إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن لله ملائكة يطوفون في الطرق

          6408- وبه قال: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) سقط «ابن سعيد» لأبي ذرٍّ، قال: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) بفتح(1) الجيم، ابن عبدِ الحميد (عَنِ الأَعْمَشِ) سليمان (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ ، أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً) زاد الإسماعيليُّ وابن حبَّان ومسلمٌ «فُضْلًا» بسكون الضاد وضم الفاء، جمع: فاضل، كنُزْل ونازل، وقيل: بفتح الفاء وسكون الضاد، أي: زيادةً على(2) الحَفَظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائقِ لا وظيفةَ لهم إلَّا حِلَق الذِّكر، وقيل في ضبطها غير ذلك، وهذه اللَّفظة ليست في «صحيح البخاريِّ» هنا في جميع الرِّوايات، ولمسلم: «سيَّارة فضلًا» (يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ) ولمسلمٍ من رواية سهيل: ”يبتغونَ(3) مجالسَ الذِّكر“ (فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ) ╡ (تَنَادَوْا: هَلُمُّوا) أي: تَعالوا (إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ) بفتح التحتية وضم الحاء المهملة، يطوفونَ ويدورون حولَهم (بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) قال المظهريُّ: الباء للتَّعدية، يعني: يديرون أجنحتَهُم حول الذَّاكرين. وقال الطِّيبيُّ: الظَّاهر أنَّها للاستعانة، كما في قولك: كتبتُ بالقلم؛ لأنَّ حفَّهم الَّذي ينتهي إلى السَّماء إنَّما يستقيمُ بواسطةِ الأجنحة، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”إلى سماء الدُّنيا“ (قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ(4) وَهْوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ) أي: أعلمُ من الملائكةِ بحال الذَّاكرين، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”أعلمُ بهم“، أي: بالذَّاكرين، والجملة حاليَّةٌ. قال في «شرح المشكاة»: والأحسنُ أن تكون معترضةً، أو تتميمًا صيانة عن التَّوهُّم، وفائدةُ السُّؤال مع العِلم بالمسؤول: التَّعريض بالملائكة، وبقولهم في بني آدم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا}[البقرة:30]... إلى آخره، (مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ) ولأبي ذرٍّ: ”قال: تقول“ أي: الملائكةُ: (يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ) يقولون: سبحانَ الله والله أكبر والحمد لله (وَيُمَجِّدُونَكَ) بالجيم، وزاد في رواية سهيلٍ: «ويهلِّلونك» وفي حديث البزَّار عن أنسٍ: «يُعظِّمون آلاءك، ويتلونَ كتابك، ويصلُّون على نبيِّك ويسألونك(5)» (قَالَ: فَيَقُولُ) ╡: (هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا، وَاللهِ مَا رَأَوْكَ. قَالَ: فَيَقُولُ) تعالى: (كَيْفَ؟) ولغير أبي(6) ذرٍّ: ”وكيف“ / (لَوْ رَأَوْنِي قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا) وزاد أبو ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”وتحميدًا“ (وَأَكْثَرَ لَكَ(7) تَسْبِيحًا) وزاد الإسماعيليُّ «وأشدَّ لك ذكرًا» (قَالَ: يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟) ولأبي ذرٍّ: ”فيقول: فما يسألونني“ بزيادة الفاء والنون (قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ. قَالَ: يَقُولُ) تعالى(8): (وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يَقولُ) ولأبي ذرٍّ: ”فيقول“: (فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ) تعالى‼: (فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ. قَالَ: يَقُولُ) تعالى: (وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللهِ مَا) ولأبي ذرٍّ: ”لا والله يا ربّ ما“ (رَأَوْهَا. قَالَ: يَقُولُ) تعالى: (فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا(9) كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً) وهذا كلُّه فيه تقريعٌ للملائكة، وتنبيهٌ على أنَّ تسبيحَ بني آدم وتقديسَهم أعلى وأشرفُ من تقديسهِم؛ لحصول هذا في عالمِ الغيب مع وجودِ الموانع والصَّوارف، وحصول ذلك للملائكةِ في عالم الشَّهادة من غيرِ صارفٍ (قَالَ: فَيَقُولُ) تعالى: (فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ) زاد في رواية سهيل: «وأعطيتُهم ما سألوا» (قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ المَلَائِكَةِ: فِيهِمْ(10) فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ) وفي رواية سهيل: «قال: يقولون: ربِّ(11) فيهم فلانٌ عبدٌ خطَّاء إنَّما مرَّ فجلسَ معهم» وزاد: «قال: وله قد غفرت».
