غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

مسكين بن بكير

          1277 # مِسْكينُ بنُ بُكَيْرٍ _بضم الموحَّدة، وفتح الكاف_ أبو عبد الرَّحمن، الحَذَّاءُ، الحَرَّانيُّ.
          حدَّث عن شعبة.
          روى عنه عبد الله بن محمَّد النُّفيلي، بضمِّ النُّون، وفتح الفاء.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة، في آخر تفسير سورة البقرة [خ¦4545] ، وروى عنه أيضاً عن محمَّد غير منسوب، عن النُّفيليِّ. قال الكرمانيُّ(1) _نقلاً عن أبي نصر الكلاباذيِّ_: إنَّه قال: أظنُّه محمَّد بن يحيى الذُّهليَّ، ويقال: إنَّه محمَّد بن إبراهيم الفوشنجيُّ، لكن الذي قاله الكلاباذيُّ(2) _نقله عن أبي عبد الله البَيِّع(3) بشدَّة المثنَّاة التَّحتيَّة_: (أنَّه) الفوشنجيُّ، قال: وهذا الحديث ممَّا أملاه البوشنجيُّ بنيسابور.
          اعلم أنَّ مسكيناً هذا هو غير مسكين الدَّارميِّ الذي حكى عنه ابن خلِّكان في تاريخه(4) ، (من) بعض ظَرْفه، وهو أنَّ بعض التُّجَّار قدم مدينة رسول الله صلعم ومعه حِمْل من الخُمُر السُّود، فلم يجد لها طالباً، وكسدت عليه، وضاق ذرعه لذلك، فقيل له: ما ينفقها لك إلَّا مسكين الدَّارميُّ. وهو من مجيدي الشِّعر، الموصوفين بالظَرْف والخلاعة، فقصده، فوجده قد تزهَّد ورفض الدُّنيا، وانقطع إلى الله تعالى، ولازم مسجد النَّبيِّ صلعم، فأتاه وقصَّ عليه القصَّة، فقال: كيف أعمل، وقد تركت الشِّعر منذ زمان، واعتكفت على هذه الحالة؟ فقال التَّاجر: أنا رجل غريب، وليس لي بضاعة سوى هذا الحمل. وتضرَّع إليه، فخرج من المسجد، وأعاد لباسه الأوَّل، وعمل هذين البيتين _من بحر الكامل(5)_ وهما:
قل للمليحة في الخمار الأسود                     ماذا صنعت بناسك(6) متعبِّد
قد كان شمَّر للصَّلاة ثيابَه                     حتَّى قعدت له بباب المسجد
          فشاع في النَّاس أنَّ مسكيناً الدَّارميَّ قد رجع إلى ما كان عليه، وأحبَّ امرأة ذات خمار أسود، وقد أنشد في ذلك الأشعار، فلم يبق في المدينة(7) ظريفة إلَّا اشترت خماراً أسود، فباع التَّاجر الحِمْلَ (الخُمُرَ) الذي كان معه بأضعاف ثمنه؛ لكثرة الرَّغبات، فلمَّا فرغ منه عاد مسكين الدَّارميُّ إلى تعبُّده وانقطاعه. قلت: فرضي الله عنه، ما كان ألطفه و [ما] أبعده عن الرِّياء(8) ! وممَّا يشبه هذين البيتين للقاضي التَّنُّوخيِّ _من البحر الكامل أيضاً_ وهي:
قل للمليحة في الخِمَار المُذْهَبِ                     أفسدتِ نُسْكَ أخي التُّقى المترهِّبِ
نورُ الخمارِ ونور خدِّك تحتَه                     عجباً لوجهك كيف لم يتلهَّبِ
وجمعتِ بين المُذْهَبَينِ فلم يكن                     للحُسنِ عن ذَهَبيهما من مَذْهبِ
وإذا أتتْ عين لتسرق نظرة                     قال الشُّعاع لها اذهبي لا تَذْهبي
          واستحسن القاضي شمس الدِّين ابن خلِّكان(9) قوله(10) : اذهبي لا تذهبي. وهو حقيق بذلك للجمع بين الأمر والنَّهي، والإيجاد والإعدام والمقابلة، إلى غير ذلك من المحسِّنات البديعية(11) . قلت: لكنَّ قوله: نور الخمار إلى آخر البيت موافق لبيت أبي نواس، / فما أدري هو من السَّرقات الشِّعريَّة أو من الموافقات الطَّبيعيَّة؟ وكثيراً ما يقع ذلك، وسبب إنشاء أبي نواس الأبيات التي سنذكرها _من جملتها هذا البيت_ هو أنَّ أبا نواس كان ينادم الخليفة ذات ليلة، فخرج(12) الخليفة بأبي نواس، وإذا بجارية تلبس ثيابها، وخرجت في ثياب بيض، فقال الخليفة لأبي نواس: ائت بأبيات على البديهة تحاكي ما نحن فيه، فأنشأ _من البحر الكامل(13)_:
قل للمليحة في القناع الأبيض                     رفقاً بقلبي إنَّ طَرْفك مُمْرِضي
جودي على صبٍّ أطال بعاده                     فغرامه متجدِّدٌ لا ينقضي
قد صار يقنع بالإشارة منكم                     ماذا يضرُّك لو رضيت بما رضي
          قيل: فأمرها الخليفة تلبس ثياب حمر، [ففعلت،] وأمر أبا نواس بالإنشاء، فأنشد(14) :
قل للمليحة في القناع الأحمر                     والشَّعْرُ من فوق الجبين الأزهرِ
أنتِ التي(15) أورثت قلبي حسرة                     وتركتني مَيْتاً وإن لم أُقبر
فتوقَّد المرِّيخ صبغ قناعها                     وبياض خدَّيها بياض المشتري
وكأنَّ حمرة خدِّها وقناعها                     ورد الرِّياض إذا بدا يتصوَّر
          فتعجَّب الخليفة من هذه الخليقة، وأمرها بنزع هذه الثِّياب، ولُبس ثياب مُذْهبة(16) ، فامتثلت، وأمر أبا نواس بالإنشاء(17) ، فقال:
قل للمليحة في القناع المُذْهَبِ                     كم ذا فديتُك بالصُّدود تعذِّبي
ماذا يضرُّك لو رحمت متيَّماً(18)                      يشكو إليك صبابة لم تذهب
لون القناع ونور وجهك تحته                     عجباً لوجهك كيف لم يتلهَّب
          وبالجملة، فالبيت الأخير هو السَّبب لإنشاد هذه الأبيات، وإن كنَّا خرجنا عن المقصود بالذَّات، فما يخلو عن إفادة، أقلُّها التَّنشيط إلى المطالعة، فإنَّ الطَّبع يسأم عن نوع واحد، ولهذا جعل أصحاب المعاني من البلاغة [باب] الالتفات، والقرآن مشحون بذلك حتَّى فاتحة الكتاب؛ لئلَّا يملَّ القارئ والعالم، وكان ابن عبَّاس ☻ إذا ملَّ من المطالعة قال: ائتوني بكتاب الشُّعراء. فتأمَّل.


