غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

محمد بن المنكدر

          1235 # محمَّد بن المُنْكَدِر بن عبد الله بن الهُدَيْر _مصغَّر الهَدْر_ هو أبو عبد الله، التَّيميُّ، القرشي، أخو عمر، وأبي بكر.
          تابعيٌّ، مدنيٌّ، ثقة، فاضل، مشهور، جامع(1) بين العلم والزُّهد. قال سفيان: كان ابن المنكدر من معادن الصِّدق، ويجتمع إليه الصَّالحون، ولم ندرك أحداً أجدر(2) أن يقبل النَّاس منه إذا قال: قال رسول الله صلعم. من محمَّد بن المنكدر، وكان والده المنكدر خال عائشة، فشكى إليها الحاجة، فقالت له: أوَّل شيء يأتيني أبعث به إليك. فجاءها عشرة آلاف درهم، فبعثت بها إليه، فاشترى منها جارية، فولدت له محمَّداً، [إماماً متألِّهاً بكَّاءً،] (وأبا بكر وعمر).
          وقال في توثيق عرى الإيمان _نقلاً عن محمَّد بن المنكدر_: إنَّ رجلاً أودع أباه ثمانين ديناراً، / وخرج الرَّجل يريد الجهاد، وقال لأبي: إن احتجت إليها أنفقها إلى أن أعود. ومضى لحاجته، فأصاب أهل المدينة جهد جهيد من الغلاء، فأخرج أبي الدَّنانير وأنفقها، فلم يلبث الرَّجل أن قدم، وطلب ماله، فقال له أبي: عد إليَّ غداً. وبات في المسجد(3) يلوذ بقبر النَّبيِّ(4) صلعم مرَّة، وبمنبره أخرى؛ حتَّى كاد يُصْبِح، ويستغيث بقبره، فبينما هو كذلك، وإذا شخص في الظَّلام يقول: دونكها فخذها. فمدَّ أبي يده، فإذا هو بصرَّة فيها ثمانون ديناراً، فلمَّا أصبح جاءه الرَّجل، فدفعها إليه.
          وقال أبو نعيم الأصفهانيُّ(5) : ومنهم النَّاظر المعتبر، والذَّاكر المعتذر محمَّد بن المنكدر، حكي أنَّه بينا محمَّد ذات ليلة قائم يصلِّي إذا به يبكي، وكثر بكاؤه حتَّى فزع له أهله، وسألوه ما الذي أبكاه؟ فاستعجم عليهم، وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم، فأخبروه، فأتاه، فإذا هو يبكي، قال: يا أخي، ما الذي أبكاك؟ قد رعت أهلك، أفمن علَّة أم ما بك؟ قال: إنَّه مرَّت بي آية من كتاب الله تعالى. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: { وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } [الزمر:47] قال فبكى أبو حازم معه، فاشتدَّ بكاؤهما، فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتفرِّج عنه فزدته. قال: فأخبرهم بالذي أبكاهما. وجزع ابن المنكدر عند الموت، فقيل له: لم تجزع؟ قال: أخشى آية من كتاب الله { وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } وإنِّي أخشى أن يبدو لي ما لم أحتسب. وكان يقوم من اللَّيل فيتوضَّأ، ثمَّ يدعو، فيحمد الله تعالى، ويثني عليه ويشكره، ثمَّ يرفع صوته بالذِّكر، فقيل له: لم ترفع صوتك؟ قال: إن لي جاراً يشتكي برفع صوته بالوجع، فأنا أرفع صوتي بالنِّعمة.
          قال مالك بن أنس: كان محمَّد بن المنكدر سيِّد القرَّاء، ولا يكاد أحد يسأله عن حديث إلَّا كان يبكي.
          وقال أبو يعقوب: اجتمع النَّاس حول ابن المنكدر وهو يصلِّي، وكان رجلاً عابداً، فانصرف إليهم، فقال: قد أتعبتم الواعظين، إلى متى تساقون سوق البهائم؟!
          وقال: كابدت نفسي أربعين سنة حتَّى استقامت.
