إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا

          6594- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ) الطَّيالسيُّ قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) بن الحجَّاج قال: (أَنْبَأَنِي) بالإفراد، من الإنباء (سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ) الكوفيُّ (قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ) الجُهنيَّ أبا(1) سليمان الكوفيَّ، مخضرمٌ (عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعودٍ ☺ ، أنَّه (قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم وَهْوَ(2) الصَّادِقُ) المخبر بالقول الحقِّ (المَصْدُوقُ) الَّذي صدَقه الله وعدَه، والجملة _كما قال في «شرح المشكاة»_ الأولى أن تكون اعتراضيَّة لا حاليَّة ليعُمَّ الأحوال كلَّها، وأن يكون من عادتهِ ودأبهِ ذلك، فما أحسنَ موقعَه هنا (قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ) في «اليونينية» مضبوطة ”أَن“ بفتح الهمزة وقبلها ”قال“ مخرجة مصحَّحٌ عليها، فالله أعلم هل الضَّبط قبل تخريجِ ”قال“ أم بعدَه؟ كذا رأيتُه في الفرع كأصلهِ.
          وقال أبو البقاء: لا يجوز إلَّا الفتح؛ لأنَّه مفعول «حدَّثنا» فلو كُسِر لكان منقطعًا عن قولهِ: «حَدَّثنا» وجزم النَّوويُّ في «شرح مسلم» بأنَّه(3) بالكسرِ على الحكايةِ، وحجَّة أبي البقاء أنَّ الكسر على خلاف الظَّاهر، ولا يجوزُ العدول عنه إلَّا لمانعٍ، ولو جازَ من غير أن يثبتَ به النَّقل لجازَ في مثل قولهِ تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ}[المؤمنون:35] وقد اتَّفق القرَّاء على أنَّها بالفتحِ، لكن تعقَّبه الخُوَيِّي(4) بأنَّ الرِّواية جاءت بالفتح والكسر فلا معنى للردِّ. قال: ولو لم تجئْ به الرِّواية لَمَا امتنعَ جوازًا على طريق الرِّواية بالمعنى. وأجاب عن الآيةِ بأنَّ الوعد مضمونُ الجملةِ وليس بخصوصِ لفظها، فلذلك اتَّفقوا على الفتحِ، وأمَّا هنا فالتَّحديث يجوز أن يكون بلفظه وبمعناه. انتهى. من «فتح الباري». وهذا مبنيٌّ على حذف «قال» وعلى تقدير حذفها في الرِّواية فهي مقدَّرة؛ إذ لا يتمُّ المعنى بدونها، ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”إنَّ خَلْق أحدِكُم“ أي: ما يخلق منه أحدكم (يُجْمَعُ) بضم أوَّله‼ وسكون الجيم وفتح الميم، أي: يحرز (فِي بَطْنِ أُمِّهِ). قال في «النهاية»: ويجوزُ أن يريدَ بالجمعِ مُكْث النُّطفة في الرَّحم، أي: تمكثُ النُّطفة في الرَّحم (أَرْبَعِينَ يَوْمًا) تتخمَّر فيها حتَّى تتهيَّأ للخلق.
          وقال القرطبيُّ أبو العباس في «المُفهم»(5): المراد: أنَّ المنيَّ يقعُ في الرَّحم حين انزعاجهِ بالقوَّة الشَّهوانيَّة الدَّافعة مبثوثًا متفرِّقًا فيجمعه في محلِّ الولادةِ من الرَّحم. وفي رواية آدم في «التَّوحيد» [خ¦7454] «إنَّ خَلْق أحدِكُم يجمعُ في بطنِ أمِّه أربعين يومًا _أو: أربعين ليلة_ » بالشَّكِّ، وزاد أبو عَوَانة من رواية وهب بن جريرٍ عن شعبة: «نطفة» بين قولهِ: «أحدكم» وبين قولهِ: «أربعين» فبيَّن أنَّ الَّذي يجمعُ هو النُّطفةُ والنُّطفة المنيُّ، فإذا لاقى منيُّ الرَّجل منيَّ المرأة بالجماعِ وأرادَ الله تعالى أن يخلق من ذلك جنينًا هيَّأ أسباب ذلك؛ لأنَّ في رحم المرأةِ قوَّة انبساط عند منيِّ الرَّجل حتى ينتشرَ في جسدها، وقوَّة انقباضٍ بحيث لا يسيلُ من فرجها مع كونهِ منكوسًا ومع كون المنيِّ ثقيلًا بطبعهِ، وفي منيِّ الرَّجل قوَّة الفعل، وفي منيِّ المرأة قوَّة الانفعالِ، فعند الامتزاجِ يصير منيُّ الرَّجل كالأَنْفَحة للَّبنِ. وأخرج ابنُ أبي حاتم في «تفسيره» من رواية الأعمشِ، عن خيثمةَ / بن عبد الرَّحمن، عن ابنِ مسعود: أنَّ النُّطفة إذا وقعتْ في الرَّحم فأراد الله أن يخلق منها بشرًا طارتْ في جسد المرأةِ تحت كلِّ ظُفْر وشعرٍ، ثمَّ تمكثُ أربعين يومًا، ثمَّ تنزل دمًا في الرَّحم. قال في «شرح المشكاة»: والصَّحابة أعلمُ النَّاس بتفسيرِ ما سمعُوه وأحقُّهم بتأويلهِ بالصِّدق وأكثرهم احتياطًا، فليس لمن بعدَهم أن يردَّ عليهم. انتهى.
