إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ما من مولود إلا يولد على الفطرة

          6599- 6600- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولأبي ذرٍّ: ”حَدَّثنا“ (إِسْحَاقُ) ولأبي ذرٍّ: ”إسحاق بن إبراهيم“. قال في «فتح الباري»: هو ابنُ رَاهُوْيَه. واعترضَه العينيُّ فقال: جوَّز الكلاباذيُّ أن يكون ابنَ إبراهيمَ بنِ نصر‼ السَّعديَّ، وإسحاقَ بنِ إبراهيم الحنظليَّ، وإسحاقَ بنِ إبراهيم الكوسجَ، فالجزمُ بأنَّه ابن رَاهُوْيَه مِن أين؟ وأجابَ في «انتقاض الاعتراض» بأنَّه من القرينةِ الظَّاهرة في قولهِ: «أخبرنا» فإنَّه لا يقول «حَدَّثنا» كما أنَّ إسحاق بن منصور الكوسج يقول: «حدَّثنا» ولا يقول: «أخبرنَا» وهذا يعرف بالاستقراءِ، قال: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همَّام قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) هو ابنُ راشدٍ (عَنْ هَمَّامٍ) بفتح الميم المشددة، ابن منبِّه (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ ، أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ) الإسلاميَّة، ففيه القابليَّة للدِّين الحقِّ، فلو تُركَ وطبعَه لَمَا اختارَ دينًا غيره، و«ما مِن مولودٍ» مبتدأٌ، و«يولد» خبرُه؛ لأنَّ «مِن» الاستغراقيَّة في سياق النَّفي تفيدُ العموم كقولك(1): ما أحدٌ خيرٌ منك، والتَّقدير هنا: ما مِن مولودٍ يُولد(2) على أمرٍ من الأمورِ إلَّا على الفطرةِ (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ) يجعلانه يهوديًّا إذا كانا من اليهودِ (وَيُنَصِّرَانِهِ) يجعلانه نصرانيًّا إذا كانا من النَّصارى، والفاء في «فأبواه» للتَّعقيب أو للتَّسبُّب(3) أي: إذا تقرَّر ذلك فمَن تغيَّر كان بسببِ أبيه (كَمَا) حالٌ من الضَّمير المنصوب في «يهودانهِ» مثلًا، أي: يهودان المولودَ بعد أن خُلِق على الفطرةِ، كما (تُنْتِجُونَ البَهِيمَةَ) سليمةً، بضم الفوقية الأولى / وكسر الثانية بينهما نون ساكنة وضم الجيم، من الإنتاج، يقال: أنتجتِ النَّاقة، إذا أعنتَها على النِّتاج، وقال في «المغرب»: نتَجَ النَّاقة يُنْتِجها نتجًا، إذا وليَ نِتَاجها حتَّى وضعَتْ فهو ناتِجٌ، وهو للبهائمِ كالقابلةِ للنِّساء، أو «كما» صفةُ مصدر(4) محذوف، أي: يغيِّرانه تغييرًا مثل تغييرِهم البهيمةَ السَّليمة، فـ «يُهوِّدانه» و«ينصِّرانه» تنازعًا في «كما» على التَّقديرين (هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا) في البهيمةِ (مِنْ جَدْعَاءَ) بفتح الجيم وسكون الدال المهملة والمدِّ، مقطوعةَ الأطرافِ أو أَحَدِها(5) في موضعِ الحال على التَّقديرين، أي: بهيمة سليمةً مقولًا في حقِّها هذا القول، وفيه نوع من التَّأكيد؛ يعني: أنَّ كلَّ من نظرَ إليها قال هذا القولَ لسلامتِها (حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا) بفتح الفوقيَّة والدال المهملة بينهما جيم ساكنة، أي: تقطعونَ أطرافَها أو شيئًا منها، وشبَّه بالمحسوسِ المشاهدِ؛ ليفيدَ أنَّ ظهوره بلغَ في الكشفِ والبيان مبلغَ هذا المحسوسِ المشاهدِ، ومحصّله: أنَّ العالَم إمَّا عالَمُ الغيب أو عالَم الشَّهادة، فإذا نُزِّلَ الحديثُ على عالَمِ الغيب أشكل معناهُ، وإذا صُرف إلى عالَم الشَّهادة سهل تَعاطيه، فإذا نظرَ النَّاظر إلى المولودِ نفسه من غير اعتبار عالم الغيب، وأنَّه ولدَ على الفطرةِ من الاستعدادِ للمعرفةِ وقبول الحقِّ والتَّأبِّي عن الباطلِ، والتَّمييز بين الخطأِ والصَّواب حَكَمَ بأنَّه لو تركَ علَى ما هو عليهِ ولم يعتورْه من الخارجِ‼ ما يصدُّه، استمرَّ على ما هو عليهِ من الفطرةِ السَّليمةِ، وانظرْ قتلَ الخضرِ الغلامَ؛ إذ كان باعتبارِ النَّظر إلى عالَم الغيبِ، وإنكار موسى عليه(6) كان باعتبارِ عالَم الشَّهادة وظاهرِ الشَّرع، فلمَّا اعتذرَ الخضرُ بالعلمِ الخفيِّ الغائبِ أمسك موسى ◙ عن الإنكارِ، فلا عبرةَ بالإيمان الفطريِّ في أحكامِ الدُّنيا، وإنَّما يعتبرُ الإيمان الشَّرعيُّ المكتسب بالإرادةِ والفعلِ. انتهى. ملخّصًا من «شرح المشكاة».
