إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب السحر

          ░47▒ (بابُ السِّحْرِ) بكسر السين وسكون الحاء المهملتين، وهو أمرٌ خارقٌ للعادة صادرٌ عن نفس ٍشريرةٍ لا تتعذر معارضتُهُ، واختُلف هل له حقيقةٌ أم لَا؟ والصَّحيحُ وهو الَّذي عليه الجمهورُ أنَّ له حقيقة، وعلى هذا فهل له تأثيرٌ فقط بحيث يُغيِّر المزاج فيكونُ نوعًا من الأمراضِ، أو(1) ينتهي إلى الإحالةِ(2) بحيثُ يصيِّرُ الجمادَ حيوانًا مثلًا وعكسَه، فالَّذي عليه الجمهور هو الأوَّل، وفرَّقوا بين المعجزة والكَرَامة والسِّحر؛ بأنَّ(3) السِّحر يكونُ بمعاناةِ أقوالٍ وأفعالٍ حتَّى يتمَّ للسَّاحر‼ ما يريدُ، والكرامةُ لا تحتاجُ إلى ذلك بل إنَّما تقعُ غالبًا اتِّفاقًا، وأمَّا المعجزةُ فتمتازُ عن الكرامةِ بالتَّحدِّي.
          وقال القرطبيُّ: الحقُّ أنَّ لبعض أصناف السِّحر تأثيرًا في القلوبِ كالحبِّ والبغضِ، وإلقاءِ الخير والشَّرِّ، و(4)في الأبدانِ بالألم(5) والسَّقم، وإنَّما المنكرُ أنَّ الجماد ينقلبُ حيوانًا أو عكسه بسحر السَّاحر.
          (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفًا على المجرور السَّابق: ({وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ}) باستعمالِ السِّحر وتدوينه ({يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}) أي: كفروا معلِّمين النَّاس السِّحر قاصدين به إغواءَهُم وإضلالَهم، والواو في {وَلَـكِنَّ} عاطفةُ جملة الاستدراك على ما قبلَها ({وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ}) ما موصولٌ بمعنى الَّذي في موضع نصبٍ عطفًا على {السِّحْرَ} أي: يعلِّمون النَّاس السِّحر والمنزل على الملكَين، أو عطفًا على {مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ} أي: واتَّبعوا ما تتلو الشَّياطين وما أنزلَ على الملكَين، وعلى هذا فما بينهما اعتراضٌ أو ما نفي، والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ المنفيَّة قبلها وهي {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أي: وما أنزل على الملكَين إباحة السِّحر. قال القرطبيُّ: {مَا} نفي والواو للعطف على قولهِ تعالى: {وَمَا كَفَرَ} والتَّقدير: وما أنزلَ على الملكَين ولكنَّ الشَّياطين كفروا يعلِّمون الناس السِّحر ({بِبَابِلَ}) اسم أرضٍ، وهي بابل العراق، وسمِّيت بذلك لتبلبُل الألسُن بها عند سقوطِ صرح نمروذ، وقيل: إنَّ الله تعالى أمر ريحًا تحشرُهُم(6) بهذه الأرضِ، فلم يَدْرِ أحدهُم(7) ما يقولُ الآخرُ، ثمَّ فرَّقهم الرِّيح في البلاد فتكلَّم كلُّ أحدٍ بلغتهِ، وهو متعلِّقٌ بأنزلَ والباء بمعنى في، أي: في بابل، ويجوزُ أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من الملكَين، أو من الضَّمير في أنزل، فيتعلَّق بمحذوفٍ ({هَارُوتَ وَمَارُوتَ}) بدلٌ من {الْمَلَكَيْنِ} وجُرَّا بالفتحةِ لأنَّهما لا ينصرفان للعجمة والعلمية، أو عطف بيان ({وَمَا يُعَلِّمَانِ}) هاروتَ وماروتَ ({مِنْ أَحَدٍ}) الظَّاهر أنَّه الملازم للنَّفي وهمزتُهُ أصلٌ بنفسها، وأجازَ أبو البقاء أن يكون بمعنى واحدٍ، فتكون همزتُه بدلًا من واو ({حَتَّى يَقُولاَ}) حتَّى ينبهاهُ وينصحاهُ يقولا له: ({إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}) أي: ابتلاءٌ واختيارٌ من الله تعالى ليتميَّز(8) المطيع من العاصي، كقولك: فتنتُ الذَّهب بالنَّار إذا عرضتهُ عليها ليتميَّز الخالصُ من المشوب ({فَيَتَعَلَّمُونَ}) عطف على {وَمَا يُعَلِّمَانِ} والضَّمير في {فَيَتَعَلَّمُونَ} لما دلَّ عليه من أحد، أي: فيتعلَّم النَّاس ({مِنْهُمَا}) من الملكَين ({مَا}) أي: الَّذي ({يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}) وهو