          قال في «شرح المشكاة»: قوله: «إنما مرَّ» مشكل لأنَّ «إنَّما» توجبُ حصرَ ما بعده(12) في آخرِ الكلام، كما تقول: إنَّما يجيء زيد، أو إنَّما زيدٌ يجيءُ، ولم يصرّح هنا غير كلمةٍ واحدةٍ، وكذلك قوله: «وله قد غفرتُ» يقتضي تقديمُ الظَّرف على عاملهِ اختصاصَ الغفران بالمارِّ دون غيره، وليس كذلك. وأجاب: بأنَّ في التَّركيب الأوَّل تقديمًا(13) وتأخيرًا، أي: إنَّما فلانٌ مرَّ، أي: ما فعل فلانٌ إلَّا المرور والجلوسَ عَقِبَهُ(14) يعني: ما ذكر الله تعالى، ثمَّ قال: فإن قلتَ: لمَ لم يجعلِ الضَّمير في «مرَّ» بارزًا؛ ليكون الحصر فيه؟ وأجاب: بأنَّه لو أريدَ هذا لوجبَ الإبراز، ولئن سلم لأدَّى إلى خلافِ المقصود، وأنَّ المرور منحصرٌ في فلانٍ لا(15) يتعدَّى إلى غيره وهو خلف، وفي التَّركيب الثَّاني الواو للعطفِ وهو يقتضِي معطوفًا عليه، أي: قد غفرتُ لهم وله، ثمَّ أتبعَ «غفرتُ» تأكيدًا وتقريرًا.
          (قَالَ) تعالى: (هُمُ الجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ) وسقط لفظ «بهم» لأبي ذرٍّ، يعني: أنَّ مجالستهم(16) مؤثِّرة في الجليس، ولمسلم: «همُ القومُ لا يشقى بهم جليسهم» وتعريفُ الخبر يدلُّ على الكمالِ، أي: هم القوم كلُّ القوم الكاملون فيما هم فيه من السَّعادة، فيكون قوله: «لا يشقى بهم جليسهم» استئنافًا(17) لبيان الموجب، وفي هذه العبارةِ مبالغة في نفي الشَّقاء عن جليس الذَّاكرين، فلو قيل: يسعدُ(18) بهم جليسُهم لكان ذلك في غايةِ الفضل، لكن التَّصريح بنفي الشَّقاء أبلغُ في حصولِ المقصود. (رَوَاهُ) أي: الحديث المذكور (شُعْبَةُ) بن الحجَّاج (عَنِ الأَعْمَشِ) سليمان بن مهران بسندِهِ المذكور (وَلَمْ يَرْفَعْهُ) إلى النَّبيِّ صلعم ، هكذا(19) وصله أحمدُ (وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ) بضم السين وفتح الهاء (عَنْ أَبِيهِ) أبي صالح السَّمَّان (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) وصله مسلمٌ وأحمدُ.


[1] في (ع): «بضم».
[2] في (ص): «عن».
[3] في (ج) و(ل): «يتَّبعون».
[4] في (ب) و(س): «╡».
[5] «ويسألونك»: ليست في (ب).
[6] في (د): «ولأبي».
[7] «لك»: ليست في (ص).
[8] في (د) زيادة: «ولأبي ذر فيقول تعالى».
[9] «قال: يقولون: لو رأوها»: ليست في (ص).
[10] في (ع): «منهم».
[11] في (ص): «يا رب».
[12] في (ب) و(س): «ما بعدها».
[13] في (ج) و(ل): «تقديم».
[14] في (ص): «بعده».
[15] في (ص) و(ع): «ولا».
[16] في (ص): «مجالسهم».
[17] في (د): «استئناف».
[18] في (ص): «ليسعد»، وفي (ع): «لسعد».
[19] في (ص): «كذا».