إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: اللهم اجعل في قلبي نورًا

          6316- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المدينيُّ قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ) بفتح الميم، عبد الرَّحمن (عَنْ سُفْيَانَ) الثَّوريِّ (عَنْ سَلَمَةَ) بن كُهيلٍ (عَنْ كُرَيْبٍ) مولى ابن عبَّاسٍ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ ) أنَّه (قَالَ: بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ) بنت الحارث الهلاليَّة أمّ المؤمنين خالة ابن عبَّاسٍ ♥ (فَقَامَ النَّبِيُّ صلعم فَأَتَى حَاجَتَهُ، غَسَلَ) ولأبي ذرٍّ: ”فغسل“ (وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَأَتَى القِرْبَةَ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا) بكسر(1) الشين المعجمة وبعد النون ألف فقاف، رِبَاطها (ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ) بضم الواو، ولأبي ذرٍّ: بفتحها، من غير تقتيرٍ ولا تبذيرٍ، كما فسَّره بقوله: (لَمْ يُكْثِرْ) بأن اكتفى بأقلَّ من الثَّلاث في الغسل (وَقَدْ أَبْلَغَ) أوصلَ الماء إلى ما يجبُ إيصالهُ(2) إليه (فَصَلَّى، فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ) بالمثناة التَّحتية السَّاكنة، وأصله: تمطَّط، أي: تمدَّد، وقيل: هو من المَطَا، وهو الظَّهر؛ لأنَّ المتمطِّي يمدُّ مَطَاه، أي: ظهرهُ (كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى) صلعم (أَنِّي كُنْتُ أَنْقِيْه) بهمزة مفتوحة فنون ساكنة / فقاف مكسورة فتحتية ساكنة، كذا في الفرع مصلَّحةً على كشطٍ، ولأبي ذرٍّ في هامشه كأصله(3): ”أَرْقبه“‼ براء ساكنة بعد همزة مفتوحة وبعد القاف موحدة، ولم يرقم عليه في «اليونينيَّة» وفي(4) «الفتح»: ”أتَّقِيه“ بمثنَّاة فوقيَّة مشددة وقاف مكسورة، كذا(5) للنَّسفيِّ(6) وطائفة. وقال الخطَّابيُّ: أي: أرتقبه. وفي روايةٍ: ”أتنَقَّبه“ بتخفيف النون وتشديد القاف ثمَّ موحدة، من التَّنقيب، وهو التَّفتيش، وفي رواية القابسيِّ: ”أبغيه“ بموحدة ساكنة بعدها غين معجمة مكسورة ثمَّ تحتية، أي: أطلبه. قال: والأكثر: ”أرقبُه“ وهي أوجه (فَتَوَضَّأْتُ، فَقَامَ) صلعم (يُصَلِّي، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ(7)، فَتَتَامَّتْ) بمثنَّاتين تفاعل، وهو لا يجيءُ إلَّا لازمًا، أي: تكاملت (صَلَاتُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ وَكَانَ) ╕ (إِذَا نَامَ نَفَخَ فَآذَنَهُ) بالمد، أي: أعلمه (بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) لأنَّه تنام عينه ولا ينام قلبه ليعي الوحي إذا أوحي إليه في منامه (وَكَانَ يَقُولُ فِي) جملةِ (دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا) يكشف لي عن المعلومات (وَفِي بَصَرِي نُورًا) يكشفُ المبصرات (وَفِي سَمْعِي نُورًا) مَظهرًا للمسموعات (وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي) ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”وعن شمالي“ (نُورًا) وخصَّ القلب والبصر والسَّمع بـ «في» الظَّرفيَّة؛ لأنَّ القلب مقرُّ الفكرة(8) في آلاء الله، والبصر مَسارح آيات الله المصونة، والأسماع مراسي أنوار وحي الله ومحطُّ آياته المنزلة، وخصَّ اليمين والشِّمال بـ «عن» إيذانًا بتجاوز الأنوار عن قلبهِ وسمعهِ وبصرهِ إلى مَن عن يمينهِ وشمالهِ من أتباعهِ، قاله الطِّيبيُّ (وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا) ثمَّ أجمل ما فصَّله بقوله: (وَاجْعَلْ لِي نُورًا) فذلكَةً لذلك وتوكيدًا له، وقد سأل صلعم النُّور في أعضائهِ وجهاته ليزدادَ في أفعاله وتصرُّفاته ومتقلَّباته نورًا على نورٍ، فهو دعاءٌ بدوام ذلك، فإنَّه كان حاصلًا له لا محالة، أو هو تعليمٌ لأمَّته.