          وقال عمر بن محمَّد بن المنكدر: كنت أمسك على أبي المصحف، قال: فمرَّت مولاة له فكلَّمها، فضحك إليها، ثمَّ أقبل يقول: إنَّا لله، إنَّا لله. حتَّى ظننت أنَّه قد حدث شيء، فقلت: ما لك؟ فقال: أما كان لي في القرآن شغل حتَّى مرَّت هذه، فكلَّمتها؟
          قال صفوان بن سليم: أتيت محمَّد بن المنكدر _وهو في الموت_ فقلت له: يا أبا عبد الله، كأنِّي أراك قد شقَّ عليك الموت. قال: فما زال يهون عليه الأمر وينجلي، حتَّى لكأنَّ وجهه المصابيح(6) . ثمَّ قال له محمَّد: لو ترى ما أرى، أو ما أنا فيه لقرَّت عينك. ثمَّ مات، ☼.
          قال ابن المنكدر: بلغني أنَّ الجبلين إذا أصبحا نادى أحدهما صاحبه باسمه: / أي فلان، هل مرَّ بك اليوم ذاكر لله تعالى ╡؟ فيقول: نعم. فيقول: لقد أقرَّ الله عينك، لكن ما مرَّ بي ذاكر لله تعالى اليوم.
          وقال عمر بن محمَّد: بينا أنا جالس مع أبي في مسجد رسول الله صلعم إذ مرَّ بنا رجل، يحدِّث الناس، ويفتيهم ويقصُّ، قال: فدعاه أبي، فقال: يا فلان، إنَّ المتكلِّم يخاف مقت الله، وإنَّ المستمع ينتظر رحمة الله. وقال: إنَّ الله يحفظ العبد المؤمن في ولده، وولد ولده، ويحفظه(7) في دويرته، ودويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله ما كان بين ظهرانيهم.
          وصلَّى على رجل، فقيل له: أتصلِّي على فلان؟ فقال: إنِّي أستحي من الله أن يعلم منِّي أنَّ رحمته تعجز عن أحد من خلقه.
          وبعث إلى صفوان بن سليم أربعين ديناراً، ثمَّ قال لبنيه: يا بنيَّ، ما ظنُّكم برجل فرَّغ صفوان لعبادة ربِّه؟
          وقيل له: أيُّ الدُّنيا أحبُّ إليك؟ قال: التقاء الإخوان، وإدخال السُّرور عليهم، والإفضال عليهم.
          وكان سيِّداً، يطعم الطَّعام، ويجتمع عنده القرَّاء، وقال: إنَّ موجبات المغفرة إطعام المسكين السَّغْبان. وقال: يمكِّنكم من الجنَّة إطعام الطَّعام، وطيب الكلام.
          وكان يحج وعليه الدين، ويأخذ معه أولاده الصِّغار، فقيل: أتحجُّ وعليك دين؟ قال: الحجُّ أقضى للدَّين. فقيل: أتحجُّ بالصِّبيان؟ قال: نعم، أعرضهم على الله تعالى.
          وقال: بتُّ أغمز رجل أمِّي، وبات عمر يصلِّي، وما يسرُّني أنَّ ليلتي بليلته. وكان يضع خدَّه للأرض، ويقول لأمِّه: قومي ضعي قدمك على خدِّي.
          وقال يعقوب الماجشون: إنَّ رؤية محمَّد بن المنكدر لتنفعني في ديني.
          قال سعيد بن عامر: دخل أعرابيٌّ المدينة، فرأى حال بني المنكدر(8) ، وموقعهم من النَّاس وفضلهم، ثمَّ خرج، فلقيه رجل، فقال: كيف تركت أهل المدينة؟ قال: بخير، وإن استطعت أن تكون من آل المنكدر فكن منهم.
          قال ابن المنكدر: يقال(9) : إنَّ في التَّوراة: يا ابن آدم، اتَّق ربَّك، وبرَّ والديك، وصل رحمك أمدُّ لك(10) في عمرك، وأيسِّر لك يسرك، وأصرف عنك عسرك.
          وقال: لمَّا خلقت النَّار فزعت الملائكة فزعاً شديداً، حتَّى طارت أفئدتهم، فلم يزالوا كذلك حتَّى خلق آدم، فلمَّا خلق رجع إليهم أفئدتهم، وسكن عنهم الذي [كانوا] يجدون.
          وقال: إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى: أين الذين كانوا ينزِّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللَّهو، ومزامير الشَّياطين؟ أدخلوهم في رياض الجنَّة. ثمَّ يقول للملائكة: أسمعوهم حمدي وثنائي، وأخبروهم أن لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون.
          وقال: قال صلعم: «من جعل هموم الدُّنيا همًّا واحداً كفاه الله هم الدُّنيا والآخرة، ومن فرَّق همومه لم يبال الله بأيِّها مات، أو بأيِّها قتل».
