غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة

          1192 # محمَّد بن عبد الرَّحمن بن المُغيرة بن الحارث، [الشَّهير] بابن أبي ذئب، أبو الحارث، القرشيُّ، العامريُّ، المدنيُّ.
          ثقة، فقيه، فاضل، من كبار أتباع التَّابعين.
          سمع: نافعاً، والزُّهريَّ، وسعيداً المَقْبُريَّ.
          وروى عنه: أبو بكر بن أبي أُويس، وابن المبارك، وعثمان بن عمر(1) ، ومعن بن عيسى، ومحمَّد بن إبراهيم بن دينار، وأبو نُعيم، وآدم بن أبي إياس، وابن أبي فُديك، وعاصم بن عليٍّ.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب حفظ العلم، من كتاب العلم [خ¦119] .
          وهو مشهور بابن أبي ذئب، وهو جَدُّ جدِّه، اسمه هشام، والد الحارث.
          قال الشَّافعيُّ: ما فاتني أحد فأسفت عليه ما أسفت على اللَّيث وابن أبي ذئب. وقال أحمد بن حنبل: كان ابن أبي ذئب أفضل من مالك؛ إلَّا أنَّ مالكاً [كان] أشدَّ تنقية الرِّجال(2) منه. وأقدمه المهديُّ بغداد حتَّى حدَّث بها، ثمَّ رجع يريد المدينة، فمات بالكوفة.
          قال الكرمانيُّ(3) : لمَّا حجَّ المهديُّ دخل مسجد رسول الله صلعم فلم يبق أحد إلَّا قام سوى محمَّد بن أبي ذئب، فقال له المسيَّب بن زهير: قم، هذا أمير المؤمنين. فقال: إنَّما يقوم النَّاس / لربِّ العالمين. فقال له المهديُّ: دعه، فلقد قامت كلُّ شعرة من رأسي.
          وقال أبو جعفر المنصور له سنة حجَّ: ما تقول في الحسن بن زيد بن الحسن بن فاطمة؟ قال: إنَّه ليتحرَّى العدل. قال: فما تقول فيَّ؟ مرَّتين أو ثلاثاً، فقال: وربِّ هذه البنية، إنَّك لجائر. فأخذ الرَّبيع بلحيته، فقال أبو جعفر: كُفَّ عنه. وأمر له بثلاثمئة دينار.
          وقال حجَّة الإسلام الغزاليُّ(4) ، في إحيائه _في باب الأمر بالمعروف نقلاً عن الشَّافعيِّ، ⌂_ قال: حدَّثني عمِّي محمَّد بن عليٍّ، قال: إنِّي لحاضر مجلس أمير المؤمنين أبي جعفر، وفيه ابن أبي ذئب، وكان والي المدينة الحسن بن زيد، فأتى الغِفَاريُّون وشكوا إلى أبي جعفر من الحسن بن زيد، فقال الحسن: يا أمير المؤمنين، سل عنهم ابن أبي ذئب. قال: فسأله، فقال: ما تقول فيهم يا ابن أبي ذئب؟ قال: فأشهد أنَّهم قوم يحطمون في أعراض النَّاس، كثيرو الأذى. فقال أبو جعفر: قد سمعتم؟ فقال الغِفاريُّون: يا أمير المؤمنين، سله عن الحسن بن زيد. فقال: أشهد عليه أنَّه يحكم بغير الحقِّ، ويتَّبع هواه. فقال: قد سمعت يا حسن ما قال فيك ابن أبي ذئب؟ وهو الشَّيخ الصَّالح. فقال: يا أمير المؤمنين، سله عن نفسك. فقال: ما تقول فيَّ؟ قال: تعفني يا أمير المؤمنين. قال: أسألك بالله إلَّا ما أخبرتني. فقال: تسألني بالله، كأنَّك ما تعرف نفسك! قال: والله لتخبرنِّي. فقال: أشهد أنَّك أخذت المال من غير حقِّه، فجعلته في غير أهله، وأشهد أنَّ الظُّلم ببابك فاشٍ. قال: فمشى أبو جعفر من موضعه حتَّى وضع يده في قفاه، ثمَّ قبض عليه، ثمَّ قال: أما والله لولا أنِّي جالس ههنا لأخذت فارس والرُّوم والدَّيلم والتُّرك بهذا المكان منك. فقال ابن أبي ذئب: قد ولي أبو بكر وعمر ☻ فأخذا الحقَّ، وقسما بالسَّويَّة، وأخذا فارس والرُّوم، وقهراهم. فخلَّى أبو جعفر قفاه، وخلَّى سبيله، فقال: والله يا أمير المؤمنين، إنِّي لأنصح لك من ابنك المهديِّ. فقال: والله لولا أعلم أنَّك صادق لقتلتك. قال: فبلغنا أنَّ ابن أبي ذئب لمَّا خرج من مجلس المنصور لقيه سفيان الثَّوريُّ، فقال: يا أبا الحارث، لقد سرَّني ما خاطبت به هذا الجبَّار، لكن ساءني(5) قولك له: ابنك المهديِّ. فقال: يغفر الله لك أبا عبد الله، كلُّنا مهديُّون. (يعني): كلُّنا [كنَّا] في المهد.