[1] شرح البخاري:17/47.
[2] الهداية والإرشاد:2/741.
[3] في (ن) تصيحفاً: (اليتقي).
[4] وفيات الأعيان:4/161، والشعر مع الخبر فيه، وجاء في هامش (س) ما نصه: وهكذا مذكور في النسخة مرة (الفوشنجي) ومرة (البوشنجي).
[5] في (ن) تصحيفاً: (الرجز) وكذلك الموضع بعده.
[6] الرواية في (ن): (بزاهد مترهب) وجاء في هامش (س) ما نصه: في نسخة (أردت) وفي نسخة (بزاهد) وفي نسخة (إزاره).
[7] في غير (ن): (بالمدينة).
[8] في (ن): (عن الزنا).
[9] وفيات الأعيان:4/160- 161، والشعر فيه.
[10] في (ن): (قول).
[11] في غير (ن): (المستحسنات البديعة).
[12] في غير (ن): (فخلا).
[13] في الأصل (الرجز) والمثبت هو الوجه، والشعر من المتنازع.
[14] في غير (ن): (فأنشأ).
[15] في (ن): (أنت الذي).
[16] في (ن): (ثياب مذهب).
[17] في غير (ن): (بالإنشاد).
[18] في (ن) تصحيفاً: (ميتا).