهم، وعلموا أنَّ ذلك منظور إليهم من شأنهم، فأنزلِ الدُّنيا بمنزل نزلتَ(7) به، فارتحلت عنه، أو كمالٍ أصبته في منامك، فاستيقظت وليس معك منه شيء، واحفظ الله تعالى ما استرعاك من دينه وحكمته.
          قال أبو يعقوب القَوَّام عبد الله بن يحيى: رأيت على الباقر إزاراً أصفر، وكان يصلِّي كلَّ يوم وليلة خمسين ركعة مع المكتوبة.
          وكان الباقر يقول: سلاح اللِّئام قبيح الكلام. وقال: لكلِّ شيء آفة، وآفة العلم النِّسيان. وقال: عالم ينتفع به أفضل من ألف عابد، ووالله لموت عالم أحبُّ إلى إبليس من موت سبعين عابداً.
          وقال: شيعتنا ثلاثة أصناف: صنف يأكلون النَّاس بنا، وصنف كالزُّجاج يتهشَّم، وصنف كالذَّهب الأحمر، كلَّما دخل النَّار ازداد جودة.
          وقال لابنه: يا بنيَّ(8) ، إيَّاك والكسل والضَّجر، فإنَّهما مفتاح كلِّ شرٍّ، إنَّك [إن كسلت] لم تؤدِّ حقًّا، وإن ضجرت لم تصبر على حقٍّ.
          قال: أشدُّ الأعمال ثلاثة: ذكر الله على كلِّ حال، وإنصافك من نفسك، ومواساة الأخ في المال.
          قال الباقر: أوصاني أبي، فقال: لا تصحبنَّ خمسة، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم في طريق. قلت: جُعلت فداك يا أبة، من هؤلاء الخمسة؟ قال: لا تصحبنَّ فاسقاً، فإنَّه بائعك بأكلة فما دونها. قلت: وما دونها؟ قال يطمع فيها، ثمَّ لا ينالها. قال: ولا تصحبنَّ البخيل، فإنَّه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت إليه، ولا تصحبنَّ كذَّاباً، فإنَّه بمنزلة السَّراب، يبعد منك القريب، ويقرِّب منك البعيد، ولا تصحبنَّ أحمق، فإنَّه يريد أن ينفعك فيضرُّك، ولا تصحبنَّ قاطع رحم، فإنِّي وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع.
          قال الباقر: إذا رأيتم القارئ يحبُّ الأغنياء فهو صاحب الدُّنيا، وإذا رأتيموه يلزم السُّلطان من غير ضرورة فهو لصٌّ.
          وقال: شيعتنا / من أطاع الله ╡، وإيَّاكم والخصومة، فإنَّها تفسد القلب، والذين يخوضون في آيات الله هم أصحاب الخصومات.
          قال عروة بن عبد الله: سألت أبا جعفر الباقر عن حلية السُّيوف، فقال: لا بأس به، قد حلَّى أبو بكر الصِّدِّيق سيفه. قال: قلت: وتقول: الصِّدِّيق؟! قال: فوثب وثبة، واستقبل القبلة، ثمَّ قال: نعم، الصِّدِّيق، نعم، الصِّدِّيق،(9) من لم يقل له: الصِّدِّيق(10) ، فلا صدَّق الله له قولاً في الدُّنيا والآخرة،
          وقال لجابر الجُعفيِّ: يا جابر، بلغنا أنَّ قوماً بالعراق يزعمون أنَّهم يحبُّوننا، ويتناولون أبا بكر وعمر، ويزعمون أنِّي أمرتهم بذلك، فأبلغهم أنِّي إلى الله منهم بريء، والذي نفس محمَّد بيده، لو ولِّيت لتقرَّبت إلى الله تعالى بدمائهم، لا نالني شفاعة محمَّد صلعم إن لم أكن أستغفر لهما، وأترحَّم عليهما، إنَّ أعداء الله الغافلون(11) عنهما، يا جابر، بلِّغ أهل الكوفة أنِّي بريء ممَّن تبرَّأ من أبي بكر وعمر، من لم يعرف فضل أبي بكر وعمر فقد جهل السُّنَّة.