          قال صاحب الكامل(6) : ابن أبي ذئب ثقة، غير أنَّ روايته [يعني] عن الزُّهريِّ خاصَّة تكلَّم النَّاس فيها بالاضطراب، وذكر بعضهم أنَّ سماعه منه عَرْض، والعَرْض عند جميع من أدركنا صحيح، وتناظر أحمد وابن معين في ابن أبي ذئب، وعبد الله بن جعفر المَخْرَميِّ، فقدَّمَ أحمدُ المَخْرَميَّ، فقال يحيى: المَخْرَمِيُّ شيخ، وأيُّ شيء(7) عنده من الحديث؟ وأطرى ابنَ أبي ذئب، وقدَّمه على المَخْرَمي تقديماً كثيراً متفاوتاً. قال الإمام أحمد: كان ابن (أبي) ذئب يشبه سعيد بن المسيَّب، فقيل لأحمد: هل خلَّف مثله ببلاده؟ قال: لا، ولا بغيرها، وكان ثقة صدوقاً، لا يبالي عمَّن حدَّث. قال ابن معين: ابن أبي ذئب ثقة؛ [وكلُّ من روى عنه ثقة؛] / إلَّا أبا جابر البَيَاضِيَّ، وكلُّ من روى عنه مالك ثقة؛ إلَّا عبد الكريم أبا أميَّة البصريَّ.
          قال ابن خلِّكان(8) : هو أحد الأئمَّة المشاهير، وهو صاحب الإمام مالك، وكانت بينهما (ألفة) أكيدة، ومودَّة صحيحة، ولمَّا قدم مالك على أبي جعفر المنصور سأله، من بقي بالمدينة من المشيخة(9) ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ابن أبي ذئب، وابن أبي سلمة، وابن أبي سَبْرة(10) . وقال ابن أبي ذئب للمنصور: يا أمير المؤمنين، قد هلك النَّاس، فلو أعنتهم بما في يدك من الفيء. فقال: ويلك! لولا ما سددت الثُّغور، وبعثت من الجيوش لكنت تؤتى في منزلك فتذبح. فقال ابن أبي ذئب: قد سدَّ الثُّغور، وجيَّش الجيوش، وفتح الفتوح، وأعطى النَّاس أعطياتهم من هو خير منك. قال: ومن هو، ويلك؟ قال عمر بن الخطَّاب. فنكس المنصور رأسه _والسَّيف بيد المسيَّب بن زهير، والعمود بيد مالك بن الهيثم_ فلم يعرض له، والتفت إلى محمَّد بن إبراهيم الإمام، وقال: هذا الشَّيخ خير أهل الحجاز [إليَّ] . وكان أبوه قد أتى قيصر، فسعى به، فحبسه حتَّى مات في حبسه.
          ولد ابن أبي ذئب في المحرَّم، سنة إحدى وثمانين للهجرة، وقيل: سنة ستٍّ وثمانين، سنة سالَ الجُحَاف، وعاش تسعاً وسبعين سنة، وتوفِّي سنة تسع، أو ثمان وخمسين ومئة.
          قال الجوهريُّ في صحاحه(11) : سيلٌ جُحَاف(12) _بضمِّ الجيم_ إذا جرف كلَّ شيء وذهب به، والجُحَافُ: الموت الذي يذهب بكل شيء.
          قال الكلاباذيُّ(13) : يقال لسنة(14) السَّيل والقطر الكثير: سنة الجُحاف، وذكر الواقديُّ أنَّ السَّيل جَحَفَ بالحُجَّاج ببطن مكَّة، فذهب بالإبل عليها(15) الحمولة وبالرِّجال والنِّساء، ما لأحد منهم حيلة، وبلغ السَّيل الرُّكن وجاوزه، فلذلك تسمَّى سنة الجُحاف. قلت: وفي سنة ثمان وثمانين وثمانمئة قبل مقدم الحجَّاج، أتى سيل من الأبطح، وهدم دوراً كثيرة، وقتل أناساً عديدة بمسجد(16) الحرام، وجاوز الحجر الأسود.
          وقال في القاموس: سمِّيت الجحفة جحفة، وكان اسمها مَهْيَعة، وهي ميقات الشَّاميِّين، وكانت قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلاً من مكَّة المشرَّفة؛ لأنَّه نزل بها بنو عَبيل، وهم إخوة عاد، وكان العماليق أخرجوهم(17) من يثرب، فجاءه سَيْلُ الجحاف، فاجتحفهم.


[1] في (ن) تصحيفاَ: (عثمان بن عمرو).
[2] في غير (ن): (تنقية للرجال).
[3] لعلها قاله الكرماني فالكلام السابق في شرح البخاري:2/136. ولم أجد فيه قوله المشار إليه.
[4] في الإحياء:2/348.
[5] سقطت كلمة (ساءني) من الأصول واستدركت من التهذيب:25/635.
[6] لابن عدي:6/182، وانظر تهذيب الكمال:25/635.
[7] في غير (ن): (وأيش).
[8] وفيات الأعيان:4/183.
[9] في (ن) تصحيفاَ: (من الشيخة).
[10] في (ن) تصحيفاَ: (وابن أبي شبرمة).
[11] الصحاح (جحف).
[12] في غير (ن): (سيل الجحاف).
[13] الهداية والإرشاد:2/663.
[14] في (ن): (يقال سنة).
[15] في (ن): (عليه).
[16] في غير (ن): (بالمسجد).
[17] في (ن): (أخرجهم).