          وفيه أنَّ ابتداءَ جمعهِ من ابتداءِ الأربعين، وعند أبي عَوَانة: اثنتان وأربعون، وعند الفِرْيابيِّ من طريقِ محمَّد بن مسلمٍ الطائفيِّ، عن عَمرو بن الحارث: خمسة وأربعين ليلة (ثُمَّ) يكون (عَلَقَةً) دمًا غليظًا جامدًا تحوَّل من النُّطفة البيضاء إلى العلقةِ الحمراء، وسمِّي بذلك للرُّطوبة الَّتي فيه وتعلُّقه بما(6) مرَّ به (مِثْلَ ذَلِكَ) الزَّمان وهو الأربعون (ثُمَّ يَكُونُ) يصيرُ (مُضْغَةً) بضم الميم وسكون المعجمة، قطعة لحم قدرَ ما يمضغُ (مِثْلَ ذَلِكَ) الزَّمان وهو أربعون (ثُمَّ) في الطَّور الرَّابع حين يتكاملُ بنيانهُ وتتشكَّلُ(7) أعضاؤه (يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا) موكَّلًا بالرَّحم، وعند الفِريابيِّ من رواية أبي الزُّبير: «أتى مَلَكُ الأرحامِ» ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”يُبعث“ بضم أوَّله مبنيًّا للمفعول ”إليه ملك“ لتصويرهِ وتخليقه وكتابة ما يتعلَّق به فينفخ فيه الرُّوح إثر ذلك(8)، وفي حديث عليٍّ عند ابن أبي حاتم: «إذا تمَّت النُّطفة أربعة أشهرٍ بعث الله إليها ملكًا فينفخُ فيها الرُّوح». وإسناد النَّفخ إلى المَلَك مجازٌ عقليٌّ؛ لأنَّ ذلك من أفعالِ الله كالخلقِ (فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ) بالتَّذكير، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”بأربعة“ والمعدود إذا أُبهمَ جاز تذكيرُهُ وتأنيثُهُ، أي: يؤمر بكتابة أربعة أشياء من أحوالِ الجنين (بِرِزْقِهِ) أي: غذائه حلالًا أو حرامًا، قليلًا أو كثيرًا، وكلُّ ما ساقَه الله تعالى‼ إليه فيتناولُ العلمَ ونحوه (وَأَجَلِهِ) طويل أو قصير (وَشَقِيٌّ) باعتبار ما يختم له (أَوْ سَعِيدٌ(9)) كذلك، وكلٌّ من اللَّفظين مرفوعٌ مصحَّحٌ عليه بالفرع كأصله، خبر مبتدأ محذوفٍ ويجوزُ الجرُّ، وتعقَّب العينيُّ الرَّفع فقال: ليس كذلك؛ لأنَّه معطوف على المجرورِ السَّابق. وقال في «شرح المشكاة»: كان حقُّ الظَّاهر أن يقول: تكتب سعادته وشقاوته، فعدلَ عن ذلك؛ لأنَّ الكلام مسوقٌ(10) إليهما والتَّفصيل واردٌ عليهما.
