غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

معاذ بن جبل

          1293 # مُعَاذُ بنُ جَبَل _بفتحتين في الجيم والموحَّدة_ بن عمرو بن أوس، أبو عبد الرَّحمن الأنصاريُّ، الخزرجيُّ، السَّلَمِيُّ، المدنيُّ، الصَّحابيُّ، البدريُّ، نزيل الشَّام.
          من أعيان الصَّحابة، وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام والقرآن. قال له النَّبيُّ صلعم وأخذ(1) يده: «يا معاذ، والله إنِّي لأحبُّك» _قلت: سبحان لله ما أسعده! وانظر كيف أكَّد كلامه بالجملة الاسميَّة بالتَّصدير(2) بإنَّ، ثمَّ باللَّام، ثمَّ بالنِّداء مخاطبة ومحبَّة، وتنبيهاً(3) لعظم ما يرد عليه من القول، وأن لا يفوته شيء من ذلك، وأخرج الكلام على غير مقتضى الظَّاهر؛ لأنَّ المقام خطابيٌّ، لا إنكاريٌّ؛ لشدَّة الاعتناء بذلك، فهو مثل قوله ╡ خطاباً لنوح_: { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ } [هود:37] بل التَّأكيد في الحديث أكثر على ما لا يخفى، فتأمَّل، ففيه أكثر من هذا، ويعلم ذلك علماء المعاني المهرة، وشهد المشاهد كلَّها مع رسول الله صلعم.
          قال ابن حزم: روى معاذ عن رسول الله صلعم مئة وسبعة وخمسين حديثاً. قال الكرمانيُّ(4) : للبخاريِّ منها خمسة أحاديث.
          روى عنه: أنس بن مالك، وعمرو بن ميمون، والأسود بن هلال.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في أوَّل كتاب الإيمان تعليقاً [خ¦قبل 8] .
          أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، شهد العقبة الثَّانية مع السَّبعين من الأنصار، وآخى رسول الله صلعم بينه وبين عبد الله بن مسعود.
          قال أنس: جمع القرآن على عهد رسول الله صلعم أربعة: أبيُّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت الأنصاريُّ، [وأبو زيد] ،(5) وقال صلعم: «أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل». وقال: «نعم الرَّجلُ معاذ بن جبل». وأرسله(6) إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام قاضياً به، و [هو] أحد الذين كانوا يفتون في عهد رسول الله صلعم وفي حياته، وهم ثلاثة من المهاجرين: عمر، وعثمان، وعليٌّ، وثلاث من الأنصار: أبيُّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وقيل: آخى صلعم بينه وبين جعفر بن أبي طالب. /
          ذكره ابن إسحاق: وقال صلعم: «خذوا القرآن من أربعة، من ابن مسعود، وأبيِّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة». قال أنس بن مالك: أتاني معاذ بن جبل من عند رسول الله صلعم فقال: «من شهد أن لا إله إلَّا الله مخلصاً بها قلبه دخل الجنَّة». فذهبت إلى رسول الله صلعم فقلت: يا رسول الله حدَّثني معاذ أنَّك قلت: «من شهد أن لا إله إلَّا الله مخلصاً بها قلبه دخل الجنَّة». قال: «صدق معاذ، صدق معاذ»(7) . قال جابر: كان (معاذ) من أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، وأسمحهم كفًّا، فأدان دَيناً، فلزمه غرماؤه من رسول الله صلعم حتَّى غاب(8) عنهم أيَّاماً في بيته، فطلب(9) غرماؤه من رسول الله صلعم أن يحضره، فأرسل إليه، فحضر ومعه غرماؤه، فقالوا: يا رسول الله، خذ لنا حقَّنا. فقال صلعم: «رحم الله من تصدَّق عليه». فتصدَّق عليه ناس(10) ، وأبى آخرون، فخلعه رسول الله صلعم من ماله، وحَجَر عليه، فاقتسموه بينهم، فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم، فقال لهم صلعم: «ليس لكم إلَّا ذلك(11) ». ثمَّ أرسله إلى اليمن، وقال: «لعلَّ الله يَجْبُرك، ويؤدِّي عنك دينك». فلم يزل باليمن حتَّى توفِّي رسول الله صلعم. قلت: هذا صريح على أنَّ الحَجْر على معاذ كان بطلب الغرماء، كما قال في النِّهاية(12) ، لكن المذكور في الرَّافعيِّ الكبير أنَّ الحَجْر كان بسؤاله. قلت:
          فائدة: ويستنبط من قوله صلعم: «ليس لكم إلَّا ذلك(13) ». أنَّ الحرَّ لا يباع في دينه، ولا يتعلَّق الدَّين برقبته، بذمَّته فقط، لكن قال كمال الدِّين الدَّميريُّ(14) وغيره: إنَّ ذلك وقع في صدر الإسلام.