          وقال الشَّيخ أكمل الدِّين: أمَّا النُّور الَّذي عن يمينه فهو المؤيِّد له والمعين على ما يطلبه من النُّور الَّذي بين يديه، والَّذي عن يساره نور الوقاية، والَّذي خلفه فهو النُّور الِّذي يسعى بين يدي مَن يقتدي به ويتبعه، فهو لهم من بين أيدِيهم وهو له صلعم من خلفهِ فيتَّبعونَه على بصيرةٍ، كما أنَّ المتَّبع على بصيرةٍ، قال الله تعالى: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[يوسف:108] وأمَّا(9) النُّور الَّذي فوقه فهو تنزُّل نورٍ إلهيٍّ قدسيٍّ بعلمٍ غريبٍ لم يتقدَّمه خبرٌ، ولا يعطيه نظرٌ، وهو الَّذي يعطي من العلم بالله ما تردُّه(10) الأدلَّة العقليَّة إذا لم يكن لها إيمانٌ، فإن كان لها إيمانٌ نُوراني قبلته بتأويلٍ للجمع بين الأمرين وقوله: «واجعل لي نورًا» يجوز أنَّه صلعم أراد نورًا عظيمًا جامعًا للأنوار كلِّها يعني الَّتي ذكرها هنا والَّتي لم يذكرها، كأنوار السَّماء الإلهيَّة‼، وأنوار الأرواح وغير ذلك، وتحقيقُ هذا المقام يقتضي بسطًا يخرج عن غرضِ الاختصار.
          (قَالَ كُرَيْبٌ) مولى ابن عبَّاسٍ بالسَّند المذكور: (وَسَبْعٌ) من الكلمات أو الأنوار (فِي التَّابُوتِ) الصَّدر الَّذي هو(11) وعاءُ القلبِ تشبيهًا بالتَّابوت الَّذي يحرزُ فيه المتاع، أو التَّابوت الَّذي كان لبني إسرائيل فيه السَّكينة، أو الصُّندوق، أي: سبعٌ مكتوبةٌ عند كُريبٍ لم يحفظها ذلك الوقت، أو المراد بالتَّابوت حينئذٍ أنَّ السَّبعة بجسدِ الإنسان لا بالمعاني كالجهات السِّتِّ. قال كُريبٌ أو سلمة بن كُهيلٍ: (فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ وَلَدِ العَبَّاسِ) هو عليُّ بن عبد الله بن العبَّاس ♥ (فَحَدَّثَنِي بِهِنَّ، فَذَكَرَ عَصَبِي) بفتح العين والصاد المهملتين ثمَّ موحدة، أطناب المفاصلِ (وَلَحْمِي وَدَمِي وَشَعَرِي وَبَشَرِي) ظاهرُ جلده(12) الشَّريف (وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ) أي: العظم والمخّ، كما قاله السَّفاقسيُّ والدَّاوديُّ(13). وقال في «الكواكب»: لعلَّهما الشَّحم والعظم. وفي مسلمٍ من طريق عُقيلٍ، عن سلمةَ بن كُهيلٍ: فدعا رسولُ الله صلعم بتسع عشرة كلمة حدَّثنيها كريبٌ فحفظتُ منها عشرة ونسيتُ ما بقي، فذكر ما في رواية الثَّوريِّ / ، وزاد: «في لساني نورًا» بعد قوله: «في قلبي»، وقال في آخره: «واجعل لي في نفسي نورًا، وأعظم لي نورًا».
          وعند التِّرمذيِّ _وقال: غريبٌ_ من طريق داود بن عليِّ بن عبد الله بنِ عبَّاسٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه: سمعتُ نبيَّ الله صلعم ليلةً حين فرغَ من صلاتهِ يقول: «اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ رحمةً مِن عندِكَ» الحديث. وفيه: «اللَّهُمَّ اجعَل لِي نُورًا فِي قبرِي» ثمَّ ذكر القلب، ثمَّ الجهاتِ السِّتَّ والسَّمع والبصر، ثمَّ الشَّعر والبشر، ثمَّ اللَّحم والدَّم، ثمَّ العظام، ثمَّ قال في آخره: «اللَّهُمَّ أعظِم لِي نُورًا وأعطِنِي نُورًا واجعَل لِي نُورًا». وعند ابن أبي عاصمٍ في «كتاب الدُّعاء» من طريق عبدِ الحميد بن عبد الرَّحمن، عن كُريبٍ في آخرِ الحديث: «وَهَبْ لِي نُورًا على نُورٍ(14)».
          والحديثُ أخرجهُ مسلمٌ في «الصَّلاة» وفي «الطَّهارة»، وأبو داود في «الأدب»، والنَّسائيُّ في «الصَّلاة»، وابن ماجه في «الطَّهارة».


[1] في (ع): «بفتح».
[2] في (ص): «الإيصال».
[3] «كأصله»: ليست في (د) و(ع).
[4] في (ع): «وقال في».
[5] في (د) و(ع): «وكذا».
[6] في (ص) و(ل): «للنَّسائيِّ».
[7] «عن يمينه»: ليست في (ع).
[8] في (د) و(ص) و(ع) و(ل): «الفكر».
[9] في (د): «فأما».
[10] في (ع): «تزده».
[11] في (ع): «هي».
[12] في (د) و(ع) وهامش (ل) من نسخة: «جسده».
[13] في (د): «والدراوردي».
[14] قوله: «على نور»: ليس في (د).