          (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَرَأَيْتَ) أي: أخبرنا، من إطلاق السَّبب على المسبَّب؛ لأنَّ مشاهدةَ الأشياءِ طريقٌ إلى الإخبارِ عنها، والهمزة فيه مقرِّرة، أي: قد رأيت ذلك فأخبرنَا (مَنْ يَمُوتُ وَهْوَ صَغِيرٌ) لم يبلغِ الحلم أيدخل الجنة؟ (قَالَ) صلعم : (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ). قال البيضاويُّ: فيه إشارةٌ إلى أنَّ الثَّواب والعقاب لا لأجلِ الأعمالِ، وإلَّا لزم أن(7) يكون ذرارِي المسلمين والكافرين لا من أهلِ الجنَّة ولا من أهلِ النَّار، بل الموجبُ لهما اللُّطف الرَّبانيُّ، والخذلان الإلهيُّ المقدَّر لهما في الأزلِ، فالأَولى فيهما التَّوقف وعدم الجزمِ بشيءٍ، فإنَّ أعمالَهم موكولةٌ إلى علمِ الله فيما يعودُ إلى أمرِ الآخرةِ من الثَّواب والعقابِ. وقال النَّوويُّ: أجمعَ من يعتبرُ(8) به من علماءِ المسلمين أنَّ من مات من أطفالِ المسلمين فهو من أهلِ الجنَّة؛ لأنَّه ليس مكلَّفًا، وتوقَّفَ فيهم بعضُ من لا يُعتدُّ به لحديث(9) عائشةَ في مسلم أنَّه صلعم دُعي لجنازةِ صبيٍّ من الأنصار فقلتُ: طُوبى لهذا، عصفورٌ من عصافيرِ الجنَّة لم يعملِ السُّوء ولم يدركْه، فقال: «أو غيرَ ذلكَ يا عائشة، إنَّ الله خلقَ للجنَّة أهلًا خلقَهُم لها وهُم فِي أصلابِ آبائهِم، وخلقَ للنَّار أهلًا خلقَهُم لهَا وهُم فِي أصلابِ آبائهِم».
          وأجابوا عن هذا بأنَّه لعلَّه صلعم نهاها عن المسارعةِ إلى القطعِ من غير أن يكونَ عندها دليلٌ قاطعٌ، أو أنَّه صلعم قال هذا قبلَ أن يعلمَ أنَّ أطفالَ المسلمين(10) في الجنَّة، وأمَّا أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مَذاهب: فالأكثرونَ على أنَّهم في النَّار، وتوقَّفت طائفةٌ، والثَّالث وهو الصَّحيح أنَّهم من أهل الجنَّة.
          والحديث سبق في «الجنائز»، وفيه: «أو يمجِّسانه» [خ¦1385]، وأخرجه مسلم(11) في «القدرِ»، والله الموفِّق.


[1] في (ع): «كقولهِ».
[2] في (ص) و(د): «يوجد».
[3] في (ب): «المسبّب».
[4] في غير (د): «المصدر».
[5] في (ص): «أحدهما».
[6] في (د) زيادة: «الصلاة والسلام».
[7] في (ع) و(ص) و(د) زيادة: «لا».
[8] في (د): «يعتدّ».
[9] في (د): «بحديث».
[10] في (ص): «المؤمنين».
[11] «مسلم»: ليست في (ع).