          قال ابن حزم(15) : إن زُرارة بن أَوفى التَّابعي، قاضي البصرة، باع حرًّا في دينه. (قال): وقد رُوِّينا عن الشَّافعيِّ مثل ذلك، وهي مقالة غريبة (عنه،) لا يعرفها من أصحابه إلَّا من تبحَّر في الحديث والآثار. قال: وذكر أبو بكر الكنديُّ أنَّ فتيان المالكيَّ ناظر الشَّافعيَّ في بيع الحرِّ [في الدَّين] ، فكان الشَّافعيُّ يقول: (يباع). وفتيان يقول: لا يباع. وهذه المقالة(16) التي عزاها ابن حزم، لكن لم يصحَّ عن الشَّافعيِّ ذلك، وروى البيهقيُّ عن أبي سعيد الخدريِّ أنَّ النَّبيَّ صلعم باع حرًّا أفلس في دينه، وفي البيهقيِّ، عن زيد بن أسلم أنَّه قال: رأينا شيخاً بالإسكندريَّة، يقال له: سُرَقُ، بضمِّ المهملة، وفتح الرَّاء، ثمَّ قاف في آخره، قال: فقلت له: ما هذا الاسم؟ قال: اسم سمَّانيه رسول الله صلعم، ولن أدعه. قلت: ولم سمَّاك؟ قال: قدَّمت المدينة، فأخبرتهم أنَّ مالي يقدم، فبايعوني، فأهلكت أموالهم، فأتوا بي إلى رسول الله صلعم، فقال: «أنت سرق» فباعوني(17) بأربعة أبعرة، فقال الغرماء للذي اشتراني: ما تصنع به؟ قال: أعتقه. قالوا: فلسنا بأزهد في الخير منك، فأعتقوني بينهم، وبقي اسمي، كذلك قال البيهقيُّ(18) ، وإجماع العلماء(19) على خلافه، وهم لا يجمعون على ترك رواية ثابتة إلَّا إذا قام دليل على ضعفه أو نسخه، / وفي مراسيل أبي داود عن الزُّهريِّ قال: كان على عهد رسول الله ديون على رجل، ما علمنا حرًّا بِيْعَ في دين، انتهى.
          وقال في القاموس(20) : هو سُرَقُ بنُ أَسَدٍ الجُهَنِيُّ، صحابيٌّ، كان اسمه الحُبَاب، ابتاع من بدويٍّ راحلتين، ثمَّ أجلسه على باب داره ليخرج إليه بثمنها، فخرج من الباب الآخر، [وهرب، فأُخبر به النَّبيُّ صلعم، فقال: «التمسوه». فلما أتي به قال: «أنت سُرَق».]وكان يقول: لا أحبُّ أن أدعى بغير ما سمَّاني رسول الله صلعم. زاد ابن الأثير على القاموس قال: فقال له: «ما حملك على ما صنعت؟» قال: قضيت بثمنهما حاجتي. قال: «فاقضه». قال: ليس عندي. قال: «يا أعرابيٌّ، اذهب به حتَّى تستوفي منه حقَّك». قال: فجعل النَّاس يسومونه ليفتدوه، فأعتقه الأعرابيُّ.
          قال ابن الأثير: وسُرَقُ مخفَّف الرَّاء كغُدَرٍ(21) وفُسَقٍ. (قال): وأصحاب الحديث يشدِّدون الرَّاء، والصَّواب تخفيفها. قلت: وفي القاموس تشديد الرَّاء لا غير، فتأمَّل.
          قال ثور بن يزيد: كان معاذ إذا تهجَّد باللَّيل قال: اللَّهم نامت العيون، وغارت النُّجوم، وأنت حيٌّ قيُّوم، اللهم طلبي للجنَّة بطيء، وهربي من النَّار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى. ولمَّا وقع طاعون عَمَواس بالشَّام قال معاذ: اللهم أدخل على آل معاذ من هذا نصيبهم، فطعنت له امرأتان فماتتا، ثمَّ طعن ابنه عبد الرَّحمن فمات، ثمَّ طعن معاذ، فجعل يغشى عليه، فإذا أفاق قال: ربِّ غمَّني بغمِّك(22) ، فوعزتك لَتعلمُ أنِّي أحبُّك.
          وقال عمرو بن قيس: إنَّ معاذ بن جبل لمَّا حضره الموت قال: انظروا أصبحنا؟ فقيل له: لم تصبح؛ حتَّى قيل له: أصبحت. فقال: نعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النَّار، مرحباً بالموت، مرحباً بزائر حبيب جاء على فاقة، اللهم تعلم أنِّي كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، إنِّي لم أكن أحبُّ الدُّنيا وطول البقاء فيها لِكَرْيِ الأنهار، ولا لغراس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة السَّاعات، ومزاحمة العلماء بالرَّكب عند حِلَقِ الذِّكر.