          قال عبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم: كان محمَّد بن المنكدر وأصحاب له بالرُّوم، فقال بعضهم: لو كان عندنا الآن جبن رطب. / قال: فإذا بين أيديهم على الطَّريق مكتل مخيط [عليه] ، فيه جبن رطب، فقالوا: لو كان عندنا عسل فأكلناه. فإذا بين أيديهم إناء فيه عسل.
          قال ابن المنكدر: جئت إلى المسجد، فإذا شيخ يدعو عند المنبر بالمطر، فجاء المطر يصوِّت، فقال: يا ربِّ، ما هكذا أريد. قال: فتبعته حتَّى دخل دار آل حزم، أو دار آل عثمان، فعرفت مكانه، فعرضت عليه شيئاً فأبى، فقلت: أتحجُّ معي؟ فقال: هذا شيء لك فيه أجر، فأكره أن أردَّه(11) عليك، وأمَّا شيء آخذه فلا.
          وقال: بينا أنا ذات ليلة مواجه هذا المنبر أدعو؛ إذا إنسان عند إسطوانة مقنِّع رأسه، أسمعه يقول: أي ربِّ، إنَّ القحط قد اشتدَّ على عبادك، وإنِّي مقسم عليك يا ربِّ إلَّا سقيتهم. قال: فما كان إلَّا ساعة، إذا سحابة قد أقبلت، ثمَّ أرسلها الله تعالى. وكان عزيراً على ابن المنكدر أن يخفى عليه أحد من أهل الخير، فقال: هذا في المدينة ولا أعرفه، فلمَّا سلَّم الإمام تقنَّع وانصرف، ولم يجلس للقاصِّ، فتبعته حتَّى أتى دار أنس، فدخل موضعاً، فأخرج مفتاحاً، ففتح، ثمَّ دخل، قال: ورجعت. (قال): فلمَّا أصبحت أتيته، فإذا أنا أسمع صوت نجَّار في بيته، فسلَّمت، ثمَّ قلت: أدخل؟ قال: ادخل. فإذا هو ينجر أقداحاً، فقلت: كيف أصبحت أصلحك الله؟ قال: فاستصعبها منِّي، فلمَّا رأيت ذلك قلت: إنِّي سمعت إقسامك البارحة على الله، يا أخي، هل لك في نفقة تغنيك عن هذا، وتفرِّغك لما تريد من الآخرة؟ فقال: لا، ولكن غير ذلك، لا تذكرني لأحد، ولا تذكر هذا لأحد حتَّى أموت، ولا تأتني يا ابن المنكدر، فإنَّك إن أتيتني شهرتني للنَّاس. قلت: فإنَّي أحبُّ أن ألقاك. قال: القني في المسجد. وكان فارسيًّا، فما ذكر ابن المنكدر لأحد ذلك حتَّى مات، وقال ابن وهب: بلغني أنَّه انتقل من تلك الدَّار، فلم يدر أين ذهب؟ قال أهل تلك المحلَّة: الله بيننا وبين ابن المنكدر، أخرج عنَّا هذا الرَّجل الصَّالح.
          قال ابن المنكدر: استودعني رجل مئة دينار، فقلت له: يا أخي، إن احتجنا إليها أنفقناها، ثمَّ نقضيك. قال: نعم. فاحتجناها فأنفقناها، وأتاني رسوله: إنَّا قد احتجنا إليها. قال: وليس في بيتي شيء. فجعل يدعو يومه: يا ربِّ، لا تخرب أمانتي وأدِّها. فلمَّا وضعت رجلي لأدخل إذا برجل أخذ منكبيَّ، لا أعرفه، فدفع إليَّ صرَّة فيها مئة دينار، فأدَّيتها، فأصبح النَّاس، لا يدرون من أين ذلك؟ [فما علموا من أين ذلك] حتَّى مات عامر بن عبد الله بن الزُّبير وابن المنكدر، وإذا برجل(12) يخبر: بعثني بها إليه عامر، وقال لي: ادفعها إليه، ولا تذكرها حتَّى أموت، أو يموت ابن المنكدر. قال: فما ذكرتها حتَّى ماتا جميعاً.
          وقال ابن المنكدر: الفقيه يدخل بين الله وبين عباده، فلينظر كيف يدخل؟
          وقال: لو جمع حديد الدُّنيا كلِّها، ما خلا منها وما بقي، ما عدل حلقة من حلق السِّلسلة التي ذكرها الله تعالى في كتابه، فقال: { فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا } [الحاقة:32]
          وقال: لا تمازح الصِّبيان، فتهون عليهم، ويستخفُّون بحقِّك.
