إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب: جف القلم على علم الله

          ░2▒ (بابٌ)(1) بالتَّنوين في فرعِ «اليونينيَّة» كهي. قال الحافظُ ابن حجرٍ: خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هذا باب، وتعقَّبه / العينيُّ فقال: هذا قولُ من لم يمسَّ شيئًا من الإعراب، والتَّنوين يكون في المعرَبِ، ولفظ «باب» هنا مفرد فكيف ينوَّن، والتَّقدير: هذا باب يذكر فيه (جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللهِ) ╡(2)، وأجابَ في «انتقاض الاعتراض» بأنَّ الكِرْمانيَّ قد جوَّز(3) في كلِّ ما لم يكن مضافًا التَّنوين والجزم على قصد السُّكون؛ لأنَّه للتَّعداد، وقد أكثر المصنِّفون من الفقهاءِ والعلماءِ حتَّى النُّحاة وغيرهم في تصانيفهم ذكر «باب» بغير إضافةٍ، وكذا ذكرُ «فصل» و«فرع»، و«تنبيه»، ونحو ذلك، وكلُّه يحتاج إلى تقديرٍ، وقول الشَّارح: «باب» هو بالتَّنوين لا يستلزم نفي التَّقدير، وقد سلَّم العينيُّ هذا المقدَّر فقال في «باب المحاربين» في(4) قوله «بابٌ» بالتَّنوين لا يكون إلَّا بالتَّقدير؛ لأنَّ المعرَب هو جزءُ المركَّب، والمفردُ وحده لا ينوَّن. انتهى.
          وجفافُ القلمِ كنايةٌ عن الفراغِ من الكتابةِ، فهو _كما قال الطِّيبيُّ_ من إطلاقِ اللَّازم على الملزومِ؛ لأنَّ الفراغَ من الكتابةِ يستلزمُ جفافَ القلمِ عن مدادهِ مخاطبةً لنا بما نعهدُ، وقوله: على علمه أي: حكمهِ؛ لأنَّ معلومَهُ لا بدَّ أن يقعَ، فعلمُه بمعلومٍ(5) يستلزمُ الحكم بوقوعهِ.
          وفي حديث عبدِ الله بن عمر عند أحمد، وصحَّحه ابن حِبَّان من طريق عبدِ الله بن الدَّيلميِّ، عنه، مرفوعًا: «إنَّ الله ╡ خلقَ خلقهُ في ظلمةٍ، ثمَّ أَلقى عليهِم من نورِهِ، فمَن أصابَهُ مِن نورِهِ يومئذٍ اهتدَى، ومَن أخطأَهُ ضلَّ» فلذلكَ(6) أقولُ: جفَّ القلمُ على علمِ الله، والقائلُ: «أقول» هو عبدُ الله بن عمر، كما عند أحمدَ وابنِ حبَّان من طريقٍ أُخرى عن ابنِ الدَّيلميِّ(7).
          ويذكر أنَّ عبدَ الله بنَ طاهر أمير خُراسان للمأمونِ سألَ الحسين بنَ الفضلِ عن قولهِ تعالى‼: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[الرحمن:29] وقولهِ صلعم : «جفَّ القلمُ» فقال: هي شُؤون يبدِيها لا شُؤون يبتدِيها، فقامَ إليه وقبَّل رأسه.
          (وقولهِ) تعالى: ({وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ}[الجاثية:23]) حالٌ من الجلالة، أي: كائنًا على علمٍ منه، أو حالٌ من المفعول، أي: أضلَّه وهو عالمٌ، وهذا أشنع له، فعلى الأوَّل المعنى: أضله الله تعالى على علمهِ في الأزلِ وهو حكمُه عند ظهورهِ، وعلى الثَّاني: أضلَّه بعد أن أعلمَه وبيَّن له فلم يقبلْ.
          (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) ☺ ، ممَّا وصله المؤلِّف في أوائل «النِّكاح» [خ¦5076] (قَالَ لِي النَّبِيُّ صلعم : جَفَّ القَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ) وعند الطَّبرانيِّ من حديثِ ابن عبَّاس: «واعلمْ أنَّ القلمَ قدْ جفَّ بما هوَ كائنٌ»، وفي حديث الحسن بن عليٍّ عند الفِريابيِّ: «رُفِع الكتابُ وجفَّ القلمُ».
          (قَالَ) ولأبي ذرٍّ: ”وقال“ (ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ في تفسير قولهِ تعالى: ({لَهَا سَابِقُونَ}) من قولهِ تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون:61] ممَّا وصله ابنُ أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه، أي: (سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ) أي: يرغبون في الطَّاعات، فيبادرُونها بما سبقَ لهم من السَّعادة بتقديرِ الله، وقال(8) الكِرْمانيُّ: فإن قلت: تفسير ابن عبَّاس يدلُّ على أنَّ السَّعادة(9) سابقة، والآية على أنَّ السَّعادة مسبوقةٌ؟ وأجابَ بأنَّ معنى الآية: أنَّهم سبقوا لأجلِ السَّعادة لا أنَّهم سَبقوا السَّعادة.


[1] في (س): «هذا باب».
[2] «جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللهِ ╡»: وقع في (ع) بعد لفظ (انتهى) الآتي.
[3] في (ص) زيادة: «ذلك»، وكذلك في (د)، إلَّا أنَّه ضرب عليها.
[4] «في»: ليست في (س).
[5] في (ص) و(س): «بمعلومه».
[6] في (ع): «فكذلك».
[7] في (د): «عن الديلمي».
[8] في (س): «قال».
[9] في (ص) و(ع) و(ل): «الآية».