          (فَوَاللهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ _أَوِ: الرَّجُلَ_) بالشَّكِّ من الرَّاوي (يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ) من المعاصي، والباء في «بعمل» زائدةٌ للتَّأكيد، أي: يعملِ عمل أهلِ النَّار، أو ضمَّن مَعنى «يعمل» معنى يتلبَّس، أي: يتلبَّس بعملِ(11) أهل النَّار (حَتَّى مَا يَكُونَُ) نصب بـ «حتَّى» و«ما» نافية غير مانعة لها من العملِ، وجوَّز بعضُهم كون «حتَّى» ابتدائية فيكون رفعٌ وهو الَّذي في «اليونينيَّة» (بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ _أَوْ: ذِرَاعٍ(12)_) برفع «غير» (فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ) ما تضمَّنه (الكِتَابُ) بفاء التَّعقيب المقتضيةِ لعدمِ المهلةِ، وضمَّن «يسبقُ» معنى يغلبُ، و«عليه» في موضعِ نصبٍ على الحالِ، أي: يسبق المكتوب واقعًا عليه (فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا) والمعنى: أنَّه يتعارض عمله في اقتضاء الشَّقاوة والمكتوب في اقتضاء السَّعادة، فيتحقَّق مُقتضى المكتوب فعبَّر عن ذلك بالسَّبق؛ لأنَّ السَّابق يحصلُ مُراده دون المسبوق(13) (وَإِنَّ الرَّجُلَ) ولم يقل: «إن(14) أحدكم أو الرَّجل» على الشَّكِّ كما سبق (لَيَعْمَلُ) بلام التَّأكيد (بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ) من الطَّاعات (حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا) وبين(15) الجَنة (غَيْرُ ذِرَاعٍ) برفع «غيرُ» (أَوْ ذِرَاعَيْنِ) ولأبي ذرٍّ: ”أو باع“ بدل: «ذراعين» والباع قدر مَدِّ اليدين (فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ) أي: مكتوب الله، وهو القضاءُ الأزليُّ (فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، قَالَ) ولأبوي ذرٍّ والوقتِ: ”وقال“ (آدَمُ) بن أبي إياسٍ، ممَّا وصله في «التَّوحيد» [خ¦7454] (إِلَّا ذِرَاعٌ) فلم يشكَّ، ولأبي ذرٍّ عن المُستملي والحَمُّويي: ”إلَّا باع“ بدل: «ذراع»، والتَّعبير بالذِّراع تمثيلٌ بقرب حاله من الموتِ، فيُحال بينه وبين المقصودِ بمقدار ذراعٍ أو باعٍ من المسافةِ، وضابطُ ذلك الحسِّيِّ الغَرْغَرةُ الَّتي جعلتْ علامةً لعدمِ قبول التَّوبة، وقد ذكر في هذا الحديث أهل الخير صرفًا إلى الموت(16) لا الذين خلَّطوا وماتوا على الإسلام، فلم يقصدْ تعميم أحوال المكلَّفين بل أوردَه لبيان أنَّ الاعتبارَ بالخاتمةِ، ختمَ الله أعمالَنا بالصَّالحات بمنِّه وكرمهِ.
          وفي مسلمٍ من حديث أبي هريرة: «وإنَّ الرَّجل ليعمل الزَّمان الطَّويل بعمل / أهل النَّار، ثمَّ يختم له بعملِ أهل الجنَّة». وعند أحمد من وجهٍ آخر عن أبي هريرة: «سبعين سنة»، وعنده أيضًا عن عائشة مرفوعًا: «إنَّ الرَّجُلَ ليَعمَلُ بِعَمَلِ أَهلِ الجنَّةِ وَهو مَكتُوبٌ في الكِتَابِ الأوَّلِ من أهلِ النَّارِ، فإذا كَانَ قَبل مَوتِه تَحوَّل فَعَمِل بعملِ أهل(17) النَّار، فمات فدخلَها» الحديثَ، وفيه: أنَّ في تقدير الأعمال ما هو سابقٌ ولاحقٌ‼، فالسَّابق ما في علمِ الله تعالى، واللَّاحق ما يقدَّرُ على الجنينِ في بطن أمِّهِ كما في هذا الحديث، وهذا هو الَّذي يقبل النَّسخ.


[1] في (د): «أبو».
[2] «وهو»: ليست من (ع).
[3] في (د): «أنه».
[4] في (د): «الجوني».
[5] «في المفهم»: ليست في (د).
[6] في (ع) و(ص): «لما».
[7] في (د): «تشكل».
[8] في (س): «كما أمر بذلك».
[9] في (د): «وسعيد».
[10] في (د): «مسوقًا».
[11] في (د): «معنى يتلبس في عمله»، وفي (ص): «معنى يتلبس في عمل».
[12] «أو ذراع»: ليست في (د).
[13] زيد في (د) و(ص) و(ل): «وقوله يكون»، ثمَّ ضرب على «يكون» في (د).
[14] في (س): «وإن».
[15] في (س): «أي».
[16] في (د) زيادة: «وأهل الشر صرفًا إلى الموت». وهي ثابتة في الفتح مصدر نقل المؤلف.
[17] «أهل»: ليست في (ص).