          قال الحسن: لمَّا حضر معاذاً(23) الوفاة جعل يبكي، فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله وأنت وأنت؟! فقال: ما أبكي جزعاً من الموت أن حلَّ بي، ولا دنيا تركتها [بعدي] ، ولكن إنَّما هي القبضتان، فلا أدري من أي القبضتين [أنا] ؟ قلت: المراد بالقبضتين ما روي أنَّ رسول الله صلعم خرج ذات يوم ويداه مقبوضتان، فقال: «هؤلاء أصحاب الجنَّة، وهؤلاء أصحاب النَّار، وقد جفَّ القلم، فلا يزيدون ولا ينقصون».(24) أو كما قال.
          وكان معاذ ممَّن يكسر أصنام بني سلمة، وقال صلعم: «معاذ أمام العلماء برتوة أو رتوتين». قلت: الرَّتْوَة _بفتح الرَّاء المهملة، وسكون المثنَّاة الفوقيَّة، / وفتح الواو_ رمية السَّهم، أو ميل، أو قدر مدِّ البصر.
          قال ابن مسعود: كان معاذ بن جبل أمَّة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين. فقيل له: إنَّما قال الله ذلك في إبراهيم. فأعاد قوله، وقال: ما الأمَّة، وما القانت؟ قيل: الله ورسوله أعلم. قال: الأمَّة الذي يعلِّم النَّاس الخير، (ويؤتمُّ به،) والقانت المطيع [لله] ، وكذلك كان معاذ معلِّماً للخير مطيعاً لله ولرسوله.
          وقبض وله أربع وثلاثون، أو ثمان وعشرون(25) سنة، واستبعده ابن الأثير، قال: لأنَّه يلزم أن يكون له عشر سنين يوم حضور العقبة. قلت: والاستبعاد حقٌّ؛ لأنَّ أبا نصر الكلاباذيَّ(26) قال: حضر معاذ بدراً، وهو ابن عشرين سنة، أو إحدى وعشرين. قال: ومات بناحية الأردن، في طاعون عَمواس _بفتح المهملة_ سنة ثمان عشرة، ودفن شرقي غَور بِيْسان.


[1] في (ن): (وأخذه).
[2] في (ن) تصحيفاً: (ثم بالتقرير).
[3] في (ن) تصحيفاً: (بينهما).
[4] شرح البخاري:1/73.
[5] أخرجه البخاري برقم (3810)، وأبو زيد هو أحد أعمام أنس بن مالك راوي الحديث، قال النووي في شرحه على مسلم 16/20: أبو زيد هذا هو سعد بن عُبيد بن النعمان الأوسي من بني عمرو بن عوف، بدري، يعرف بسعد القارئ، وقيل: هو قيس بن السَّكن الخزرجي.
[6] في (ن): (وأرسل).
[7] الخبر مع بقية أخباره في تاريخ دمشق:58/430.
[8] في (ن): (حتى يغيب).
[9] في غير (ن): (فطلبه).
[10] في غير (ن): (أناس).
[11] في غير (ن): (إلا ذلكم).
[12] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج:14/166، والشرح الكبير للرافعي:10/200.
[13] في غير (ن): (ذلكم).
[14] النجم الوهاج:4/378.
[15] المحلَّى:9/17.
[16] في (ن) تصحيفاً: (معاملة).
[17] في (ن): (فبايعوني).
[18] في السنن الكبرى:6/50، باب ما جاء في بيع الحر المفلس.
[19] في غير (ن): (الأمة).
[20] ضبطه في القاموس: كـ(سُكَّر)، وساق قصته.
[21] يُصرف ولا يُصرف، فسيبويه ذهب إلى عدم الصرف، وذهب الأخفش وتبعه ابن السيد البطليوسي إلى صرفه، قال الأشموني في غدر وفسق: وهو أحق من عمر بمنع الصرف لأن عدله محقق، وعدل عمر مقدر. اهـ شرح الأشموني على ألفية ابن مالك (مالا ينصرف).
[22] في (ن): (عمني غمك).
[23] في الأصول (معاذ)، والخبر في تاريخ دمشق:58/450.
[24] لم أجد الحديث بهذا اللفظ، لكن حديث القبضتين الذي أشار إليه معاذ ☺ هو تتمة الخبر المذكور قال: إنما هي قبضتان، فقبضة في النار، وقبضة في الجنة... والحديث أخرجه الإمام الطبراني في المعجم، وقال الهيثمي: فيه البراء بن عبد الله الغنوي، وهو ضعيف، مجمع الزوائد:15/113.
[25] في (ن) تصحيفاً: (أو عشرون).
[26] الهداية والإرشاد:2/700.