إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع

          5730- وبه قالَ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ الحافظُ قال: (أَخْبَرَنَا(1) مَالِكٌ) الإمامُ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّد بن مسلمٍ الزُّهريِّ (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ) أي: ابن(2) ربيعة الأصغر، ولد في زمنه صلعم سنة ستٍّ من الهجرةِ، وحفظ عنه وهو صغيرٌ، وتوفِّي صلعم وهو ابن أربع سنينَ (أَنَّ عُمَرَ) ☺ (خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ) لينظر في أحوال رعيَّته الَّذين بها (فَلَمَّا كَانَ بِسَرْغَ) بفتح السين المهملة وسكون الراء بعدها معجمة، بينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلةٍ (بَلَغَهُ أَنَّ الوَبَاءَ) أي: الطَّاعون (قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ) فعزم على الرُّجوعِ بعد أن اجتهدَ ووافقهُ بعض الصَّحابة ممَّن معه(3) على ذلك (فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ) وكان متغيِّبًا في بعض حاجته (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم ‼ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ) أي: بالطَّاعون، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”أنَّه“ (بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ) لأنَّه تهوُّرٌ وإقدامٌ على خطرٍ (وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) فإنَّه فرارٌ من القدرِ، ولئلا تضيع المرضى لعدمِ من يتعهَّدهم والموتى ممَّن يجهِّزهم، فالأوَّل تأديبٌ وتعليم والآخرُ تفويضٌ وتسليمٌ، وفي الحديث جوازُ رجوعِ من أراد دخول بلدٍ(4) فعَلِمَ أنَّ فيها الطَّاعونَ، وأنَّ ذلك ليس من الطِّيرَةِ، وإنَّما هو من منع الإلقاءِ إلى التَّهلكة، أو سَدٌّ للذَّريعة لئلَّا يعتقد من يدخلُ إلى الأرضِ الَّتي وقع بها أن لو دَخلها وطعن العَدوى المنهيَّ عنها، وقد زُعِمَ أنَّ النَّهي عن ذلك إنَّما هو للتَّنزيه وأنَّه يجوز الإقدامُ عليه لمن قويَ توكُّله وصحَّ يقينُه، ونقل القاضي / عياض وغيرهُ: جواز الخروجِ من الأرضِ الَّتي بها الطَّاعون عن(5) جماعةٍ من الصَّحابة منهم: أبو موسى الأشعريُّ، والمغيرةُ بن شعبةَ، ومن التَّابعين: الأسودُ بن هلالٍ، ومسروقٌ. ومنهم من قال: النَّهيُ(6) للتَّنزيهِ فيكرهُ ولا يحرمُ، وخالفهم جماعةٌ فقالوا: يحرم الخروجُ منها لظاهرِ النَّهي وهو الرَّاجحُ(7) عند الشَّافعيَّة وغيرهم لثبوتِ الوعيدِ على ذلك، فعند أحمدَ من حديث عائشة مرفوعًا بإسنادٍ حسنٍ: قلتُ: يا رسول الله، فما الطَّاعونُ؟ قال: «غُدَّةٌ كغُدَّةِ البعيرِ، المقيمُ فيها كالشَّهيدِ، والفَارُّ منها كالفَارِّ من الزَّحْفِ» وفصَّل بعضُهم في هذه المسألةِ تفصيلًا جيِّدًا، فقال: من خرجَ لقصدِ الفرارِ مَحْضًا فهذا يتناوله النَّهي لا محالةَ، ومن خرج لحاجةٍ متمحِّضةٍ لا لقصد الفرارِ أصلًا، ويُتصوَّرُ ذلك فيمن تهيَّأَ للرَّحيل من بلدٍ كان بها إلى بلدِ إقامتهِ مثلًا، ولم يكن الطَّاعون وقع فاتَّفقَ وقوعهُ في أثناء تجهيزِه، فهذا لم يقصدِ الفرارَ أصلًا، فلا يدخُل في النَّهي، والثَّالثُ من عرضتْ له حاجةٌ فأراد الخروجَ وانضمَّ لذلك أنَّه قصد الرَّاحةَ من الإقامةِ بالبلد الَّذي به(8) الطَّاعون، فهذا محلُّ النِّزاعِ.
          وهذا الحديثُ أخرجه مسلمٌ.


[1] في (د): «حدثنا».
[2] في (م) و(د): «أي أبو».
[3] في (د): «ممن كان معه»، وفي (ص): «تبعه».
[4] في (د): «بلدة»، وكذا في «الفتح» وهو المناسب لقوله: «فيها».
[5] في (ب): «من».
[6] «النهي»: ليست في (س).
[7] في (ب) و(س): «الأرجح».
[8] في (د): «التي بها».