إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب: {إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا}

          ░32▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين يذكرُ فيه قوله تعالى: ({إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ}) توسَّعوا فيه. وقرأ عاصمٌ: {فِي الْمَجَالِسِ} بالجمع اعتبارًا بأنَّ لكلِّ واحدٍ مجلسًا، والمراد مجلس رسول الله صلعم . وأخرج ابن أبي حاتمٍ عن مقاتل بن حيَّان، قال: نزلت يوم جمعةٍ، وكان رسول الله صلعم يومئذٍ في الصُّفَّة، وفي المكان ضِيقٌ، وكان يُكْرِم أهل بدرٍ من المهاجرين والأنصار، فجاء أناسٌ من أهل بدرٍ وقد سبقوا إلى المجالسِ، فقاموا حيالَ رسول الله صلعم على أرجلِهم ينتظرون أن يوسَّع لهم، فلم يُفْسَح لهم، فشقَّ ذلك على النَّبيِّ صلعم ، فقال لمن حوله من غير أهل بدرٍ: «قُمْ يا فلانُ، وأنتَ يَا فلانُ» وأجلسَهُم في أماكِنِهِم فشقَّ ذلك على مَن أُقيم من مجلسه، وعرف النَّبيُّ صلعم الكراهةَ في وجوهِهم وتكلَّم في ذلك المنافقون، فبلغنا أنَّ رسول الله صلعم قال: «رَحِمَ اللهُ رجلًا يفسَحُ لأخِيهِ» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعًا فيفسحُ(1) القوم لإخوانهم، ونزلتْ هذه الآية يوم الجمعة. وعن ابن عبَّاسٍ: هي مجالسُ القتال إذا اصطفُّوا للحربِ. قال الحسن: كانوا يتشاحون على الصَّفِّ الأوَّل(2)، فلا يوسِّع بعضُهم لبعضٍ رغبةً في الشَّهادة فنزلتْ، والظَّاهر أنَّ الحكمَ يطَّرد في مجالسِ الطَّاعات، وإن كان السَّبب خاصًّا ({فَافْسَحُوا}) فوسِّعوا ({يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ}) يوسِّع الله عليكم في الدُّنيا والآخرة؛ لأنَّ الجزاء من جنس العمل، وهو يُطلق(3) في كلِّ ما ينبغي للنَّاس الفُسحة فيه من المكان والرِّزق والقبر وغير ذلك ({وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا}) انهضوا / للتَّوسعة على المقبلين، أو انهضُوا عن مجلسِ رسول الله صلعم إذا أُمرتم بالنُّهوض عنه(4)، أو انهضوا إلى الصَّلاةِ والجهادِ وأعمالِ الخير ({فَانشُزُوا}[المجادلة:11]) فانهضوا في المجلس للتَّفسُّح؛ لأنَّ مزيد التَّوسعة على الواردين يقعُ إلى فوق فيتَّسع الموضع أُمروا أوَّلًا بالتَّفسُّح، ثمَّ ثانيًا بامتثالِ الأمر فيه (الآيَةَ). وبقيَّتها: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ} أي: بامتثالِ أوامرهِ وأوامرِ رسوله {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي: والعالمين منهم خاصَّةً {دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
          قال صاحب «الانتصاف(5)»: وقع في الجزاء رفع الدَّرجات مناسبة للعمل لأنَّ المأمورَ به تفسيح(6) المجالس؛ لئلَّا يتنافسوا في القربِ من المكان المرتفع بحلول الرَّسول فيه، فالمفسِّح حابسٌ لنفسهِ عمَّا يتنافس فيه من الرِّفعة تواضعًا، فجوزي بالرِّفعة لقوله: «مَن تواضَعَ لله رفعَهُ اللهُ»، ثمَّ لمَّا علم أنَّ أهل العلمِ يَستوجبون رفعَ المجلس خصَّهم بالذِّكر؛ ليسهل عليهم‼ ترك ما لهم من الرِّفعة في المجلس تواضعًا لله، يريد أنَّه من باب «ملائكته وجبريل» [خ¦98] وكان ابنُ مسعودٍ إذا قرأ هذه الآية قال: يا أيُّها النَّاس افهموا هذه الآية لترغِّبكم في العلم، وسقط من قوله: «{يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ}...» إلى آخرها لأبي ذرٍّ.


[1] في (ص): «فيتفسح»، كذا في ابن كثير.
[2] «الأول»: ليست في (د).
[3] في (ع) و(د): «مطلق».
[4] في (ع) و(د): «منه».
[5] في (د): «الإنصاف».
[6] في (د): «تفسح».