          قال بشر بن المفضَّل: جلست إلى محمَّد بن المنكدر، فلمَّا أراد أن يقوم / قال: أتأذن؟
          وقال ابن المنكدر _نقلاً عن جابر_: عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال لرجل من ثقيف: «يا أخا ثقيف، ما المروءة فيكم»؟ قال: الإنصاف والإصلاح. قال: «وكذلك فينا».
          وقال: عن جابر عن رسول الله صلعم: «من مات ليلة الجمعة أجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة عليه طابع الشُّهداء».
          وقال: عن جابر: شكونا إلى رسول الله صلعم حرَّ الرَّمضاء، فلم يُشْكِنا، وقال: «استعينوا بلا حول ولا قوة إلَّا بالله، فإنَّها(13) تذهب سبعين باباً من الضُّرِّ، أدناها الهمُّ».
          وقال: عن جابر أنَّ رسول الله صلعم رأى رجلاً وسخ الثِّياب، فقال: «أما(14) وجد هذا شيئاً ينقي به ثيابه»؟ ورأى رجلاً شعث الرَّأس، فقال: «أما وجد هذا شيئاً يسكن به رأسه»؟ وقال أبو قتادة: كانت لي جمَّة حسنة جعدة، فقال النَّبيُّ صلعم: «أحسن إليها». فكنت أدهنها في اليوم مرَّتين.
          وقال: عن جابر قال: قال رسول الله صلعم: «لا تستبطئوا الرِّزق، فإنَّه لم يكن عبد ليموت حتَّى يبلغ آخر رزق له، فاتَّقوا الله، وأجملوا في الطَّلب، أخذ الحلال، وترك الحرام».
          وقال: عن جابر عن رسول الله صلعم: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد كتب الله له ألفي ألف حسنة، ومن زاد زاده الله تعالى».
          وقال: عن أبي هريرة: كان لرسول الله صلعم حمدان يعرفان؛ إذا جاءه ما يكره، قال: «الحمد لله على كلِّ حال». وإذا جاءه ما يسرُّه، قال: «الحمد لله ربِّ العالمين، الرَّحمن الرَّحيم، بنعمة الله تتمُّ الصَّالحات».
          وقال: عن ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «من قاد أعمى أربعين خطوة وجبت له الجنة».
          وقال: عن جابر، وابن عبَّاس عن النَّبيِّ صلعم قال: «أذن لي أن أحدِّث عن ملك من حملة العرش رجلاه في الأرض السَّابعة السُّفلى، على قرنه العرش، ومن شحمة أذنه إلى عاتقه كخفقان الطَّير مسيرة مئة عام». انتهى كلام الأصفهانيِّ(15) .
          قال أبو نصر الكلاباذيُّ(16) : محمَّد بن المنكدر هو أخو عمر وأبي بكر، سمع جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعروة بن الزُّبير، وعامر بن سعد(17) ، روى عنه مالك، وشعبة، والثَّوريُّ، وابن عيينة، وابن جُريج، وسعد بن إبراهيم، وعبيد الله بن عمر، وشعيب بن أبي حمزة، وعبد العزيز بن أبي سَلَمة، وعبد الرَّحمن بن أبي المَوَالي.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب صبِّ النَّبيِّ صلعم وضوءه على المغمى عليه، من كتاب الوضوء [خ¦194] .
          توفِّي سنة إحدى وثلاثين ومئة، في أواخر ولاية مروان بن محمَّد، آخر من تولَّى من بني أميَّة.


[1] في غير (ن): (جمع).
[2] في (ن) تصحيفاً: (أجد).
[3] في غير (ن): (بالمسجد).
[4] في غير (ن): (رسول الله).
[5] حلية الأولياء:3/146.
[6] في غير (ن): (حتى لكأنه وجهه المصباح).
[7] في غير (ن): (ويحفظ).
[8] في غير (ن): (ابن المنكدر).
[9] في (ن) تصحيفاً: (فقال).
[10] في (ن) تصحيفاً: (أفديك).
[11] في (ن): (أرد).
[12] في غير (ن): (وإذا رجل).
[13] في غير (ن): (فإنه).
[14] في غير (ن): (ما).
[15] في (ن): (الأصبهاني) وتنظر حلية الأولياء:3/158.
[16] الهداية والإرشاد:2/676.
[17] في (ن) تصحيفاً: (عامر بن سعيد).