إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب لا يتناجى اثنان دون الثالث

          ░45▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين يذكرُ فيه: (لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ) إلَّا بإذنه، وسقط «باب» لأبي ذرٍّ (وَقَوْلُهُ(1) تَعَالَى) ولأبي ذرٍّ: ”وقال ╡“: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}) بألسنتهم وهو خطابٌ للمنافقين، والظَّاهر أنَّه خطابٌ للمؤمنين ({إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}) أي: إذا تناجيتم فلا تشبَّهوا باليهود والمنافقين في تناجيهم بالشَّرِّ، وهو من التَّجوُّز(2) بلفظ المراد عن الإرادة المعنى: إذا(3) أردتُم التَّناجي، ومنه: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[آل عمران:47] أي: إذا أراد قضاءَ أمرٍ، ومنه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}[المائدة:42] معناه: وإن أردتَ الحُكم فاحكمْ بينهم بالقسط، وفيه مجازٌ من وجهين: أحدُهما: التَّعبير بالحكم عن الإرادة، والثَّاني: التَّعبير بالماضي عن المستقبلِ ({وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ}) بأداء الفرائضِ والطَّاعات ({وَالتَّقْوَى} إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[المجادلة:9_10]) أي: يكِلون أمرهم إلى الله، ويستعيذونَ به من الشَّيطان، وسقط لأبي ذرٍّ قوله: «{بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}» إلى «{فَلْيَتَوَكَّلِ}».
          (وَقَوْلُهُ) تعالى(4): ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ}) أي: إذا أردتُم مناجاته ({فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}) أي: قبلَ نجواكم، وهي(5) استعارةٌ ممَّن له يدان، كقول عمر ☺ : من أفضل ما أوتيت العرب الشِّعر يقدِّمه الرَّجل أمامَ حاجته، فيستمطرُ به الكريم، ويستنزلُ به اللَّئيم(6) قبل حاجتهِ ({ذَلِكَ}) التَّقديم ({خَيْرٌ لَّكُمْ}) في دِينكم ({وَأَطْهَرُ}) لأنَّ الصَّدقة طهرةٌ(7) ({فَإِن لَّمْ تَجِدُوا}) ما تتصدَّقون به ({فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}) في ترخيصِ المناجاة من غير صدقةٍ، وقد نسخ وجوب ذلك عنهم، وقيل: إنَّه لم يعمل بها‼ قبل نسخها إلَّا علي بن أبي طالبٍ ☺ . وقال مَعمر: عن قتادة: ما كانت إلَّا ساعةً من نهار، وعن ابن عبَّاسٍ: لَمَّا أكثر المسلمون المسائل على رسول الله صلعم حتَّى(8) شقُّوا عليه، فأراد الله أن يُخفِّف عن(9) نبيِّه فقال لهم: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}[المجادلة:12] فضنَّ كثيرٌ من النَّاس، وكفُّوا عن المساءلة، فأنزل الله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[المجادلة:13] فوسَّع الله عليهم ولم يضيِّق (إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المجادلة:12_13]) ولأبي ذرٍّ: ”{فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ}“ وأشار بالآيتين الأوَّليتين إلى أنَّ التَّناجِي الجائز مقيَّدٌ بأن لا يكونَ في الإثمِ والعُدوان.


[1] في (ص): «قول الله».
[2] في (د): «من النحو».
[3] في (د): «إن».
[4] في (ص) زيادة: «ولأبي ذرٍّ وقال الله ╡».
[5] في (ص) و(د): «وهو».
[6] في (د) زيادة: «يريد»، كذا في تفسير النسفي.
[7] في (ص): «مطهرة».
[8] في (د): «حيث».
[9] في (ص) و(ل): «على».