          وسئل الباقر عن قوله ╡: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة:55] قال: هم أصحاب محمَّد. قيل: يقولون: هو عليٌّ. قال: عليٌّ منهم.
          وكان الباقر إذا ضحك قال: اللهم لا تمقتني.
          قال عبد [الله] بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر الباقر، لقد رأيت الحكيم(12) عنده كأنَّه متعلِّم.
          قال الباقر: كان لي أخ في عيني عظيم، وكان الذي عظَّمه في عيني صغر الدنُّيا في عينه. وكان يقول في جوف اللَّيل: اللهم أمرتني فلم أئتمر، وزجرتني فلم أنزجر، هذا عبدك بين يديك، ولا اعتذر.
          قال جعفر بن الباقر: فقد أبي بغلة له(13) ، فقال: لئن ردَّها الله عليَّ لأحمدنَّه محامد يرضاها. فما لبث أن أتي بها، بسرجها ولجامها، فركبها، فلمَّا استوى عليها، وضمَّ إليه ثيابه، رفع رأسه إلى السَّماء، فقال: الحمد لله. ولم يزد عليها، فقيل له في ذلك، فقال: وهل تركت شيئاً؟ جعلت الحمد كلَّه لله.
          وقال: من أُعطي (الخلق والرِّفق فقد) أُعطي الخير والرَّاحة، وحسن حاله في الدُّنيا والآخرة، ومن حُرم(14) الرِّفق (والخلق) فقد اتَّخذ(15) سبيلاً إلى (كلِّ) شرٍّ(16) وبليَّة؛ إلَّا من عصمه الله تعالى.
          وقال: أيدخل أحدكم يده (في كمِّ صاحبه فيأخذ ما يريد؟)(17) فقيل: لا. قال: فلستم بإخوان(18) كما تزعمون.
          وقال: اعرف المودَّة لك في قلب أخيك بما له في قلبك(19) .
          وسمع صوت عصافير، فقال: أتدرون ما يقلن؟ قيل: لا. قال: يسبِّحن الله تعالى، ويسألن قوت يومهنَّ(20) .
          وقال: ندعو الله فيما نحبُّ، وإذا وقع الذي نكره [لا] نخالف الله فيما أحبَّ، وما من عبادة أفضل من عفَّة بطن أو فرج، وما من شيء أحبُّ إلى الله من أن يُسأل، وما يدفع القضاء إلَّا الدُّعاء، وإنَّ أسرع الخير ثواباً البرُّ، وأسرع الشَّرِّ عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيباً أن يبصر من النَّاس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر النَّاس بما لا يستطيع التَّحوُّل / عنه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه.
          وقال الباقر: سئل أبي، عليُّ بن الحسين عن القرآن، فقال: ليس بخالق ولا مخلوق، وهو كلام الله الخالق ╡.
          وقال: عن أبيه زين العابدين عليِّ بن الحسين، عن أبيه، عن عليِّ بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلعم: «من نقله الله من ذلِّ المعاصي إلى عزِّ التَّقوى أغناه بلا مال، وأعزَّه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس، ومن خاف الله تعالى أخاف الله منه كلَّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كلِّ شيء، ومن رضي من الله باليسير من الرِّزق رضي [الله] منه باليسير من العمل، ومن لم يستح من طلب المعيشة خفَّت مؤنته، ورضي باله(21) ، ونعم عياله، ومن زهد في الدُّنيا أنبت الله(22) الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وأخرجه من الدُّنيا(23) سالماً إلى دار القرار».