علمُ السِّحر الَّذي يكون سببًا في التَّفريق بين الزَّوجين بأن يُحدِث اللهُ عندهُ النُّشوز / والخلاف ابتلاء منه، وللسِّحر حقيقةٌ عند أهل السُّنَّة‼، وعند المعتزلة هو تخييلٌ وتمويهٌ، وقيل: التَّفريق إنِّما يكون بأن يعتقدَ أنَّ ذلك السِّحر مؤثِّرٌ في هذا التَّفريق، فيصيرُ كافرًا وإذا صار كافرًا بانَتْ منه زوجتُه ({وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ}) بالسِّحر ({مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ}) {مَا} حجازيَّة فـ {هُم} اسمُها و{بِضَآرِّينَ} خبرُها، والباء زائدةٌ فهو في محلِّ نصب، أو تميميَّة فـ {هُم} مبتدأ و{بِضَآرِّينَ} خبرُه، والباء زائدة أيضًا، فهو في محلِّ رفعٍ، والضَّمير فيه عائدٌ على السَّحرة العائد عليهم ضمير {فَيَتَعَلَّمُونَ} أو على اليهودِ العائد عليهم ضمير {وَاتَّبَعُواْ} أو يعودُ على {الشَّيَاطِينُ} والضَّمير في {بِهِ} يعودُ على {مَا} في قوله: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} وقوله: {إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ} استثناءٌ مفرَّغٌ من(9) الأحوالِ فهو في موضعِ نصبٍ على الحالِ وصاحبه الفاعل المُستكن في {بِضَآرِّينَ} أو المفعول وهو {أَحَدٍ} لجواز مجيء الحال(10) من النَّكرة لاعتمادهَا على النَّفي، أو الهاء في {بِهِ} أي: بالسِّحر، والتَّقدير وما يضرُّون أحدًا بالسِّحر إلَّا ومعهُ علمُ الله، أو مقرونًا بإذنِ الله، ونحو ذلك.
          فإن قلتَ: الإذن حقيقة في الأمر، والله لا يأمرُ بالسِّحر لأنَّه ذمَّهم عليه، ولو أمرهُم به لما جازَ أن يذمَّهم عليه. أجيب بأنَّ المراد منه التَّخلية، يعني إذا سُحر الإنسانُ فإن شاء الله منعهُ منه، وإن شاء خلَّى بينهُ وبين ضرر السِّحر، أو المرادُ إلَّا بعلم اللهِ، ومنه سُمِّي الأذان لأنَّه إعلامٌ بدخول الوقتِ، أو أنَّ الضَّرر الحاصل عند فعل السِّحر إنَّما يحصل بخلقِ الله ({وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ}) في الآخرةِ لأنَّهم يقصدون الشَّرَّ ({وَلَقَدْ عَلِمُواْ}) هؤلاء اليهود ({لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}[البقرة:102]) من نصيبٍ، واستُعير لفظُ الشِّراء لوجهين.
          أحدُهما: أنَّهم لمَّا نبذوا كتابَ الله وراءَ ظُهورهم وأقبلوا على التَّمسُّك بما تتلو الشَّياطين فكأنَّهم اشتَروا السِّحر بكتابِ الله.
          وثانيهما: أنَّ الملكَين إنَّما قصدا بتعليم السِّحر الاحتراز عنه، وهؤلاء أبدلوا ذلك الاحترازَ بالوصولِ إلى منافع الدُّنيا، وسقط في رواية أبي ذرٍّ «{وَمَا يُعَلِّمَانِ}...» إلى آخره، وقال بعد قوله: {وَمَارُوتَ} ”الآيةَ“. وقال في رواية ابنِ عساكرَ: ”إلى قولهِ: {مِنْ خَلاَقٍ}“ واختُلف في المراد بالآية فقيل: إنَّ قولهُ {وَاتَّبَعُواْ} هم اليهود الَّذين كانوا زمن نبيِّنا صلعم ، وقيل: هُم الَّذين كانوا في زمنِ سليمان ╕ من السَّحرة لأنَّ أكثر اليهود ينكرون نبوَّة سليمان ◙ ويعدُّونه من جملة ملوك الدُّنيا، وهؤلاء ربَّما اعتقدوا فيه أنَّه إنَّما وجد الملك العظيم بسبب السِّحر، وقيل: إنَّه يتناولُ‼ الكلَّ وهو أولى، واختُلف في المرادِ بالشَّياطين فقيل: شياطين الإنس، وقيل: هم شياطينُ الإنس والجنِّ، قال السُّديُّ: إنَّ الشَّياطين كانوا يسترقون السَّمع ويضمُّون إلى ما سَمعوا أكاذيبَ يُلقونها إلى الكهنَةِ، فدوَّنوها في الكُتب وعلَّموها النَّاس وفشا ذلك في زمن سُليمان، فقالوا: إنَّ الجنَّ تعلمُ الغيبَ، وكانوا يقولون: هذا علمُ سليمان وما تمَّ ملكُهُ إلَّا بهذا العلم، وبه سخَّر الجنَّ والإنس والطَّير والرِّيح الَّتي تجري بأمره، وأمَّا القائلون بأنَّهم شياطينُ الإنس فقالوا: روي أنَّ سليمان ╕ كان قد دفنَ كثيرًا من العلومِ الَّتي خصَّهُ الله بها تحت سريرِ مُلكه خوفًا من أنَّه إن هلك الظَّاهر منها(11) يبقى ذلك المدفون، فلمَّا مضت مدَّةٌ على ذلك توصَّل قومٌ من المنافقينَ إلى أن كتبوا في خلالِ ذلك أشياء من السِّحر تُناسب تلك الأشياء من بعضِ الوجوه، ثمَّ بعد موتهِ واطِّلاع النَّاس على تلك الكُتب أوهموا النَّاس أنَّه من عمل سليمان، وأنَّه إنَّما وصل إلى ما وصلَ بسبب هذه الأشياء، وإنَّما أضافوا السِّحر لسُليمان تفخيمًا لشأنهِ وترغيبًا للقوم في قبولِ ذلك، وقيل: إنَّه تعالى لمَّا سخَّر الجنَّ لسُليمان، وكان يُخالطهم ويستفيدُ منهم أسرارًا عجيبةً غلبَ على الظُّنون أنَّه ╕ استفاد السِّحر منهم، فقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}[البقرة:102] تنزيه(12) له ◙ عن الكُفر، وروي أنَّ بعض الأحبار من اليهود قال: ألا تعجبونَ من مُحمَّدٍ يزعم أنَّ سليمان كان نبيًّا، وما كان إلَّا ساحرًا، فأنزل اللهُ هذه الآية. قاله في «اللُّباب».
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفًا على المجرور السَّابق ({وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ}) أي: هذا الجنس ({حَيْثُ أَتَى}[طه:69]) أينما كان. وقال الرَّاغب: حيثُ / عبارة عن مكانٍ مبهمٍ يشرح بالجملةِ الَّتي بعده كقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ}[البقرة:144] {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ}[البقرة:149] (وَقَوْلِهِ) ╡: ({أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}[الأنبياء:3]) أي: أنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ الرَّسول لا يكون إلَّا ملكًا، وأنَّ كلَّ من ادَّعى الرِّسالة من البشر وجاءَ بالمعجزةِ فهو ساحرٌ ومعجزته سحرٌ، ولذا قال قائلهم منكرًا على من اتَّبعهُ: أفتأتُون السِّحر، أي: أفتتَّبعونه حتَّى تصيروا كمَن اتَّبع السِّحر وهو يعلمُ أنَّهُ سحرٌ.
          (وَقَوْلِهِ) تعالى: ({يُخَيَّلُ إِلَيْهِ}) إلى مُوسى ({مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا}) أي: العصي ({تَسْعَى}[طه:66]) لأنَّهم أودعوها من الزِّئبق ما كانت تتحرَّك بسببهِ وتضطربُ وتمتدُّ بحيث يُخيَّل للنَّاظرين أنَّها تسعى باختيارها، وإنَّما كانت حيلة وكانوا جمًّا غفيرًا وجمعًا كثيرًا، فألقى كلٌّ منهم‼ عصًا وحبلًا حتَّى صار الوادي ملآن حيَّات يركبُ بعضها بعضًا، ولا حجَّة فيها للقائل أنَّ السِّحر تخييلٌ؛ لأنَّها وردت في هذه القصَّة وكان سحرهم كذلك، ولا يلزم منه أنَّ جميعَ أنواع السِّحر تخييلٌ.
          (وَقَوْلِهِ) تعالى: ({وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}[الفلق:4]) و(النَّفَّاثَاتُ) النِّساء (السَّوَاحِرُ) أو(13) النُّفوس، أو الجماعات اللَّاتي يعقدنَ عُقدًا في خيوطٍ وينفُثنَ عليها ويَرْقين، وفيه دليلٌ على بُطلان قول المُعتزلة في إنكار تحقُّق السِّحر، وقوله تعالى في سُورة المؤمنون: ({تُسْحَرُونَ}[المؤمنون:89]) أي: (تُعَمَّوْنَ) بضم أوله وفتح المهملة وتشديد(14) الميم، وقال ابنُ عطيَّة: السِّحرُ هنا مُستعارٌ لما وقع منهم من التَّخليط ووضع الشَّيء في غير موضعهِ.


[1] في (م): «و».
[2] في (د): «حالة».
[3] في (ص): «فإن».
[4] «الواو»: ليست في (ص) و(م).
[5] في (ب): «كالألم».
[6] في (ص): «بحشرهم»، وفي (م): «فحشرهم».
[7] في (م): «أحد».
[8] في (د): «ليميز».
[9] في (ب) زيادة: «أعم».
[10] في (د) و(م): «مجوزات»، وفي (ج) و(ل): «يجوز إلى الحال».
[11] قوله: «منها» زيادة من الفتح وتفسير اللباب.
[12] في (م) و(د): «تبرئة».
[13] في (م): «و».
[14] قوله: «المهملة وتشديد»، زيادة من الفتح.