          وقال _بالسَّند المذكور، عن جبريل_ قال: قال الله تعالى: «إنِّي أنا الله لا إله إلَّا أنا فاعبدوني، من جاءني منكم بشهادة أن لا إله إلَّا الله بالإخلاص دخل في حصني، ومن دخل في حصني أمن من عذابي».
          وقال _بالسَّند المذكور_ قال رسول الله صلعم: «العلم خزائن ومفاتيحها السُّؤال، فسلوا يرحمكم الله، فإنَّه يؤجر فيه أربعة: السَّائل والمعلِّم والمستمع والمحبُّ لهم».
          توفِّي سنة أربع عشرة ومئة على الصَّحيح، وله ثلاث وسبعون سنة، وقيل: سنة خمس عشرة. وقيل: سبع عشرة. وقيل: ثمان عشرة. ودفن بالمدينة، في القبر الذي فيه أبوه زين العابدين، وعمُّ أبيه الحسن بن عليِّ بن أبي طالب، في القبَّة التي فيها العبَّاس، ووفاته كانت(24) بالحُميمة، ونقل إلى المدينة، ودفن بالبقيع.
          تتمَّة:
          الحُمَيْمَةُ _بضمِّ المهملة، وفتح الميمين، بينهما تحتيَّة مثنَّاة ساكنة_ قرية في أخريات الشَّام كانت لعليِّ بن عبد الله بن العبَّاس وأولاده، في أيَّام بني أميَّة، وفيها ولد السَّفَّاح، أوَّل خلفاء العبَّاسيِّين، وأخوه أبو جعفر المنصور ثاني خلفائهم، وبها تربَّيا، ومنها انتقلا إلى الكوفة، وبويع السَّفَّاح بالخلافة فيها(25) .
          قال الطَّبريُّ: إنَّ الوليد بن عبد الملك أخرج عليَّ بن عبد الله بن العبَّاس من الشَّام، وأنزله الحُميمة، سنة خمس وتسعين للهجرة، ولم يزل ولده(26) بها إلى أن زالت دولة بني أميَّة، وولد (له) بها نيِّف وعشرون ولداً ذكراً، وانتقلت الخلافة إليهم بعد الإخراج بنحو ثلاثين سنة. فسبحان القادر على كلِّ شيء، العالم بغيبه، يفعل ما يشاء، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممَّن يشاء.


[1] في (ن): (ويحمل) وقول الكرماني في شرح البخاري:2/17، ولكنه جزم به ولم ينص على الاحتال.
[2] الهداية والإرشاد:2/669.
[3] في (ن): (يعني باب).
[4] في الوفيات:4/174، والخبر مع البيت فيه، والرواية وفي (ن): (لبى على الجبل)
[5] في حلية الأولياء:3/180، والأخبار بعده مع الأحاديث وتوثيقها فيه.
[6] في (ن): (لمحبة).
[7] في (ن): (تركت به).
[8] في (ن): (يابن).
[9] كررت هذه العبارة في (ن) أربع مرات.
[10] في غير (ن): (من لا يقل صديقاً).
[11] في غير (ن): (لغافلون).
[12] في غير (ن): (الحكم).
[13] في غير (ن): (بغلته).
[14] في غير (ن): (ومن فقد).
[15] في غير (ن): (كان ذلك سبيلاً).
[16] في (ن): (إلى الشر وبلية).
[17] في (ن) هنا: (أيدخل أخدكم يده جيبه).
[18] في (ن): (فلستم بإخواني).
[19] في (ن): (اعرف المودة لأخيك لما في قلبك).
[20] في غير (ن): (يسبحن الله تعالى على قوت يومهن).
[21] في (ن): (ورضي بماله).
[22] في (ن) تصحيفاً: (نبت إليه).
[23] في غير (ن): (عن الدنيا).
[24] في (ن): (كان).
[25] في (ن): بدل قوله: (وبها تربيا..) جاء (وبها عهد أبو المعلى إلى السفاح بالخلافة فيها).
[26] في (ن): (ولم يزل ذلك).